ثمة صحوة متأخرة داخل أروقة مجلس الأعيان الأردني تعمل على عكس الدور المغيب ل"مجلس الملك"، الذي تحول خلال السنوات الماضية الى أداة لتمرير التوجهات الرسمية من خلال جلسات بروتوكولية شكلية قصيرة رداً لجميل قرار التعيين، بدلاً من ممارسة دوره الرقابي والتشريعي حسب ما نص عليه الدستور. هناك سجال داخلي مثير وتجاذبات حيوية بين الأعيان تدور داخل وخارج أروقة المجلس ذي الأعضاء ال55، ويستهدف تطوير النظام الداخلي وعمل اللجان وتعزيز قوة الحضور في الحياة السياسية العامة وفي أداء أقوى في الرقابة على الحكومات والتعامل مع التشريعات بطريقة أكثر موضوعية بعيدة عن المجاملة السياسية ومؤثرات خارجية أخرى. التغيير أصبح ضرورة بعد إعادة التشكيل الأخير للمجلس والذي تم بموجبه ادخال تركيبة أكثر تمثيلاً وتعددية وديناميكية ساعدت على إعادة بعض الهيبة المفقودة للمجلس الماضي وتغيير أسلوب تعاملات المجلس الداخلي، ومع الحكومات. وفهم من التركيبة الأخيرة أن هناك رغبة ملكية بتفعيل أدوار المجلس الدستورية واسماع الحكومة والشارع أصواتاً أخرى، ليست بالضرورة كلها متوافقة مع توجهات الدولة، إضافة لمنع استمرار طريقة الأداء العام والتي عمقتها ممارسات فنية تقليدية محافظة ومتنفذة ودعمتها مشاعر الأغلبية من مرتادي مقاعد المجلس الذين فضلوا الابقاء على سياسة الصمت أو الحياد. لكن الحراك الأخير لم يطفُ بعد على السطح بانتظار بدايات الحسم، لا سيما أن المجلس تعود على العمل بأجواء السرية والتكتم الشديدين. يقود الحراك خليط من ألوان سياسية مختلفة ومتقاطعة، كل لأسبابه وقناعاته. فمنهم طاهر المصري وعبدالكريم الكباريتي، رؤساء وزارات سابقون ينتمون الى مدرسة ديموقراطية اصلاحية مثيرة للجدل، والليبرالي مروان المعشر نائب رئيس الوزراء السابق ومهندس الأجندة الوطنية مسودة سياسات اصلاحية شاملة لعام 2015 أقرت أخيراً، ورئيس الوزراء السابق فايز الطراونة، محافظ تقليدي مقرب من زيد الرفاعي الذي ما زال رئيس مجلس الأعيان منذ 8/6/1997، ووزير الداخلية السابق سمير حباشنة، قومي التنشئة وقريب من يمين الوسط. المجموعة هذه قابلة للزيادة والتمدد مع الوقت إذا أحسنت اقناع الآخرين"بمسببات"اصلاح آلية عمل المجلس وضرورات تغيير نمط جلساته. نقطة التحول تجلت بوضوح الشهر الماضي عندما عبرت اللجنة المالية بقيادة مقررها الكباريتي عن رغبتها برد مشروع قانون ضريبة الدخل، بسبب شبهات دستورية طاولته، بدعم من التيار الناشئ الذي يريد أن يكون المجلس صدى لمشكلات الأردنيين، وأن يصبح عامل توازن داخلي مع الحكومات، سواء في السياسات أو التشريعات أو القرارات. قرار اللجنة المالية جاء قبيل أن يبادر رئيس الوزراء الدكتور معروف البخيت الى الطلب من البرلمان سحب مشروع قانون الضريبة لتعديله لاستباق مواجهة كانت قادمة من البرلمان، بعد مرور شهرين على تشكيل حكومته التي تحاول ايجاد توازن لعملية التحديث لتحاكي الاصلاح السياسي وتضمن حفظ الأمن الوطني بعد مجزرة الإرهاب الزرقاوي الذي طال ثلاثة فنادق عمانية مساء 9/11/2005 وأدى الى استشهاد 60 شخصاً أغلبهم مواطنون مدنيون. لكن الرفاعي، السياسي المخضرم ورفيق درب الملك الراحل الحسين، تردد على ما يبدو في تبليغ الحكومة بموقف اللجنة من مشروع القانون، تماشياً مع الأعراف السائدة، مع أن القرار بحد ذاته شكل سابقة مهمة باتجاه علاقة جديدة على أسس مختلفة بين الحكومة ومجلس الأعيان، وأغضب ذلك التوجه بعض أعضاء اللجنة من غير الراضين أصلاً عن التهميش المتراكم والمفهوم التراكمي بأن عضوية مجلس الأعيان"تشريف وتكريم". أجواء المشهد السياسي الداخلي أيضاً تعدلت بعد التغيرات الأمنية والمخابراتية الأخيرة، فهي تبدو أكثر ملائمة لدعم الروح التجديدية داخل مجلس الأعيان بالتزامن مع حراك حكومي لحلحلة الجمود على الساحة السياسية والإعلامية، لدعم مسيرة التحديث التي أطلقها الملك عبدالله قبل سبع سنوات. فهناك محادثات جارية لهيكلة الإعلام الرسمي وإقرار قانون للأحزاب سينتج عن حوار بين وزارة الداخلية وأغلب الأحزاب الفاعلة، بمن فيهم الإسلاميون المتنفذون، وقانون آخر لعقد انتخابات بلدية بحلول منتصف 2006 ومحاولة لبدء حوار شعبي ونخبوي حول قانون انتخابي جديد على أسس النسبية السياسية التي اقترحتها الأجندة الوطنية. وبحسب بعض الأعيان، فإن الرفاعي، وهو رئيس وزراء سابق، ينتمي الى المدرسة السياسية التقليدية المحافظة، خرجت حكومته بعد تظاهرات شعبية في بعض المدن عام 1988، والتي سرعت من عودة الأردن الى المسار الديموقراطي. فهو بدوره يبدي اشارات علنية تنم عن استعداده للتجاوب مع ما تراه الغالبية مناسباً. وظهر جلياً خلال سلسلة من المناقشات الجانبية التي جمعته بالأعيان الذين يدعمون التغيير، وأخيراً بقراره دعوة أعضاء المجلس لحضور جلسة خاصة في قاعة الصور يوم الثلثاء المقبل للتباحث حول المطالب التحديثية، ومنها تعديل النظام الداخلي. يبدو أن الغالبية الصامتة من الأعيان مع نوع من إعادة الهيكلة لتطوير دور المجلس وتغيير النظرة الشعبية تجاهه، لكنهم ما زالوا بانتظار بدء النقاش هذا الأسبوع. وهناك حاجة لبناء توافق داخلي باتجاه منهجية اصلاح النظام الداخلي والسرعة المطلوبة لتحقيق الأهداف. وهنا مكمن التحدي، لا سيما أن غالبيتهم يعرف أن عملية التغيير ستتطلب الوقت والصبر والحكمة، لكن المهم أن تبدأ المسيرة وتستمر وتكبر لتحدث التغيير المنشود. ومن المطالب، دعوات بأن يعود للمجلس، وليس لرئيسه، قرار التعامل مع مشاريع القوانين الواردة إليه من مجلس النواب، إما من خلال أخذ قرار رد القوانين، أو تحويلها الى اللجان الداخلية المتعددة لاخضاعها لنقاش أولي قبل تحويلها الى مجلس الأعيان لقول الكلمة الفصل. ومن المطالب الأخرى ايجاد آلية جديدة لمساءلة سياسات الحكومة تحت بند ما يستجد من أعمال على هامش اجتماعات المجلس الروتينية، وتحديد المدة الزمنية التي يستطيع رئيس مجلس الأعيان استعمالها للإبقاء على مشاريع القوانين الاشكالية الواردة اليه من النواب في"أدراجه". فهناك أكثر من مشروع قانون حولت الى الأعيان لكنها ما زالت حبيسة أدراج الرئاسة، كذلك المتعلقة بالانتخابات البلدية ومشروع قانون من أين لك هذا، وقانون الجوازات ومواد معدلة في قانون العقوبات تتعلق بجرائم الشرف. وهناك مطالب بأن لكل لجنة رئيساً مسؤولاً عنها بالكامل بدلاً من مقرر كما أصبح الآن، حيث يُفهم من واقع الحال أن رئيس المجلس هو رئيس كل اللجان وباستطاعته حضور كل أعمالها واستعمال نفوذه في توجيه النقاش. وهناك مطالب بأن يتم عكس قرار اتخذ قبل سنوات خلت تم بموجبه منع الإعلام ووسائله المختلفة من تغطية غالبية الجلسات العامة للمجلس وجلسات لجانه، وإن كانت الرئاسة تنفي صدور أي قرار بذلك عنها. الأعيان يعرفون أن غالبية هذه المطالب لن ترى النور دفعة واحدة، وسيكون هناك تردد وازدواجية في المواقف الخاصة والعلنية، حسب القناعات والحسابات الشخصية المعقدة. هناك من يريد أن يمسك العصا من النصف. هناك من يريد تغييراً سريعاً. هناك من سيقاوم. وهناك أصوات مع تغيير مقيد وبطيء على اساس أن الأعيان يمثلون حالاً رسمية، وان عليهم الصمت والجمود بانتظار التوجهات والأوامر العليا للقيام بالواجب. لكن كما يقول المثل الشعبي"في الحركة بركة". التجاذبات الأخيرة تدل على أن النخبة السياسية والأمنية والاقتصادية الأردنية ممثلة بتركيبة مجلس الأعيان لم تتم بالكامل. الأعيان المعينون، كالنواب ال110 المنتخبين، أقسموا"بالله العظيم أن يكونوا مخلصين للملك والوطن، وأن يحافظوا على الدستور وأن يخدموا الأمة وأن يقوموا بالواجبات الموكلة اليهم حق القيام"، ولا مانع قانوني يمنعهم من قيامهم بدور رقابي وتشريعي فعال، كدور مجلس النواب، سوى انهم غير قادرين على منح أو سحب الثقة بالحكومات. وربما ساهم حراك مجلس الأعيان الجديد في بلورة مفهوم عملي أكثر حيوية ضمن إطار الدستور لتنفيذ القسم الدستوري وكي يظلوا جزءاً من مؤسسات السلطة التشريعية، وهي دعامة نظام الحكم وركن مهم من أركان الدولة والسلطة ولملء الفراغ الناتج عن أداء مجالس النواب المتعاقبة والتي أظهرت نتائج استطلاعات الرأي أن الغالبية من الأردنيين أصلاً غير راضية عن أدائه، بعد وقبل قيام الملك عبدالله بتلقين النخب السياسية والبرلمانية درساً قاسياً في أصول السياسة والعمل العام. * صحافية أردنية.