القنبلة التي دمرت سيارة سمير قصير في 2 حزيران يونيو 2005، أسكتت أشجع الصحافيين اللبنانيين. فعلى مر السنين، ظل قصير ينتقد الحكومة السورية وحلفاءها في لبنان من خلال العمود الذي يكتبه في جريدة"النهار"اليومية، في وقت لم يجرؤ على فعل ذلك سوى عدد قليل من الصحافيين. وتبعت هذا الاغتيال ردود فعل واسعة عبرت عن الصدمة الشديدة في أنحاء المنطقة كافة، كما ذكّر وسائل الإعلام بخطر أن يكون المرء صحافياً مستقلاً في الشرق الأوسط. وفي غمرة الحزن الذي ألمّ بأصدقاء قصير وزملائه، والقلق من تبعات جريمة قتله، وردت تقارير من ليبيا حول العثور على جثة الصحافي ضيف الغزال الشهيبي مقتولاً برصاصة في الرأس في احد شوارع مدينة بنغازي. كان الشهيبي الذي عمل سابقاً ولسنوات في الصحافة الحكومية اختفى قبل اسبوعين تقريباً من قتله، بعدما نشر مقالات مناوئة للحكومة في عدد من مواقع الانترنت المعارضة التي تتخذ من لندن مقراً لها، واستجوبته السلطات الليبية حول كتاباته. لم يكن قصير والشهيبي اول صحافيين يسقطان ضحايا للاغتيال بسبب عملهما، ولن يكونا آخر الضحايا. اذ اغتيل جبران تويني في بيروت في كانون الاول ديسمبر 2005 وهو رئيس تحرير جريدة"النهار"وأحد كتّاب الأعمدة فيها، وبذلك وضعت علامة فارقة اخرى في ذلك العام الذي عانى فيه الصحافيون في الشرق الاوسط من اعتداءات عنيفة فاقت كل ما حدث في الماضي. واغتنم عدد من الصحافيين فرصة انطلاق الدعوات للتغيير السياسي، وسعوا الى توسيع حدود الحوار وتحدي الوضع القائم. وفي بعض البلدان، استغل الصحافيون الانفراج السياسي الضئيل إثر موت بعض الحكام، فوسعوا الحوار في وسائل الإعلام المحلية. كما استفادوا من التقنيات الحديثة التي لا يمكن للحكومات القمعية عادة ان تطالها مثل الانترنت والقنوات التلفزيونية الفضائية، وتمكنوا من خلالها من تبادل الأفكار. والى جانب ذلك، لعبت القوى الخارجية دوراً مهماً ايضاً، اذ أثارت هجمات 11 ايلول سبتمبر 2001 في الولاياتالمتحدة والحرب في العراق نقاشات حول الاصلاح السياسي، ودفعت بالقوى الديموقراطية الداخلية، ومن ضمنها الصحافيون المستقلون، الى المطالبة بقدر أكبر من الحقوق وخضوع الحكومات للمحاسبة. وعلى مر السنوات، نجحت الحكومات العربية في كبح الصحافة الناقدة التحليلية من خلال أساليب لاعنفية، مثل: القوانين القمعية وقوانين القذف والتشهير الجنائية، والسجن، والقيود البيروقراطية، والفصل من العمل، والتهديدات من قبل الاجهزة الامنية. وبما يتعلق بالفاعلين السياسيين والحكوميين، مثل الفصائل الفلسطينية المختلفة والجماعات اللبنانية، فقد ظلوا تقليدياً يسيطرون على الصحافة من خلال شراء الولاءات، او من خلال تحييد وسائل الاعلام من طريق التهديد او المضايقات. لكن قواعد اللعبة تغيرت في بعض البلدان. ففي خضم مطالبة المواطنين بقدر أكبر من الحقوق، أظهرت الحكومات والجماعات السياسية افتقارها للثقة بالنفس، واستجابت لانتقادات الصحافة بحملات قمع قاسية. أما الصحافيون الذين رفضوا التزام القواعد الجديدة، فما لبثوا ان وجدوا انفسهم على قائمة المرشحين للاغتيال، او هدفاً لهجمات عنيفة في وضح النهار. وهناك عدد متنامٍ من الهجمات ضد الصحافيين تجري بحصانة تامة من العقاب، مما اجبر الصحافيين المستقلين في أنحاء المنطقة على التحسب من عواقب ما يكتبون. بعد ثلاثة شهور فقط من قتل قصير والشهيبي، استهدفت الصحافية مي شدياق التي تعمل في"المؤسسة اللبنانية للإرسال"في انفجار قنبلة زرعت تحت مقعد سيارتها في إحدى ضواحي بيروت مما ادى الى بتر ساقها ويدها. في يوم الاعتداء كانت شدياق قدمت برنامجاً سياسياً تناول التورط السوري المحتمل في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في 14 شباط فبراير 2005 ولاحقاً توصل محققو الأممالمتحدة الى الاشتباه في ان اجهزة الاستخبارات السورية واللبنانية متورطة في جريمة الاغتيال، واستنتجوا ان من المحتمل ان يكون لمسؤولين سوريين كبار علم بالجريمة. وفي 12 كانون الاول، وفي اليوم الذي اصدر فيه المحققون تقريراً جديداً، استهدف انفجار آخر سيارة تويني وهو من اشد منتقدي الحكومة السورية، مما ادى الى قتله وظل مرتكبو هذه الاعتداءات فارين من أيدي العدالة. ويخشى بعض اللبنانيين حدوث مزيد من عمليات القتل التي تستهدف الصحافيين الناقدين. وشهد اليمن، حيث كانت الحكومة في حال ارتباك وسط مصاعب اقتصادية واحتجاجات عامة، ازدياداً حاداً في الاعتداءات والتهديدات للصحافيين على ايدي عملاء الحكومة والجماعات المسلحة. وفي آب اغسطس خطف مسلحون المحرر جمال عامر واحتجزوه اربع ساعات، وأوسعوه ضرباً واتهموه بالتشهير ب"مسؤولين"لم يحددوهم. وقال عامر ان السيارة التي استخدمت في عملية الخطف تابعة لجهاز امني. وبحلول نهاية العام، لم يبدر عن السلطات اليمنية أي اشارة بأنها ستعتقل المسؤولين عن عملية الاختطاف. المحنة الى مرّ بها عامر تذكّر على نحو غريب بحادثة جرت في مصر قبل عشرة شهور من ذلك، عندما اعتدى اربعة رجال على عبدالحليم قنديل وهو محرر وكاتب عمود في الاسبوعية المعارضة"العربي"ومن أشد الناقدين للرئيس حسني مبارك. وسلب المهاجمون نظارة قنديل وهاتفه المحمول، ثم جردوه من ثيابه وألقوا به على قارعة طريق صحراوي و"نصحوه"بأن يتوقف عن الكتابة عن"الناس المهمين". وهذه القضية ايضاً ظلت من دون حل. اما الأسوأ من ذلك، فهو الضربة شبه القاتلة التي تلقتها وسائل الاعلام الايرانية المستقلة على أيدي الحكومة التي لم تكتف باغلاق الصحف المؤيدة للاصلاح، بل انهمكت في حملات منتظمة من الاعتقالات والتعذيب ضد الصحافيين. وتعرض عدد من الكتّاب وأصحاب المواقع الحوارية على الانترنت والصحافيين المعارضين للاعتقال والحبس الانفرادي والايذاء الجسدي اثناء فترات احتجازهم. وفي اواخر عام 2004 وبدايات عام 2005، شكلت لجنة رئاسية للنظر في ظروف معاملة السجناء، وقدم صحافيون شهادات عن سجنهم امام اللجنة، ومنهم الكاتب فريشته غازي، وبعض اصحاب المواقع الحوارية على الانترنت مثل اوميد ميماريان وروزبيه مير ابراهيمي وغيرهما. ان الميادين التي يظهر فيها حس الضعف امام العنف والافلات من العقاب في اجلى صوره والتي يبدو تأثيرهما فيها هائلاً، هي ميادين النزاعات الكبرى في المنطقة. فمن حيث عدد القتلى بين العاملين في وسائل الاعلام، تجاوزت الحرب في العراق عدد الخسائر الرهيب للنزاع الاهلي في الجزائر، والذي بلغ 58 قتيلاً بين 1993 و 1996. وبلغت حصيلة الخسائر بين الصحافيين في العراق حتى الآن 82 شخصاً منذ بدء الاجتياح بقيادة الولاياتالمتحدة في آذار مارس 2003. وكما حدث في الجزائر في التسعينات، استهدف عدد من الصحافيين من قبل الجماعات المسلحة انتقاماً منهم بسبب عملهم الصحافي. ويبدو المتمردون وكأنهم يقلدون الجماعات المسلحة في الجزائر، اذ وضعوا"قائمة تصفية"بأسماء لصحافيين في بعض المدن، وعلقوها في الاماكن العامة. وغالباً ما يكون الضحايا من المراسلين العراقيين الذين يعملون مع وسائل اعلام محلية أو عالمية، والذين يستهدفون بسبب تصور المتمردين عنهم بأنهم يدعمون الحكومة الاميركية او الحكومة العراقية، او بسبب المواقف السياسية التي تتبناها المؤسسات الاعلامية التي يعملون فيها ويعتبرها المتمردون مناوئة لهم. وتشكل الاعتداءات على الاعلام في العراق دليلاً اضافياً على مدى الضعف الذي اصبحت عليه حال المراسلين الصحافيين في مناطق النزاعات. وحالياً، اخذت فكرة حياد الصحافي ووضعه كشخص غير مقاتل، تتلاشى تدريجاً في مناطق كالعراق، مما يزيد الصعوبة امام الصحافيين لتأدية عملهم في جمع الأخبار ونشرها من ميادين النزاع، من دون التعرض لأخطار مهلكة. واستهدف الصحافيون في العراق للشك بأنهم"جواسيس"، او بسبب الاعتقاد بانتمائهم الى احد اطراف النزاع، او بسبب عملهم مع"الاجانب". كما هاجمت الجماعات المسلحة أو خطفت اعلاميين لتحقيق مكاسب سياسية، ولاجتذاب الاهتمام الاعلامي، ولاستخدامهم ورقة للتفاوض، أو لاخماد التقارير الصحافية غير المرغوب بها. ومن الحالات التي تستدعي الاهتمام - وان لم تكن ادت الى نتائج مهلكة شبيهة - الوضع في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث استغلت الجماعات المسلحة غياب السلطة المركزية بسبب تدهور وضع السلطة الفلسطينية، ولملاحقة الاعلاميين الناقدين. وتعاني المنظمات الاعلامية بصفة روتينية من التهديدات، والهجمات العنيفة، كما تعرضت مكاتب بعضها للدهم والتخريب. وعلى رغم ان خطف الصحافيين لم يحدث ابداً في السابق في المناطق المحتلة، الا انه اصبح شائعاً في العامين الاخيرين. التصاعد في الهجمات القاتلة، يثير مشاعر التقدير لشجاعة المراسلين الصحافيين الذين يعملون في الخطوط الامامية، ويواصلون ايراد الاخبار على رغم التهديد بالخطف او الاعتداء أو الموت. كما تؤكد هذه الهجمات على مقدار اعتماد الصحافة الحرة والمنفتحة على امكان اداء الصحافيين عملهم من دون ان تتعرض حياتهم للتهديد. ولهذا السبب، من الضروري المطالبة بمعاقبة مرتكبي الاعتداءات على الصحافيين وتقديمهم للمحاكمة. وعندما تغيب المحاسبة القانونية، لا يمكن للصحافة الحرة ان تعمل، اذ سيتوقف الصحافيون الشجعان، وهم عماد الصحافة الحرة، عن المخاطرة بأنفسهم. * منسق برامج في برنامج الشرق الاوسط وشمال افريقيا في لجنة حماية الصحافيين في نيويورك. * المقال ينشره"معهد بروكينغز"في العدد المقبل من تقرير"الهجمات على الصحافة في 2005"الذي تصدره "لجنة حماية الصحافيين".