اكتشاف ثلاث لوحات مائية مجهولة للشاعر الفرنسي أرتور رامبو قد يكون حدثاً فرنسياً بامتياز. ولكن أن يكون الشاعر رسمها سنة 1887 في لبنان مستوحياً بعض المشاهد الطبيعية فالحدث قد يصبح لبنانياً أيضاً. فالشاعر رامبو لم يُعرف كرسام إلا بالحبر الأسود والقلم الرصاص، وليس بالألوان المائية. أما زيارته الخاطفة الى لبنان فهي مجهولة تماماً ولم توردها المراجع المعروفة، ومنها مثلاً سيرة رامبو التي ضمّتها أعماله الكاملة في منشورات "لابلياد" الأهم أدبياً. اللوحات الثلاث اكتشفها مصادفة الكاتب الفرنسي جان لوك باران في أحد الأقاليم الفرنسية قبل سنة. كان يزور احدى صالات العرض في تلك المنطقة النائية عندما شاهد لوحة قديمة لفته فيها أكثر ما لفته، توقيع صاحبها: أ. رامبو. وخلف اللوحة هذه خبئت لوحتان أخريان تحملان التوقيع نفسه. وكان عليه أن يبحث في القواميس التشكيلية عن الحرف الأول أ. رامبو ليدرك من هو هذا الرسام الذي يحمل اسم الشاعر - الأسطورة. وحين لم يجد أي اسم اشترى اللوحات فضولاً وولعاً بهذا التوقيع الغريب. وبعد سنة من التحقيق في باريس استطاعت احدى المؤسسات المتخصّصة بالتواقيع أن تتعرّف إلى التوقيع: جاءت الإفادة الرسمية تؤكد انه توقيع الشاعر أرتور رامبو. كان ذلك في شهر أيار مايو الفائت. ولم تمضِ فترة قصيرة حتى صدر كتاب جان لوك باران مكتشف اللوحات مع كريستيل لوكيه وعنوانه "رامبو مجنحاً" وبين دفتيه اللوحات الثلاث مرفقة بنص يشرح كيفية اكتشافها والتاريخ. واللافت أن احدى اللوحات نشرت بالألوان، وقد حملت فوق التوقيع وبخط رامبو اسم البلدة اللبنانية "بيت مري". وما يضفي المزيد من الصدقية تبني "متحف ومكتبة أرتور رامبو" اللوحات والكتاب. يكتفي جان لوك باران بالإشارة الى أن رامبو أقام في بلدة بيت مري "تلك الرابية من روابي بيروت"، كما يقول، ويرجّح أنّ الشاعر الذي وجد نفسه بلا مال، اضطر إلى رسم تلك اللوحات وبيعها ليوفر مبلغاً ما. لكن مثل هذه المعلومة لا تشفي غليل الباحثين وقراء رامبو، ولا تجيب عن الأسئلة التي ترد الى الأذهان فوراً: هل جاء رامبو حقاً الى بيروت؟ ماذا جاء يفعل؟ من أي بلد جاء والى أي بلد رحل؟ كان من الصعب ايجاد أجوبة عن هذه الأسئلة. فرامبو أولاً لم يرسل أي رسالة من بيروت على غرار الرسائل الكثيرة التي بعث بها الى أمه وأخته وبعض أصدقائه والمؤسسات التي عمل معها. كتب من عدن وهرر ومرسيليا وحتى من القاهرة وقبرص لكنه لم يكتب أي رسالة من بيروت. بل هو لم يذكر بيروت في أيّ من رسائله. أما المراجع والمصادر المعروفة والمتوافرة فلم تأتِ بدورها على ذكر اقامته في بيروت. المرجع الوحيد وربما اليتيم الذي أشار الى تلك الرحلة - عَرَضاً - هو كتاب الناقد الفرنسي بيار بوتي فيس وعنوانه: "رامبو، سيرة 1854 - 1891" وهو عبارة عن سيرة مفصلة وموثقة وشاملة لهذا الشاعر - الأسطورة. إلا أن المؤلف لا يورد رحلة رامبو الى بيروت إلا في مقطع يتيم في القسم الأخير من كتابه، مشيراً الى أن رامبو قرّر في نهاية أيلول سبتمبر 1887 أن يذهب الى سورية ليبتاع أربعة بغال قويّة ويعود بها الى شوا التي تندر البغال فيها. وكانت القوافل التي يقودها في تلك الفترة محمّلة بالسلاح والذخيرة وكانت تحتاج الى البغال لاجتياز الصحارى والمناطق المقفرة. لكنّ سفره الى سورية اقتضى عليه الحصول على جواز سفر من القنصلية الفرنسية في بيروت. ويقول المؤلف ان وثيقة السفر تلك عثر عليها، وهي لا تخلو من التشويق في ما تذكر عن رامبو الطول: متر وثمانون سنتم. وعلى رغم حصوله على الجواز عدل رامبو عن السفر الى سورية وسافر من بيروت الى عدن. هذا ما يورده الناقد الفرنسي بيار بوتي فيس عن رحلة رامبو الى بيروت. فهو لم يشر الى رسم رامبو تلك اللوحات ولا الى علاقاته بالناس ولا يذكر كم قضى هناك من أيام وما الذي قاده الى "رابية" بيت مري ولا من أي مدينة جاء الى بيروت. ومن المرجح أنّه جاء الى بيروت من القاهرة، إذ ان سيرته المفصلة كما أوردتها طبعة "لابلياد" تؤكد أنه قصد القاهرة في 20 آب أغسطس 1887 ليمكث فيها بضعة أسابيع. ثم تنقطع السيرة هنا لتشير الى أنّه دخل عدن في 8 تشرين الأول أوكتوبر من العام نفسه. لكن أمر احتياج رامبو الى المال في بيروت يظل مبهماً. فسيرته في "لابلياد" تشير الى انه أودع مالاً في مصرف "الكريدي ليوني" في القاهرة قبل أشهر. ويجب عدم اغفال أن من عادة رامبو في تلك الأيام أن يحتفظ بماله في المصارف وأن يعيش بما تيسّر، وكان في أحيان يطلب من أمّه أن ترسل اليه بعض المال عوضاً من أن يأخذ من ماله المودع في المصارف. أما اللوحات المكتشفة حديثاً فهي ليست غريبة عن المناظر اللبنانية سواء بجوّها الطبيعي أم بغنائيتها اللونية، وإذ حملت إحداها اسم "بيت مري" فوق توقيع رامبو فإن كلاماً بالعربية كتب على قفاها. حدث فرنسي اكتشاف تلك اللوحات أم حدث لبناني، أم تراه حدثاً "رامبوياً" أولاً وآخراً؟ هذا السؤال لا بدّ من طرحه على وزارة الثقافة اللبنانية التي تشارك في الاشراف على المؤتمر الفرنكوفوني الذي يُعقد في بيروت بعد أسابيع قليلة! وقد يكون "بيت الشاعر" في بلدة بيت مري وهو الاسم الآخر "لمؤسسة نادية تويني"، معنياً كثيراً بأمر هذه اللوحات. عبده وازن شمس رامبو "كان عندما يستيقظ، ينظر من النافذة الى الشمس التي ما برحت تلمع في سماء بلا غيوم، وكان يشرع في البكاء قائلاً انه لن يرى الشمس أبداً في الخارج، سأذهب الى تحت التراب، كان يقول لي، وأنتِ ستمشين تحت الشمس". هكذا تصف ايزابيل شقيقة رامبو أخاها الشاعر في لحظات احتضاره عام 1891 في مرسيليا. لم يقل لها: سأتمدّد تحت التراب أو سأرقد. قال لها: سأذهب. ولم يبكِ رامبو إلا لأنّه لن يتمكن من المشي تحت الشمس بعدما صعد الى سرير الاحتضار. لم يهمّه أمر آخر. لم يتحسّر على عمر ضاع غفلة ولا على قصائد لم يتسنَّ له أن يكتبها. لم يسأل عن أشعاره التي تبعثرت ولا عن ديوانه الوحيد الذي أصدره خلال حياته "فصل في الجحيم" ولا عن "الإشراقات"، الشاعر المشاء، المغامر والرائي و"سارق النار"... كان بحق "ابن الشمس" كما قيل فيه. كان أيضاً مثلما سمّاه الشاعر جيرمان نوفو "رامبو البحّار" الذي ركب "المركب السكران" ليكتشف البلدان المرسومة على خرائط الحلم والمخيّلة. كان رامبو يرغب دوماً في "عبور المجهول"، كما يقول في احدى رسائله. ومنذ انتهى من اجتياز مجهول الشعر وأسرار اللغة قرّر أن يغامر في اكتشاف مجهول الحياة وأسرار العالم وألغاز الصحراء والبحر... كان رامبو كما يقول عن نفسه "العابر بنعلين من ريح". أحب الحياة البدائية والعيش في الهواء الطلق، تحت الشمس الحارقة والأمطار. وبعدما اكتشف عالم الشرق لم يستطع العودة الى بلاده، الى فرنسا، فهو كان يدري - كما يعبّر أيضاً - ان الشتاء هناك سيقتله، سيقتل "ابن الشمس". وفي الختام قرّر رامبو ان يعود شبه محتضر ولكن الى مرسيليا، المدينة الفرنسية المتوسطية. "مشى رامبو ليرى مثلما رأى ليطير. حركته فتحت عينيه مثلما بسطت رؤيته جناحيه. رأى رامبو ولكنّه مشى كثيراً. كان بعيداً جداً حتى أنّه طار في السماء": على هذا المنوال ينسج جان لوك باران مكتشف لوحات رامبو المجهولة، نصيه الجميلين اللذين يؤلفان كتابه "رامبو مجنحاً" و"الاختفاء". وقد ضمّ الكتاب أيضاً صوراً فوتوغرافية التقطها باران انطلاقاً من موضوع "الكرة" التي جعلها تدور في بيت رامبو في مدينة شارلفيل - ميزيير. ولعلّ الفعلين: مشى ورأى اللذين يركّز باران عليهما يختصران معظم معالم تجربة رامبو الشعرية والحياتية. مشى رامبو كثيراً منذ أن هرب للمرّة الأولى من بيته، بيت الأم المستبدة التي لم يشاهدها أحد تضحك أو تبتسم. ظلّ يمشي حتى أصيب مرّة بمرض سببه المشي. قضى رامبو حياته هارباً حتى من رغبته في الحياة. كان عليه أن يواجه سلطة الأم، ثم سلطة العالم وسلطة التاريخ... وكان كلما واجه أمراً وقع في الخيبة. حتى العالم الذي ثار عليه واستبدله بعالم مشرق وطوباوي أوقعه في الخيبة. الحب خيّبه والحلم والثورة والبوهيمية والتسكّع والشعر واللغة... وعندما خاض رامبو مغامرته الثانية في عدن وهرر والحبشة وقبرص ووو... لم يعد يشاء أن ينظر الى ماضيه القريب. أدار وجهه صوب الشرق وقرّر أن ينسى كلّ ما كان له هنالك. كان كتب خلال سنوات قليلة ما أراد أن يكتب خالقاً اللغة الجديدة والقصيدة الجديدة. وعندما سأله أحد أصدقائه في "غربته" عن شعره، قال له بنبرة واحدة: "لم أعد أهتم بذلك". أنهى رامبو مغامرة الشعر في مقتبل العشرين ليبدأ مغامرته الأخرى، المغامرة الحقيقية المحفوفة بالخطر والموت ورحمة القدر، ثم لينهيها في مقتبل الثلاثين. ومثلما كان عبقرياً في تجربته الأولى كان عبقرياً في الترحال والمشي والألم والاحتراق والعنف والتجارة واليأس والهرب... هامبورغ، مرسيليا، الاسكندرية، جنوى، لارنكا، هرر، عدن، جيبوتي، شوا، جدّة، السودان، أريتريا، الحبشة، القاهرة... مدن وبلدان مبعثرة على خريطة رامبو الجغرافية، على خريطته العاطفية والوجدانية... أما النهاية فكان اختصرها باكراً عندما قال: "سأقضي بقية حياتي هائماً، في التعب والحرمان، ومعذّباً لا أنتظر أمراً غير الموت". لم يكن رامبو يحتاج الى الوقت ليكتب ولا الى الوقت ليحيا ولا الى الوقت ليموت. الكتابة والحياة والموت كانت كلّها أشبه باللحظة التي عاشها رامبو من دون أن يدري كيف يعيشها!