منذ صعودها الى سدة السلطة، بدت"حماس"أكثر براغماتية وواقعية ومسؤولية، الى درجة غير متوقعة، بالقياس لمواقفها الشعاراتية الشابقة، التي كانت تعزف من خلالها على العواطف وتلهب الغرائز، والتي كانت تتوخى عبرها تهييج الشارع بدل تنظيمه وإدارته، وتعزيز دورها كمعارضة في مواجهة السلطة. يلفت الانتباه في مواقف"حماس"الجديدة، أولاً، جنوحها نحو التهدئة مع إسرائيل الى حد ابدائها الاستعداد لعقد"هدنة"طويلة الأمد معها. ثانياً، تفهمها حل الدولتين وقبولها إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع. ثالثاً، تمجيدها العملية الانتخابية وآلية تداول السلطة في النظام السياسي الفلسطيني. رابعاً، دعوتها إلى إعادة بناء منظمة التحرير وتفعيل دورها وتعزيز مكانتها. خامساً، حرصها على الحفاظ على كيان السلطة، باعتباره مكسباً وطنياً للفلسطينيين. اللافت أن مواقف"حماس"هذه، والتي تعد بمثابة انقلاب سياسي على مواقفها السابقة المعروفة، جاءت جد متأخرة، ولتلبية حاجات الاستهلاك الخارجي، وتكريس الاعتراف بها بالسلطة. وهي مواقف كان من المفترض أن تأتي قبل ذلك بكثير، لتلبية حاجات الفلسطينيين الداخلية، وللاستجابة لضرورات الكفاح الفلسطيني. الأنكى من ذلك، أن هذه المواقف جاءت، في هذه المرحلة، من دون تمهيدات مسبقة، ومن دون تبريرات أو شروحات، بات الشارع الفلسطيني يطلبها، كي يستطيع هضم التحولات"الحماسية"المفاجئة. في السابق، أي فترة تزعمها للمعارضة، كان برنامج"حماس"ايديولوجياً أكثر منه سياسياً، وإسلامياً أكثر منه وطنياً، وكان يتضمن رفض عملية التسوية برمتها وضمنها خيار الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، داعياً الى الاستشهاد في سبيل تحرير كل فلسطين، مسبغاً على هذا الهدف أبعاداً دينية وقدسية وأبدية. وخلال السنوات الخمس السابقة، انتهجت"حماس"في المقاومة المسلحة نمط العمليات التفجيرية في المدن الإسرائيلية، وظلت ترفض محاولات التهدئة أو محاولات ترشيد المقاومة بتركيزها في الضفة والقطاع ضد المحتلين من مستوطنين وعسكريين، على رغم الثمن الكبير الذي دفعه الشعب الفلسطيني جراء ذلك، من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومن مكانة قضيته على الصعيد الدولي. وبالنسبة الى المنظمة، فقد حرصت"حماس"على العمل من خارجها، مشككة بشرعيتها وصدقية تمثيلها للفلسطينيين. أما الكيان الفلسطيني، الناشئ عن اتفاق"أوسلو"1993 فقد تبرأت منه"حماس"تماماً، واعتبرته مجرد كيان صوري وتابع وهزيل، وأنه مجرد محاولة لتصفية قضية فلسطين. كذلك فإن"حماس"، ومنذ بداية عملية التسوية من مؤتمر مدريد 1991، نأت بنفسها عن المفاوضات واعتبرتها بمثابة نوع من العبث، متهمة القيادة الفلسطينية الرسمية قيادة السلطة والمنظمة بالتفريط بدعوى أن إسرائيل لا تفهم لغة المفاوضات، وأن الكفاح المسلح هو الطريق لتحرير فلسطين، وأن العالم العربي والإسلامي يقف سنداً للشعب الفلسطيني في كفاحه من أجل هذا الهدف. الآن لا يعنينا من هذه المقارنة العودة الى الماضي، أو محاسبة"حماس"على مواقفها السابقة، على أهمية وضروة ذلك بالنسبة الى"حماس"وغيرها، وإنما ما يعنينا هنا هو التساؤل عن الثمن الباهظ الذي يدفعه الفلسطينيون في كل مرة جراء التنافسات الفلسطينية الضيقة والآنية، وجراء غلبة العقلية الايديولوجية والعاطفية على العقلية السياسية والواقعية عند"أبواتهم"و"شيوخهم"، وجراء استهتار قياداتهم بعواطفهم وعقولهم؟ وما يعنينا هنا، أيضاً، هو الوعي المتأخر والاضطراري بالتعقيدات المحيطة بالقضية الفلسطينية، وبواقع موازين القوى السائد، وبضرورة الأخذ في الاعتبار المعطيات العربية والدولية السائدة. على ذلك، فمن حق الشعب الفلسطيني وضمنهم ناخبو"حماس"، الذي يعاني ويضحي، أن يطرح على قياداته على اختلافها أسئلة من نوع: أين كنّا واين أصبحنا؟ لماذا تراجع الاهتمام الدولي والعربي بقضية فلسطين؟ ولماذا باتت عدالة القضية الفلسطينية موضع تساؤل على الصعيد الدولي؟ ولماذا لا ينتج الكفاح الوطني الفلسطيني منذ أربعة عقود انجازات حقيقية؟ ولماذا هذه الحركة الوطنية الفلسطينية تأكل ذاتها؟ ماذا فعلنا بالمفاوضات وماذا فعلت بنا؟ ماذا فعلنا بالانتفاضة وماذا فعلت بنا؟ هذا نموذج من بعضٍ قليل، من اسئلة ينبغي على القيادات الفلسطينية أن تجيب عليها بجدية ومسؤولية لوضع حد لهذا الاهتراء المريع بحركتهم الوطنية على مستوى الشعارات والعلاقات والمسلكيات والمؤسسات، ولوضع حد لتكرار مآسي الفلسطينيين الكثيرة وتجاربهم المجهضة وخيبات أملهم المتعددة، وحتى لا يبقى الشعب الفلسطيني مجرد حقل تجارب أو مجرد مشاريع شهادة وأضحيات على مذبح التنافسات والوصايات الفصائلية والعقليات البالية والمتخلفة والمضرة. الحاصل أن الفلسطينيين المغلوبين على أمرهم والخاضعين رغماً عنهم للوصاية الفصائلية، لم يجدوا منذ بداية تجربتهم الوطنية المعاصرة أجوبة واضحة وشفافة عن الاستحقاقات التي تواجههم، أو عن أسباب الهزائم أو العثرات التي تظل تلحق بهم، على رغم أنهم هم من يدفع الثمن الباهظ لذلك في كل مرة، وعلى رغم التضحيات الكبيرة التي يقدمونها من أجل قضيتهم. على كل، ثمة ايجابية في تغير أو تطور"حماس"من حركة ايديولوجية الى حركة سياسية، ومن حركة دينية الى حركة وطنية جامعة، فهذا التحول، ولو جاء من خلال"التوريط"، يمكن أن يسهم في انضاج حركة التحرر الفلسطينية وتطويرها، ولو كان ذلك يتم بالتدريج ووفق مصطلحات"حماس"الخاصة. * كاتب فلسطيني، دمشق.