كلما صدر كتاب عن"المستشرقة"ايزابيل ابرهارت، توقع قراؤها ان يلقي هذا الكتاب مزيداً من الاضواء على الناحية الغامضة او"السرية"من حياتها القصيرة، وشخصيتها المثيرة. فهذه"الكاتبة"التي رحلت في السابعة والعشرين من عمرها في ميتة مأسوية تشبه الانتحار ما زالت حتى الآن، تشغل قراءها، وهم أصلاً قلة قليلة، سواء في فرنسا، أم في العالم العربي، مثلما تشغل المهتمين بالادب الاستشراقي، على رغم انها لم تول الناحية الاستشراقية أي اهتمام، مكتفية بالكتابة عن المغرب العربي وخصوصاً الجزائر في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. والمغرب العربي هذا لم يعن لها سوى الصحراء التي سحرتها والاسلام الذي اعتنقته ولقيت فيه ديناً ووطناً، هي التي وجدت نفسها مقتلعة بلا هوية ولا جذور. اما احدث الكتب الصادرة عنها فهو كتاب"ايزابيل الصحراء"دار غراسيه، باريس للكاتبة الفرنسية ادموند شارل - رو، التي تحمست لها ولأدبها وتابعت قضيتها وكتبت عنها اكثر من كتاب. ولعل ما يثير الاستغراب عربياً هو عدم ترجمة أي من كتبها او مذكراتها ونصوصها الى لغة"الضاد"، وكذلك اغفالها أدبياً وعدم الكتابة عنها مثلما يليق بها، هي الكاتبة الفتية التي جذبتها الصحراء العربية روحياً وأدبياً فكتبت عنها نصوصاً بديعة، ذات بعد صوفي واضح كل الوضوح. وقد لا يكون مستغرباً ان تشبه هذه الكاتبة الشاعر رامبو الذي لجأ الى العالم العربي والشرقي بحثاً عن ذاته الضائعة، وعن السحر البدائي الذي تلمّسه في عمق الصحراء. كان رامبو مثالها الذي تجهله وكان الاقرب اليها، مع انها لم تقرأه بل قرأت بودلير وعادت اليه مراراً. وعلى غرار رامبو"قرينها"انتعلت"نعالاً من ريح"واجتازت زمنها بخفة، منتمية الى"عصر"الرياح والرمل. كتب القليل عن ايزابيل بالعربية وما كتب لم يتعد بضعة مقالات عن حياتها الغريبة، اما نتاجها فلا يزال مجهولاً في العالم العربي. وهي لا تمكن الكتابة عنها بعيداً من نتاجها. فحياتها الحقيقية واسرارها انما تكمن في ما دوّنت من يوميات، وما كتبت من نصوص ذاتية وصوفية ومن قصص ومشاهدات. ومثلما ظلمت في العالم العربي ظلمت سابقاً في فرنسا والعالم الفرنكوفوني، وأثار نتاجها سجالاً واسعاً، خصوصاً بعد ظهور اعمالها في العام 1906 أي بعد سنتين على وفاتها في الجزائر. هاجمها بعض الكتاب بقسوة وعنف، ومدحها بعضهم أيما مديح. وظل السجال قائماً حولها قرابة ربع قرن. وما ان مضت تلك السنوات حتى غرقت في ما يشبه النسيان، الى ان اعاد بعض الكتاب والمؤرخين الفرنسيين اكتشافها في المرحلة الاخيرة وصدرت اعمالها الكاملة في مجلدين دار غراسيه، باريس. حال الاقتلاع قد يتمثل"مأزق"ايزابيل ابرهارت وربما مأساتها في حال"الاقتلاع"التي عاشتها منذ ولادتها وحتى موتها. فهي بلا جذور ولا أب ولا هوية. وعندما ولدتها أمها في جنيف العام 1896 منحتها اسمها العائلي: ابرهارت. وكانت الام روسية من اصل الماني، هجرت زوجها وانتقلت الى نابولي ثم الى جنيف مع اطفالها. وكانت على علاقة براهب روسي ارميني وانجبت منه ابناً. لكنها لم تحدد الرجل الذي انجبت منه ايزابيل، بعدما هجرت الراهب واقامت علاقات عابرة... وبعد حياة قصيرة داخل عالم المهاجرين الروس في جنيف انتقلت الام وابنتها الى الجزائر واقامت في مدينة بونة. وهناك توفيت الام العام 1897 ودفنت في المقبرة الاسلامية باسم عربي هو فاطمة المنوبية. وبعد رحيل الام غدت ايزابيل وحيدة. ويمكن اعتبار هذا التاريخ بداية الحياة الاخرى او الجديدة التي عاشتها ايزابيل متشردة وهائمة في عالم الجزائر والصحراء.، وتقول في هذا الصدد:"انني وحيدة، زاهدة في الدنيا، مجهولة، غريبة، في موطني الذي هو كلّ مكان...". سيرة ايزابيل ليست حافلة بالكثير من الوقائع والاحداث، فهي كانت في العشرين عندما بدأت"حياتها"الجديدة بُعيد رحيل والدتها، ولم يكن امامها سوى سبع سنوات لتعيش مغامرتها"الصوفية"كما تعبّر الكاتبة ادموند شارل رو، وتعتنق الاسلام، وتكتب المقالات والنصوص، واليوميات والقصص، ولتتزوج مرتين وتتنكر بزي رجل، وتموت اخيراً موتها المأساوي. وان فشل زواجها الاول من شاب تونسي بسرعة، فان زواجها الثاني من الجزائري سليمان اهني كان اشد"استقراراً"في حياة عاصفة ومضطربة. لكنها، على رغم شخصيتها البوهيمية، لم تنج من التهم التي اطلقت عليها جزافاً. فالفرنسيون اتهموها بانها تعمل لمصلحة الاستخبارات الالمانية، والالمان اتهموها بدورهم بأنها تعمل لمصلحة الفرنسيين. واتهمها العرب بأنها تعمل لمصلحة الغرب. وفي العام 1901 طردتها السلطات الفرنسية خارج الاراضي الجزائرية، فسافرت الى مرسيليا، ولم تلبت ان عادت مع زوجها الجزائري سليمان أهني. لكن التهم التي كيلت لها احاطتها بهالة سرية وزرعت الالغاز في سيرتها. وحتى الآن لم تكشف اسرار هذه الفتاة التي أخلصت لاسلامها، وهو الدين الوحيد الذي اعتنقته في حياتها. واخلصت ايضاً للجزائر والجزائريين من خلال المقالات والتحقيقات التي كتبتها لبعض الصحف الفرنسية، في الجزائروباريس. الا ان من يقرأ اعمالها يدرك للحين ان هذه الفتاة الغريبة يستحيل عليها ان تعمل لمصلحة أي دولة أو نظام وان ارتبطت بصداقة عابرة بجنرال فرنسي. فهي لجأت الى الجزائر باحثة عن ذاتها في حياة صحراوية، بدائية وصافية، وهرباً من حضارة الغرب القاسية والمجحفة في حق الانسان، خصوصاً عشية الحرب الاولى. جاءت الى هذا العالم الاسلامي باحثة عن"ليالٍ مقمرة، صافية وصوفية"، كما تعبّر، وناشدة"السلام الداخلي العميق واللامتناهي". رفضت ايزابيل ابرهارت النظرة"الاستشراقية"التي كانت سائدة في الغرب وكتبت نصوصاً ابداعية صرفة، ومقطوعات نثرية بديعة ذات طابع وجداني وصوفي، وبدت تميل الى النزعة الرومنطيقية التي تحتفل ب"الذات"الانسانية وتتغنى بالموت والألم والأسى والغربة والعزلة. اما مقالاتها السياسية فكانت تدافع عبرها عن الناس البسطاء والفقراء، وتصور المناطق الفقيرة والبائسة في الجزائر. وكانت تعد نفسها ابنة هذا العالم الذي التزمت قضاياه وشجونه، وهذا ما اغاظ السلطات الفرنسية تحديداً. تكتب ايزابيل عن وحدتها قائلة:"كنت وحيدة، وحيدة في هذه الزاوية المفقودة من الارض المغربية، وحيدة حيثما كنت، حيثما عشت، ووحيدة حيثما اذهب، دوماً. لم يكن لي وطن ولا منزل ولا عائلة.. لقد عبرت مثل الغريبة..". اما عن الموت فتقول:"الموت نفسه لا يخيفني. انني اخاف فقط من الآلام، الآلام الطويلة وغير المعقولة". وتضيف:"لعله مكتوب لي، لعله قدري ان اموت هنا، في الصحراء الشائبة، لا يد لطيفة تمتد فوق عينيّ الجامدتين". الا ان موتها كان اشبه بالانتحار، فهي قضت غارقة في الوحل في العاصفة الماطرة التي وصفت ب"الطوفان"وقد جرفت البيوت والحقول.. ويقال انها لم تحاول انقاذ نفسها مثلما فعل زوجها ومواطنون كثيرون. لكن دفاترها وكراساتها انقذت من الغرق، وإلا لكان ضاع لها كل أثر. الكائن الصوفي يصعب على قارئ ايزابيل ابرهارت ان يصدّق الاخبار الملفقة حول عملها السياسي السري، فهي كانت اضعف من ان تؤدي مثل هذه المهمة. كانت اشبه ب"الكائن"الصوفي الذي لا علاقة له بالعالم المادي:"انني لا أحسّ نفسي منجذبة الا نحو الارواح التي تكابد هذا الألم الرفيع والخصب الذي يدعى عدم الرضا عن النفس، والعطش الى المثال، الى الشأن الصوفي والمرغوب فيه، الذي يجب ان يلهب ارواحنا، ويرفعها نحو الكواكب المهيبة في الماوراء". وعاشت ايزابيل حياة فقر وزهد وتقشف على رغم فرحها بهذه"الارض"الصحراوية حيث يضحي المستحيل ممكناً واللامرئي مرئياً. تقول:"الشتاء سيكون قاسياً هنا، بلا نار ولا مال.. لكنني لا ارغب البتة في هجر هذه البلاد الغريبة". لم يدفع الفقر ايزابيل على التخلي عن الكتابة وعلى البحث عن المال، لكنها لم تحلم كثيراً في انها ستصبح كاتبة مشهورة ذات موقع في عالم الادب. ولم يكن لها خلال حياتها القصيرة ان تحظى بأي شهرة، وما نشرته لم يتعدّ الصحف الفرنسية الصغيرة. وعندما ادركت قدرها راحت تكتب نصوصاً ذاتية جداً ورسائل تحمّلها لواعج نفسها وآلامها ومكابداتها التي تشبه مكابدات الصوفيين. وكانت لها اكثر من حياة او حياة واحدة ذات وجوه متعددة. حياتها الواقعية عاشتها كامرأة ورجل. فهي تنكرت في بعض المرات بزي رجل، مرتدية البرنس وحاملة اسم محمود سعدي. وبهذا الاسم كتبت نصوصاً كثيرة مستخدمة صيغة المذكر وكأنها رجل حقاً. لكن اسلوبها في مثل هذه النصوص لم يختلف عن اسلوبها العام، وغدت في احيان اشد رقة وشفافية وشجواً، كأن تكتب مثلاً:"انني بعيد عن العالم، بعيد عن الحضارة ومهزلاتها المخادعة. انني وحدي في ارض الاسلام، في الصحراء...". وتقول في مقطع آخر:"لا أعلم شيئاً عن ذاتي وعن العالم في الخارج، لا شيء... انها ربما الحقيقة الوحيدة". وتقول ايضاً في هذا السياق:"هو قلبي، الذي كان في ذلك النهار، خاوياً وقاتماً. هي نفسي التي اصبحت غريبة عن البهاء الحميم". ويرى الباحثان ماري اوديل دولاكور وجان رينه اولو في تقديمهما كتابها"كتابات حميمة"ان تنكرها في شخصية محمود سعدي يعود الى رغبة داخلية لديها في"اختراع"أو"ابتداع"حالة مشهدية لشخصها وحياتها الخاصة، لا سيما انها كانت تشكك في نفسها، كابنة بلا أب وكمواطنة بلا هوية. وكانت اقرب الى الكائن المنقسم الذي يسعى الى تحقيق كلّيته، مدركة كيف عليها ان تذهب الى الآخر الذي بدأت تراه في نفسها. من تراها كانت تلك الفتاة العشرينية عندما عبرت الهاوية التي تفصل بين الغرب والشرق؟ هل هي امرأة أم رجل كما حاولت ان تكون لاحقاً؟ إلا ان باحثين آخرين رأوا في هذا التنكر حالاً من الشوق الى شقيق لها لم يبصر النور، فاخترعته وكانت اياه وكأنه من أبيها المجهول وأمها. الغريبة المهتدية اعتنقت ايزابيل ابرهارت الاسلام عن قناعة هي التي لم تتلق أي تعليم ديني في حياتها"السابقة". وعندما وصلت الى الجزائر اكتشفت الاسلام من خلال تعرفها الى الحياة البسيطة للجزائريين، هذه الحياة المطبوعة بالتدين والورع، وبالجمال والزهد. وعندما اصبحت مسلمة لم تتمالك عن وصف الاسلام ب"اجمل دين في العالم". وقد وجدت في الاسلام ديناً ووطناً. ولم تلبث ان تعرفت الى الصوفية بعدما استقبلها شيوخ الفرق الدينية بتسامح كبير، وسميت ب"الغريبة المهتدية". وافتتنت ايزابيل كما تدل نصوصها، بمقولة"القدر"أو"المكتوب"حيث الخضوع يبدو"فضيلة"، فيها الكثير من العزاء. لكن صوفيتها ظلت ذاتية وغير عقائدية وعاشتها بروحها وجسدها وبحرية تامة، هي الحرية التي تتيحها الصحراء، في ما تحمل من احساس بالمطلق والمجهول. وتخطت ايزابيل الحواجز التي كان لها ان تحول دون حريتها المطلقة، وراحت تكتشف مداها الروحي، ساعية الى تحقيق رغبتها في الاندماج بالماوراء. عندما هجرت ايزابيل ابرهارت جنيف او العالم الغربي في العشرين من عمرها كانت تدرك انها لن تعود اليه ابداً. فهي لم تهجر الغرب فقط بل ماضيها ايضاً، طفولتها وذكرى ابيها المجهول، والاثم الذي ارتكبته امها، وصورة العائلة الممزقة والمجتمع المتصنع الذي لا يستطيع احتواء"رغبات"فتاة تسعى الى"اختراع"نفسها لتتمكن من الحياة او من مواصلة الحياة. وهكذا استطاعت هذه الفتاة الغريبة و"ابنة الزنا"ان تصبح ابنة العالم واصبح العالم الذي لا حدود له هو عالمها الحقيقي والغامض في الحين عينه. وكانت قبل رحيلها عرفت عن كثب في جنيف حركة"العدميين"الروس الشباب، واطلعت على افكارهم التي لم تجذبها، وآثرت هجر الاساطير"المقننة"، اساطير التقدم والارتقاء والعلم والمادية التي كان يشهدها العصر الاوروبي حينذاك. تصعب الاحاطة بعالم ايزابيل ابرهارت وبنصوصها البديعة وادبها الخاص، فحياتها تندمج في كتابتها، واعمالها مرآة لحياتها المزدوجة، الواقعية والروحية. ويشعر قارئها ان عالمها الادبي عصي على التصنيف، فهو، وان لم يتخط المجلدين، يتسع حتى ليصبح مساحة شاسعة من الاحلام والاحاسيس، من المطلق والشغف، من التصوف والجمال، من الالم والاسى، من الفرح الداخلي والهوى.. في الظل الأزرق لليل ثمة حق، ينشغل بعض المثقفين بالمطالبة به، هو الحق بالترحّل والتشرد. الا ان التشرد هو الانعتقاق، والحياة على الطرق هي الحرية. المتسكع يملك كل الارض الواسعة التي حدودها هي الافق اللاواقعي. كانت تلك الساعة المصطفاة، الساعة الخارقة... عندما تميل الشمس الكبيرة النيرة الى الغروب، تاركة الارض تستريح في الظل الازرق لليل. الصحراء الشاسعة تبدو كأنها تستعيد حلمها الكئيب، حلمها الابدي. حتماً، في النهاية هناك الصمت وهناك القبر. ماذا يمكني ان اقول عن مغيب الشمس في الصحراء؟ ماذا يمكنني ان انشد؟ من اين آتي بالكلمات الكافية لأدوّن بهاء هذا المغيب، لاعبّر عن سحره وكآبته، عن سره؟ لا شيء يعادل، في البهاء والسر، الليالي المقمرة في صحراء الرمل. ثلاثة امور يمكنها ان تفتح عيوننا على الفجر الساطع للحقيقة: الالم، الايمان والمحبة ? كل المحبة. "انني اجد هنا، ذاك الاحساس بالصمت المطلق الذي طالما هويته، وبالسلام الرحب الذي لا يعكره شيء البتة. اشعر بهدوء لا متناه ينزل في معتكر روحي المتعبة. الرقة تأتي من ذاتي. هنا وجدت، تسيّرني قوة غامضة، ما كنت ابحث عنه، واتذوق الشعور بالراحة السعيدة في ظروف يرتجف آخرون فيها سأماً. ان اكون وحيدة، يعني ان اكون حرة، والحرية كانت السعادة التي توافق طبيعتي. هبّ عصف دافئ ناحية الغرب، عصف حمّى وقلق. رأسي المتعب سقط على المخدّة من جديد، جسدي كان يفنى في خدر مثير، واعضائي تمشي خفيفة وكأنها رخوة. العالم يجري نحو القبر مثلما الليل يجري نحو الفجر. أي عزاء يكاد يبلغ النشوة، عندما تهبط الشمس، عندما تمتد ظلال النخيل والجدران، زاحفة ومطفئة آخر الاضواء على الارض. احسب مرة اخرى، انني بدأت اتوه في عالم يفوق الوصف، في ذلك العالم من الاشياء، الذي احسه والذي افهمه بوضوح ولكنني لا اعرف كيف اعبّر عنه. انني لا آسف على شيء ولا ارغب في شيء... انني انتظر. "متى تدق اخيراً ساعة التحرر، ساعة الراحة النهائية؟ ايزابيل ابرهارت عن الفرنسية