روسيا والصين مطالبتان بإطار استراتيجي لسياسة كل منهما نحو منطقة الشرق الأوسط بأكثر من مجرد السماح بتمرير قرار لمجلس الأمن في شأن ليبيا، ومنع إجراءات إضافية نحو إيران، والامتناع عن دور فاعل نحو النزاع العربي – الإسرائيلي، وتحصين الأصدقاء التقليديين من المحاسبة مثل سورية. هاتان الدولتان عضوان دائمان في مجلس الأمن الدولي سوية مع الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا، والعضوية الدائمة لها امتيازات وعليها واجبات واضحة في صيانة الأمن والسلم الدوليين. وإذا كان ميثاق الأممالمتحدة وتقاليدها مرجعاً، يُفترض ألا تحتمي أية من الدول الخمس الدائمة العضوية وراء الامتناع عن التصويت والامتناع عن أدوارها القيادية على الصعيد العالمي. واشنطن ولندن وباريس تسعى وراء سياسات تتجاوب مع التغيير الذي أتى به «الربيع العربي» وإن كانت ما زالت بعيدة عن رسم أطر استراتيجية واضحة لسياساتها كما ما زالت تتردد في تنفيذ التزاماتها. الدول الغربية الثلاث، بالتأكيد، تعاني من ازدواجية المعايير في أكثر من ملف وحالة لكنها ليست في حال الامتناع الذي تختبئ وراءه روسيا والصين. الدول الثلاث الغربية تزعم أنها استمعت الى الشعوب العربية وأنها في صدد استبدال سياساتها القديمة القائمة على الشراكة مع الحكومات حصراً بسياسة جديدة قوامها الشراكة مع الشعوب وليس فقط الحكومات. الدولتان الآسيويتان ذات الخلفية الشيوعية زعمتا الشراكة الشعبوية أساساً رئيساً لسياسة كل منهما، على رغم أنهما عملياً حاكتا علاقاتهما مع الحكومات حصراً على أساس المصالح الاستراتيجية والاقتصادية والنفطية – شأنهما شأن الدول الغربية. اليوم، إن منطقة الشرق الأوسط تتحدى روسيا والصين لإيضاح ملامح سياستهما الاستراتيجية، الآنية والبعيدة المدى على السواء، في خضم التغيير كما في أعقابه. والملفات كثيرة لا تقتصر على علاقة الدولتين بالملف الإيراني من ناحية طموحات إيران النووية، مثلاً. ذلك أن العلاقة الخليجية –الإيرانية تمر في إحدى أصعب وأخطر مراحلها، ومواقف الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن من إيران فائقة الأهمية يجب إيضاحها وإعادة النظر فيها على ضوء أحداث المنطقة. كذلك عندما يتعلق الأمر بانتفاضة الشعوب العربية ضد الأنظمة التي استبدت بها والتي تواجه انتفاضات الشعوب بالقمع وليس بالإصلاح. روسيا والصين سمحتا بتمرير قرارات سابقة لمجلس الأمن في شأن ليبيا، فجاء الاحتفاء بهما عارماً. ثم بدأ التراجع في المواقف، أو الصمت الرهيب، وبدأ معهما التساؤل عما إذا كانت القيادتان الروسية والصينية راغبتين في تثبيت الأوضاع التي كانت قائمة قبل «الربيع العربي» في أماكن مثل إيران واليمن وسورية وربما حتى في ليبيا، أي ضد الشعوب وطموحاتها، ومع القمع كي لا يأتي التغيير. سبق وأسفرت السياسة الروسية والصينية عن تشجيع المكابرة بما ساهم في ارتكاب أخطاء فادحة أدت الى تدمير بلاد. أسطع مثل على ذلك هو مواقفهما من تحديات الرئيس العراقي السابق صدام حسين المنبثقة من المكابرة وعن وضع النظام في مرتبة الأولوية على البلد. فبدلاً من تنوير الصديق الى عواقب مواقفه وإيضاح ما هو آتٍ عليه، لعبت روسيا – ومعها الصين الصامتة – دوراً وجدتاه في مصلحتهما أدى عملياً الى تضليل الرئيس العراقي وإلى تقديم العراق فدية للتضليل والمكابرة وإساءة الحسابات. حدث ذلك على مدى سنوات عدة قبل الغزو والاحتلال الأميركي للعراق. فلقد حجبت الدولتان عن إدارة جورج دبليو بوش شرعية صلاحية استخدام القوة العسكرية في العراق لكنهما لم تكونا بمفردهما حينذاك. فالدول المنتخبة هي التي حجبت تلك الصلاحية عن مجلس الأمن بالقدر نفسه، إذ لم يلقَ مشروع القرار دعم التسعة أصوات اللازمة لتبني أي قرار. روسيا والصين كادتا تكرران الخطأ نفسه في شأن إيران لكن الرئيس باراك أوباما جاء باستراتيجية نحو إيران تشابه استراتيجيتهما: الترغيب بكثير من الجزر وإغداق الحوافز والمكافآت، والتلويح بعصا عوجاء. عندئذ، تمكّن الرئيس الأميركي من تحقيق أحد أهم إنجازاته، أي، حشد إجماع الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن وراء استراتيجية موحدة إزاء إيران. تلك الاستراتيجية ما زالت تتأرجح على إيقاع ما تمليه إيران، على رغم العقوبات. حتى قمع السلطات الإيرانية للإصلاحيين والمدنيين الذين خرجوا في تظاهرات سلمية لاقى القليل من الاستنكار. وما زالت الدول الخمس تقبع في الانتظار، مع تفاوت الدرجات. فروسيا والصين في صدارة التخويف من تدمير الإجماع إذا كثّفت الدول الغربية الضغوط على طهران. وهما بالتالي تقفان مع النظام ضد طموحات الإصلاح والتغيير. السكوت على التدخل الإيراني في شؤون الدول العربية المجاورة وغير المجاورة هو أيضاً دليل على الشراكة الروسية – الصينية ضد الشعوب، وأحياناً ضد سيادة الدول. العراق مثال حي على التدخل الإيراني الواضح، إنما هناك، لربما ترى روسيا والصين أن هذا ما جنته الولاياتالمتحدة وبريطانيا في اجتياحهما العراق واحتلاله ثم تسليمه الى النفوذ الإيراني. إنما في لبنان، حيث تلعب إيران دوراً مباشراً عبر «حزب الله» ضد سيادة الدولة اللبنانية وتبني قاعدة عسكرية تمولها بترسانة ضخمة، تكاد مواقف الدول الغربية الدائمة العضوية في مجلس الأمن تشبه مواقف روسيا والصين، لو لم تتحرك واشنطن أخيراً. فالصين تتبنى سياسة «لا شأن لي» في الملف اللبناني ومعه الملف السوري وتترك مقعد القيادة في الملف الإيراني أيضاً لشريكها الروسي. أما روسيا فإنها تظاهرت بأن دعمها ل «حزب الله» يأتي في إطار معارضة التجاوزات الإسرائيلية وانتهاكاتها للسيادة اللبنانية، في الوقت الذي كان عليها الوقوف مع سيادة الدولة اللبنانية قطعاً إن كانت التجاوزات إسرائيلية أو سورية أو إيرانية أو على أيادي «حزب الله». مواقف روسيا، كما مواقف فرنسا، نحو سورية ونحو إيران ساهمت في تمادي النظامين في دمشقوطهران في تقويض سيادة الدولة اللبنانية. مواقف الولاياتالمتحدة نحو إسرائيل ساهمت في تماديها في انتهاك السيادة اللبنانية أيضاً. أما بريطانيا، فإنها في هذه الحالة تبنت موقف الامتناع عن الخوض في ملف لبنان وكأنه «صغير» عليها. هذا الأسبوع صدر تقرير للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون مهم في فحواه ودلالاته ويتطلب من الدول الخمس التنبه إليه وإلحاقه بإجراءات استباقية قبل فوات الأوان. قال إن رياح التغيير التي تهب بالمنطقة العربية يجب ألا تعمي عن الخطر الكبير الذي يحدق بلبنان، وأن على الأسرة الدولية والبنية الإقليمية أن تقوم بواجباتها حرصاً ليس فقط على الأمن والسلم في لبنان وإنما في المنطقة أجمع. دعا بان كي مون الى حشد الجهود لنزع سلاح جميع الميليشيات في لبنان – الفصائل الفلسطينية التابعة لدمشق و «حزب الله» الذي أعلن ولاءه لإيران. قال إن نزع هذا السلاح عبر عملية سياسية هو الحل المفضل لكنه ليس وارداً ما لم تساهم فيه سورية وإيران. لا سورية ولا إيران ستبادر الى ذلك طوعاً ولا هما في وارد التجاوب ما لم تسمعا من روسيا والصين أنهما عازمتان ومصرّتان على كف النظامين عن تسليح هذه المجموعات. على روسيا والصين الإيضاح أنهما على استعداد للدخول في إجماع مع الدول الأخرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن لتبني قرار ينطوي على إجراءات. عليهما أن تفعلا ذلك لأن عضويتهما الدائمة في مجلس الأمن تلزمهما بالحفاظ على الأمن والسلم الدوليين. كذلك عندما يتعلق الأمر بالنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، لا يجوز للصين الاستمرار في الامتناع عن الاهتمام بهذا الملف، كما لا يجوز لروسيا أن تستمر في التظاهر بأنها مهتمة. فالمرحلة الراهنة مرحلة إعداد إما لانفراج واختراق كبير في صنع السلام الفلسطيني – الإسرائيلي أو لانزلاق خطير في العملية السلمية. واجب روسيا أن تلعب دوراً رائداً الآن شأنها شأن بريطانيا وفرنسا نيابة عن الاتحاد الأوروبي، لا سيما أن روسيا والاتحاد الأوروبي والأممالمتحدةوالولاياتالمتحدة هي أطراف «اللجنة الرباعية» المعنية بصنع السلام في الشرق الأوسط. الرئيس الأميركي يبدو محشوراً في زاوية الاختيار بين إجراءات تجميلية هدفها الحؤول دون تنفيذ السلطة الفلسطينية وعدها بالتوجه الى الأممالمتحدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وبين مبادرة جريئة يوضح بموجبها التصور الأميركي لنتيجة المفاوضات كي لا تستمر فقط كمجرد عملية سلام. إنه في حاجة لمساهمة جذرية وجدية من روسيا وأوروبا تدعمه في الجرأة بعيداً عن الإجراءات التجميلية التي سترتد عليه. فصنع السلام الحقيقي على أساس حل الدولتين ليس فقط في المصلحة القومية الأميركية. إنه في صلب الأمن والسلم الدوليين. وصنع السلام هذا يتطلب بالتأكيد سلاماً سورياً – إسرائيلياً قائماً على الانسحاب الإسرائيلي من الجولان المحتل تنفيذاً لما تم الاتفاق عليه في عهد اسحق رابين قبل أن يتراجع عنه إيهود باراك. هنا أيضاً حان الوقت لدور فاعل لأوروبا ولروسيا وليس فقط للولايات المتحدة. إنما استمرار الاحتلال الإسرائيلي للجولان أو صنع السلام السوري الإسرائيلي ليسا المسؤولية الوحيدة الملقاة على أكتاف الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن. فالقمع الذي يتعرض له المتظاهرون المطالبون إما بالإصلاح أو بتغيير النظام في دمشق يشبه القمع الذي تعرض له الليبيون عند بدء انتفاضتهم. ولا يجوز للدول الخمس الاستمرار في التظاهر بأن هذا ليس من شأنها. والكلام بالذات هو عن الدول الغربية التي تبدو في حال استعداد للإعفاء عندما يتعلق الأمر بالنظام في سورية بحجة أن جامعة الدول العربية لم تتحرك في الشأن السوري كما تحركت في الشأن الليبي وحشدت مجلس الأمن وراء إجراءات. الشعب الليبي استحق بالتأكيد التقدير العالمي لجرأته على النهوض وهو الشعب الذي تعمّد النظام كسره وترويضه وتخويفه لدرجة الإخضاع. كذلك الشعب السوري يستحق بالتأكيد المؤازرة العالمية له لجرأته على النهوض، وهو الشعب الذي اضطر للخضوع بإمرة العنف والرصاص والتخويف. بان كي مون على حق بقوله إن «ثقافة التخويف» بالسلاح تشكل انتهاكاً لحقوق الإنسان ويجب على الأسرة الدولية أن تضع حداً لها، سواء أتت على أيدي ميليشيات أو أنظمة. فالشعوب تنهض ضد سلاح التخويف. ولقد حان للدول الكبرى أن تتجرأ على ممارسة واجباتها بدلاً من الانصياع للخوف والرضوخ أمام التخويف.