يأتي فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في ظل واقع اقتصادي فلسطيني مأزوم إلى أبعد الحدود، فالبطالة تتجاوز 60 في المئة من إجمالي القوى العاملة. ومع إضافة ارتفاع معدل الإعالة الذي يبلغ واحداً إلى تسعة في المتوسط، يتبين لنا مدى استفحال أثر البطالة على معيشة الشعب الفلسطيني وتنامي أعداد المحتاجين والفقراء. إذ تشير التقديرات إلى أن 61 في المئة من الأسر الفلسطينية تعيش دون حد الفقر البالغ 350 دولاراً في الشهر للأسرة الواحدة اليونيكتاد، 2005. يضاف إلى ذلك تآكل الطاقة الإنتاجية الفلسطينية، وتراجع قدرة الناس على تأمين قوتهم، وتزايد الاعتماد على الواردات، لا سيما من إسرائيل، مع ارتفاع في معدل التضخم أيضاً إلى نحو 20 في المئة، وارتفاع النفقات الجارية، التي تستحوذ على نسبة تقرب من 85 في المئة من إجمالي النفقات العامة، تحتل الرواتب الحكومية النصيب الأكبر منها بنسبة تصل إلى 60 في المئة. وتزايدت كذلك فجوة العجز في الموازنة العامة عاماً بعد آخر، ما اضطر السلطة خلال السنوات السابقة إلى اللجوء للاقتراض الداخلي والخارجي، حيث بلغ إجمالي الدين العام أكثر من 1450 مليون دولار في عام 2004، مقابل 1285 مليون دولار في عام 2003، وأقل من نصف هذا المبلغ في عام 1999 التقرير الاقتصادي العربي الموحد، 2005. إن هذا الواقع المتردي يبين بجلاء، على حد تعبير اليونيكتاد، أن الاقتصاد الفلسطيني يمر بحالة طوارئ إنسانية معقدة حيث تتزايد حدة ضعفه من جراء استنفاد قدرة العرض، ما يفضي إلى نشوء دورة تراجع في التنمية وتقويض منجزاتها. الى ذلك تلاحظ جوانب أخرى من مظاهر أزمة الاقتصاد الفلسطيني، تتمثل بأمرين: أولهما اعتماده اعتماداً كبيراً على إسرائيل، بموجب برتوكول باريس الاقتصادي الموقع مع الحكومة الإسرائيلية في نيسان إبريل 1994 في إطار اتفاق أوسلو والذي زاد من إحكام ربط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي في إطار اتحاد جمركي غير كامل، وأجاز للحكومة الإسرائيلية حق التدقيق والتحكم في التحويلات الموجهة للسلطة إضافة إلى تحكمها بالجوانب المالية المتعلقة بمستحقات السلطة من إيرادات الجمارك، وحقوق المقاصة وضريبة القيمة المضافة، التي تشكل مصدراً مهماً لموازنة السلطة، وخصوصاً لدفع الرواتب لعشرات آلاف الموظفين والمتقاعدين، وقد قدرتها السلطة في عام 2004 بنحو نصف بليون دولار. والإفراج عنها وتحويلها للسلطة مرهون دوماً بموافقة السلطات الإسرائيلية. والأمر الثاني، اعتماد الاقتصاد الفلسطيني الكبير على المساعدات الاقتصادية المقدمة من الدول المانحة، والتي هي مشروطة بالعملية السلمية، والاعتراف المتبادل بين إسرائيل وفلسطين، أي تنفيذ شروط سياسية وقانونية وإدارية قبل إقرار المساعدات وصرفها. وقد تدفقت هذه المساعدات إلى السلطة الفلسطينية منذ العام 1994، بمعدل 400 مليون إلى 500 مليون دولار سنوياً حتى عام 2004. وجاء ذلك في صورة نقدية، أو عينية لتطوير بنى أساسية أو سد العجز في الموازنة، أو تأهيل مشاريع تنموية. وتجدر الإشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي يعد أكبر مانح للسلطة الفلسطينية، ويرتبط بها باتفاقية الشراكة المبرمة في شباط فبراير 1996، والتي تساوي الفلسطينيين ببقية شركاء الاتحاد في المنطقة المتوسطية في إطار من التبادل التجاري الحر. والسؤال الذي يطرح يتعلق بتبعات هذا الواقع الاقتصادي على حماس. من الطبيعي أن يحمل الواقع الاقتصادي الحركة أعباء لم تعتدها من قبل، تختلف عن تلك التي كانت تتحملها في مؤسسات الزكاة والأعمال الخيرية. إذ عليها الآن العمل في نطاق واسع يشمل كل قطاع غزة والضفة الغربية للحد من الفقر والبطالة، وسد رمق الشعب الفلسطيني كله، ودفع رواتب جهاز تنفيذي ضخم تعج به المؤسسات والوزارات والأجهزة الأمنية، إضافة إلى تلقي تركة كبيرة، وموروث من الاتفاقات في مقدمها برتوكول باريس وغيره. وما يزيد من تعقد هذه المسؤوليات الملقاة على عاتق حماس، كون خيار التحرك المتاح لها محدوداً جداً، ويعتمد اعتماداً كبيراً على إفراج إسرائيل عن الإيرادات الفلسطينية المتعلقة بالرسوم الجمركية وضريبة القيمة المضافة المفروضة على الواردات الفلسطينية، كما يعتمد أيضاً على المانحين الذين تتزايد الحاجة إلى دعمهم، ونيل ثقتهم وبناء جسور من الثقة معهم. إن تعامل حماس مع هذا الواقع الجديد يتطلب منها القراءة العميقة والواعية لأبعاده المختلفة، وأن تتعامل بواقعية مع استحقاقات العملية السلمية والمجتمع الدولي والمصادر التمويلية. إذ أن الدول المانحة جادة بقطع المساعدات التي تحصل عليها السلطة الفلسطينية، ويصعب على حماس الحصول على مصادر بديلة للتمويل من الدول العربية، لأن المساعدات العربية الرسمية التي قدمت حتى الآن استهدفت أيضاً دعم العملية السلمية والاتفاقات التي وقعتها السلطة مع إسرائيل في السنوات السابقة. ولا شيء يؤكد استمرار الدول العربية المانحة في تقديم هذه المساعدات إذا لم تلتزم حماس بالعملية السلمية، وبما وقِّع في أوسلو وما بعدها. وغني عن البيان أنه على رغم عدم اعتراف حماس باتفاق أوسلو وتبعات العملية السلمية، فإن واقع الحال المعاش يبين بوضوح تام أن أوسلو هي التي مكنت حماس من الوصول إلى السلطة بفضل الانتخابات التشريعية، التي تمت وفق مرجعية أوسلو التي نصت على قيام المجلس التشريعي الفلسطيني. ودخول حماس هذا المجلس بغالبية مقاعده، وتسلمها السلطة سيجعلها شاءت أم أبت وريثة شرعية لكل ما أفرزته أوسلو والعملية السلمية من اتفاقات حتى الآن، بما فيها الاعتراف بإسرائيل، إذ لا يعقل أن تأخذ من أوسلو مجلسها التشريعي وترفض ما تبقى، لأن هذا من شأنه أن يرفع في المنظور القريب منسوب التباين السياسي والتنظيمي في مؤسسات السلطة الفلسطينية ويزيد من حدة تداعيات الاقتصاد الفلسطيني المأزوم، وتفريغ الخزينة من مساعدات الدول المانحة، ما قد يجبر رئيس السلطة للدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة، بحسب قواعد اللعبة الديموقراطية. وللخروج من هذا المأزق، على حماس الإسراع في اتخاذ قرارات تاريخية تأخذ مصلحة المواطن الفلسطيني قبل أي شيء، وتحقيق مستقبل أفضل له، وتثبيت دعائم تعاون حقيقي مع رئيس السلطة المنتخب لمواصلة الخطوات العملية للتسوية السلمية العادلة. * خبير اقتصادي في"المركز الكندي لدراسات الشرق الأوسط".