كل الأنظار منصبة على الصينوروسيا في شبه امتحان ليس لنواياهما العميقة المدفونة في قائمة الأولويات الاستراتيجية للبلدين فحسب، وانما أيضاً لكيفية لعب كل منهما دور القيادة بمسؤولية على الصعيد الدولي. ايران ما زالت المحطة لهذا الامتحان في هذا المنعطف، أولاً للأسباب النووية، انما أيضاً بسبب تشابك الملف الايراني مع ملفات العراق وسورية ولبنانوافغانستان ومع الجيرة العربية في منطقة الخليج، وكذلك مع ما يسمى بالصراع السني - الشيعي ومع ملف"القاعدة"والارهاب. لذلك ان معظم الأفكار والاقتراحات والاستراتيجيات المتداولة إقليمياً ودولياً في شأن ايران تأخذ في حسابها البعد الصيني - الروسي الانفرادي والثنائي، وفي اطار الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن. الجديد، ان الكلام يزداد عن الحاجة الى أدوار اقليمية، كدور للمملكة العربية السعودية، مثلاً: في معالجة الملف الايراني المستعصي نووياً والنافذ سياسياً و"تدخلياً"في المنطقة. أدوار بعضها كمكمّل لأدوار اللاعبين الكبار، وبعضها كحافز على التفكير"خارج الصندوق"ليس فقط للقوى الجديدة الراغبة في الزعامة والقيادة العالمية بل للقوى القديمة التي تهزأ بالجدد في"حي"العظمة، وتخشاهم حقاً. لا أحد ينفي مدى تعقيد وصعوبة التعامل مع الملف الايراني ولا أحد يفترض أن لديه الحل السحري. ما تطمح اليه الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن - الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسياوالصين - هو نجاح أسلوب"الاقناع"تجنباً لمواجهة الخيارات الأخرى الممتدة من العزل الى العقوبات الى القصف الجوي وغيره من الخيارات العسكرية. الإدارة الأميركية في حاجة الى الصينوروسيا وفرنسا، هذه المرة، وليس فقط لبريطانيا التي تأبطت ذراعها وهي تتخذ القرار الانفرادي بالحرب في العراق رغم أنف مجلس الأمن الذي حسر الصلاحية القانونية عن تلك الحرب. هذه المرة، لن تتمكن ادارة جورج دبليو بوش من الاستهزاء بفرنسا أو من التعامل مع الصينوروسيا بعجرفة وتعال. لن تتمكن من تحقير أوروبا ولا من استبعاد الصين ولا من تحجيم الأممالمتحدة ومجلس الأمن الى مرتبة التهميش. فلقد أدركت هذه الإدارة ان الانفرادية التي أسفرت عن وضع سيء للولايات المتحدة في العراق أدت ايضاً بفرنسا والصينوروسياوالمانيا وغيرها الى الوقوف وقفة المتفرج على المأزق الأميركي بعد الاحتلال رافضة الدخول طرفاً في عملية الانقاذ. في مقابل ذلك، وجدت الإدارة الأميركية ان هناك جدوى ومنفعة وفائدة في العمل الجماعي عندما وافقت على الاسلوب الجماعي ضمن اطار قرارات مجلس الأمن لمعالجة الملف اللبناني والملف السوري. كذلك، لم تمانع واشنطن في قيام أوروبا بالدور القيادي مع ايران لأسباب متعددة، بينها ادراك حدود العمل الانفرادي عندما يتعلق الأمر بايران من ناحية، والقيود التي فرضتها السياسة الأميركية على الإدارة الأميركية والناتجة عن عدم فتح قناة حوار مباشر مع ايران لسنوات عدة من ناحية أخرى. فلقد فوتت واشنطن أكثر من فرصة لاتخاذ خطوات تؤدي الى تطبيع العلاقات مع ايران وقاومت أكثر من محاولة بعناد. وكذلك فعلت طهران عندما فوتت بدورها بعض الفرص بدلاً من البناء عليها. الولاياتالمتحدةوايران سبق وتحدثتا معاً في اطار جماعي عندما كانتا طرفاً في ما سمي بمجموعة"6+2"المعنية بافغانستان والتي ضمت جيرة افغانستان. كانت تلك الفرصة مفيدة للطرفين وللملف الأفغاني. اليوم، هناك حاجة لمبادرة جديدة من نوعها تجبر الولاياتالمتحدةوايران على الجلوس معاً وجهاً لوجه في اطار جماعي للتحدث في المواضيع الراهنة ببالغ الواقعية والجدية. هذه ليست دعوة لتطبيع العلاقات بين البلدين وانما هي دعوة لتناول الأوضاع الراهنة التي أطلقتها طهران بالقدر الذي تستحقه من خوف على المنطقة بكاملها. الاطار الجماعي يجب ان يضم بالتأكيد الصينوروسيا وفرنسا وبريطانيا كدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وكذلك دولاً أخرى من خارج الجيرة المباشرة لايران مثل المانيا. انما يجب ايضاً ان تشارك في هذا الاطار دول اقليمية في جيرة ايران مثل تركيا والسعودية وغيرهما شرط ألا تتحول المجموعة المصغرة الى حشد من الوفود فيضيع الهدف الأساسي من المبادرة وهو: التحاور الجدي في صلب ما طرحته ايران بتحركاتها الأخيرة النووية والسياسية. قد لا يأخذ مثل هذا الحديث الجماعي الأمور الى التفاهم والاتفاق لكنه قد يساهم في ايضاح أن المسؤولية جماعية في حال وصول الأمور الى درجة المواجهة. قد يؤدي الى اعطاء الفرصة لشراء الوقت بقرار جماعي، شق منه تراه طهران مفيداً لها في استراتيجية اقتناع الآخرين بتدريجية بأن لا مجال في نهاية المطاف سوى القبول بايران نووية شأنها شأن اسرائيل وباكستان والهند وكوريا الشمالية. والشق الآخر منه يراه الآخرون فرصة لاعطاء النظام الايراني فرصة لانقلاب على الذات في توجهات جديدة له تجعل التعايش معه مستحباً، وليس مستحيلاً، فيما تبقى ايران تحت الرقابة الدولية عبر الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي يترأسها الدكتور محمد البرادعي. المهم ان يتم انتزاع فتيل التصعيد والمواجهة ليس خوفاً من ايران وانما خوفاً على المنطقة. فايران قوية وقادرة على التحدي في هذا المنعطف لأنها وجدت الوقت ملائماً لها والأوراق جيدة في أياديها. لكن ايران ليست دولة عظمى ولا تمتلك الحصانة التي تحميها مما تتوعد به العالم انتقاماً. فكما هي في موقع القوة الآن، حسب تقويمها، انها ايضاً في موقع الضعف لأن ما تستمده من قوة ينطلق من اعتبارات مرحلية وليس ناتجاً عن ترتيبات استراتيجية دائمة. مغامرات طهران التي يتوعد بها الرئيس الثوري محمود أحمدي نجاد هي التي تضع ايران في موقع الهشاشة. لذلك قد ترتئي المؤسسة الايرانية التي تتولى الحكم الترحيب بمبادرة نزع الفتيل. وقد تجد ان مثل تلك المبادرة تفتح امام طهران ابواب التقدم من جهتها بمبادرات تصون لها أحلام الزعامة الاقليمية والنفوذ عالمياً. بين الدول المؤهلة للقيام بمثل هذه المبادرة الصين، وهي أكثر الدول تردداً في القيام بأي مبادرات كهذه متجنبة عمداً وكسياسة مدروسة لعب الدور القيادي في مثل هذه الأمور. انما لقد حان الوقت للكف عن الاختباء وراء التقليد إذا أرادت الصين ان تكسب الثقة النادرة بها على صعيد الرأي العام العالمي، وليس فقط على صعيد الحكومات. موضوع ايران يوفر للصين تلك الفرصة الثمينة لإبراز مؤهلات القيادة التي لديها ولاحاطة العالم علماً بأنها تأخذ مسؤولياتها الدولية على محمل الجد وبمسؤولية، ولإبلاغ الولاياتالمتحدة وأوروبا ومنطقة الشرق الأوسط ان للصين نفوذا ومصالح لا يستهان بها في الخليج النفطي. وبما ان الصين قد لا تبادر الى المبادرة، قد تكون في أيادي روسيا وكذلك الدول المجاورة لايران أدوات اقناع الصين بأهمية مثل هذه المبادرة للمنطقة. فكما لعبت بكين، وتلعب، دوراً رئيسياً في اطار جماعي لمعالجة ملف كوريا الشمالية، بإمكانها لعب دور مماثل في ملف ايران وموقعه في منطقة الشرق الأوسط. زيارة العاهل السعودي الملك عبد الله هذا الاسبوع الى الصين لا بد تطرقت الى موضوع ايران. هذه الزيارة فائقة الأهمية على أكثر من صعيد وهي تتعدى الاعتبارات الاقتصادية المهمة اذ انها أتت في وقت مميز وظروف غير اعتيادية. ولا بد ان تكون الدولتان اتفقتا على خطوات لتعزيز العلاقة مع الصين ثنائياً وعلاقة الصين بالمنطقة اقليمياً. هذا لا يعني ان دول المنطقة التي لها علاقة راسخة مع الولاياتالمتحدة قد قررت اللجوء الى الصين بهدف تعزيز المنافسة بين العملاقين، وانما يعني ان هذه الدول ترى في ملف ايران حاجة الى علاقة تكميلية بين الولاياتالمتحدةوالصين. وقد ترى ايضاً انه حان وقت التحدث مع الصين بلغة النفط والاستراتيجية البعيدة المدى التي تديرها بكين. وللتأكيد، ان اللغة التي تريدها الصين وتتداول بها في الديبلوماسية والسياسة صعب جداً فهمها، مما يساهم احياناً في اساءة قراءة المواقف الصينية ويساعد أحياناً اخرى في قراءة المواقف تماما كما قصدت بكين من دون تحملها المسؤولية المباشرة. وملف لبنان وسورية مثال على ذلك. فالبعض يعتقد ان المواقف الصينية والروسية تتبنى مواقف دمشق و"حزب الله"ايضاً بسبب قربه من ايران. هذه القراءة خاطئة تماماً، لكن الديبلوماسية الصينية والروسية تتجنبان قول ذلك صراحة وتفضلان، عملياً في بعض الأحيان، اساءة القراءة لمواقف الدولتين. البيان الرئاسي لمجلس الأمن الدولي في شأن القرار 1559 الذي طالب بانسحاب جميع القوات الاجنبية من لبنان وبنزع سلاح وتفكيك جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، صدر هذا الاسبوع بالاجماع، وهذا يعني ان ما ينطوي عليه البيان هو رسائل من الصينوروسيا الى سورية و"حزب الله"ورئيس الجمهورية اللبناني اميل لحود، وكذلك ايران بصورة غير مباشرة. والرسائل الآتية من روسياوالصين جاءت في خضم النقاش وشد العضلات عبر الحدود اللبنانية - السورية وبعد زيارة الرئيس الايراني الى دمشق وتوجه رئيس"حزب الله"السيد حسن نصرالله ورئيس مجلس النواب ممثلاً حركة"أمل"كقطبين شيعيين، الى دمشق للقاء أحمدي نجاد، وبعدما رفض الرئيس السوري بشار الأسد ترسيم الحدود بين لبنان وسورية. جاءت الرسائل لتقول للمعنيين: أنتم على خطأ. فالبيان الرئاسي الذي وقعت عليه الصينوروسيا بعث ثلاث رسائل مهمة هي، أولاً: انهما تدعمان ترسيم الحدود بين لبنان وسورية، إذ أثنى البيان على رغبة الحكومة اللبنانية المعلنة"في اقامة علاقات ديبلوماسية كاملة وتمثيل ديبلوماسي كامل بين لبنان وسورية وترسيم الحدود بين البلدين"، ودعا حكومة سورية الى"التعاون"لبلوغ هذا الهدف وغيره من الأهداف التي حددها القرار 1559. ثانياً، ان الصينوروسيا ملتزمتان بتنفيذ البند المتعلق ب"حل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها وبسط سيطرة الحكومة على كل الأراضي اللبنانية"، ذلك أن هدف اصدار البيان الرئاسي أساساً كان ابلاغ"حزب الله"أن دعم حوار الحكومة اللبنانية معه ليس أمراً مفتوحاً، بل يجب الاسراع بحسم الحوار وتسريع تنفيذ بند الميليشيات. ثالثاً، بتضمين البيان الرئاسي الاشارة الى أهمية"اجراء انتخابات رئاسية حرة ونزيهة وفقاً للقواعد الدستورية اللبنانية، ومن دون أي تدخل أجنبي وتأثيره"، بعثت الصينوروسيا رسالة الى رئيس الجمهورية اميل لحود بأن التمديد له لم يكن شرعياً، وان الحاجة الى انتخابات رئاسية لم ينسَها مجلس الأمن، بل هو مصرّ عليها. فالصينوروسيا لا تدعمان الموقف السوري الرافض لترسيم الحدود، وهما، في قرار مجلس الأمن، صادقا على"الخط الأزرق"الذي وضع مزارع شبعا داخل الأراضي السورية وليس داخل الأراضي اللبنانية. هذه الرسائل موجودة بوضوح في المواقف الرسمية الصينية والروسية، لكن الديبلوماسية الصينية والروسية لا تجهدان من أجل إذاعة هذه المواقف على الملأ. وهذا الاسلوب يطبق على إيران بقدر ما يطبق على سورية ولبنان، بل ان الملف الإيراني له انعكاساته وارتباطاته بملفي سورية ولبنانوالعراق في الديبلوماسية الهادئة المفيدة. فليس ضرورياً إذاعة المواقف طالما هي حازمة ومتماسكة. المهم أن تأتي المبادرة لأن المؤشرات الآتية من طهران، حسب مصادر وثيقة الاطلاع، هي أنها مستعدة لتقبلها ومستعدة لتناول مجمل الملفات من سورية الى"حزب الله"الى العراق كجزء من صفقة الزعامة الاقليمية والرغبات النووية المؤجلة.