لعل البحث الصادر حديثاً لدى دار"أكت سود"الفرنسية سلسلة"سندباد" بعنوان"الكتاب والمدينة ? بيروت والنشر العربي"هو الوحيد حتى اليوم، يقدّم مقاربة علمية وشاملة لحال الكتاب في العالم العربي، إن على مستوى قراءته أو طبعه أو توزيعه. والمهمة التي اضطلع بها الباحث الفرنسي فرانك مرميي بموضوعية لافتة وجريئة، نظراً إلى عدم توافر معلومات دقيقة حول هذا الموضوع، وإلى شمول دراسته كل الدول العربية بلا استثناء، مع التركيز في شكل خاص على دور بيروت كعاصمة للنشر العربي. وعلى رغم الصعوبات الكثيرة التي اعترضت سبيله، توصّل مرميي إلى تحديد معالم مشهد النشر في العالم العربي بخصوصياته ومشاكله وتوجهاته القديمة والحديثة. ولأن بدايات الطباعة في الشرق العربي وظروف تطورها لعبت دوراً في بلورة الخصائص الراهنة لمحيط النشر وسوق الكتاب العربي ولعلاقة القارئ العربي بالكتاب ومسألة القراءة، يسرد مرميي في الفصل الأول من كتابه تاريخ ظهور الطباعة في الدول العربية. وبالفعل تسمح لنا هذه النظرة الاستذكارية بإدراك كيف يكبح تأخر دخول هذه التقنية مختلف أنحاء الأمبراطورية العثمانية واستفراد المؤسسات السياسية والدينية في استخدامها، انتشار الثقافة في المنطقة العربية. ففن الطباعة بالحرف العربي لم يظهر في المشرق العربي إلا بعد قرنين ونصف قرن من ظهوره وانتشاره في أوروبا. والسبب الرئيس لهذا التأخير هو خوف بعض علماء الدين من تحريف القرآن عبر استنساخه في شكل آلي، إلى جانب اعتراض جمعية الناسخين في اسطنبول على هذه التقنية الجديدة التي تهدد عملهم بالانقراض. وما عدا سورية ولبنان اللذين عرفا الطباعة العربية منذ بداية القرن الثامن عشر، لم تدخل هذه التقنية بقية العالم العربي قبل منتصف القرن الثامن عشر. وسيساهم هذا الدخول المبكر للطباعة في هذين البلدين إلى اعتماد المسيحيين فيه اللغة العربية لنقل المعرفة. ولعب مسيحيو لبنان بواسطة هذه المطابع دوراً طليعياً في تجديد الثقافة واللغة العربيتين. ويشير مرميي هنا إلى المنافسة بين البعثتين البروتستنتية والكاثوليكية على مستوى الطباعة قبل دخولها الحقل التعليمي. فالمطبعة الأميركية 1834 هي التي نشرت القاموس العربي"محيط المحيط"لبطرس البستاني 1867-1870 وكذلك كتابه"دائرة المعارف"1876-1882 الذي يقع في ستة أجزاء ويُعتبَر أول موسوعة عربية. والمطبعة الكاثوليكية 1848 هي التي نشرت القاموس الفرنسي - العربي الذي وضعه بول هوري 1856 والقاموس العربي - الفرنسي الذي وضعه فيليب كوش 1860 وقاموس"الفرائد"لجان باتيست بولو 1883 وپ"المنجد"الذي وضعه لويس معلوف 1908. وأصدرت هذه المطبعة أيضاً انطولوجيا الأدب العربي 1882 التي وضعها لويس شيخو في ستة أجزاء والتي اعتمدت كمرجع في البرامج التعليمية في أوروبا والعالم العربي حتى بداية الحرب العالمية الأولى، ومجلة"المشرق"التي أسسها لويس شيخو عام 1898 وتعنى إلى حد اليوم بنشر دراسات تاريخية ولغوية ولاهوتية. ويشير مرميي إلى أن كثافة محيط النشر وتطورها يسمحان بإدراك قوة الإشعاع الثقافي لمدينة ما. وأول مدينتين تأسس فيهما محيط نشري حقيقي داخل العالم العربي هما بيروتوالقاهرة. وقد تحولتا عاصمتين للكتاب العربي لاهتمامهما المبكر بالابتكارات التقنية والثقافية وتمتعهما بحرية نسبية مقارنة ببقية المدن العربية. وستشكّل المنافسة بينهما عاملاً مهماً في تنظيم مشهد النشر العربي. ويعود الدور النشيط لهاتين المدينتين في التبادل الفكري والإنتاج الثقافي إلى نمو التبادلات بينهما وبين البلدان الغربية، ورغبة هذه الأخيرة في زيادة نفوذها في المنطقة العربية عبر تشجيع إنشاء نظام تربوي حديث، خصوصاً عبر البعثات الدينية. لكن هذه الظاهرة لم تكن ذات اتجاه واحد، كما تشهد عليه سياسة الإصلاح التي اعتمدتها الدولة المصرية مع محمد علي وسعي الطوائف المسلمة في لبنان الى إنشاء مؤسسات تعليمية حديثة. أما تطور النشر في لبنان بعد الحرب العالمية الثانية فيعود في شكل رئيس إلى الطلب المتنامي للكتب المدرسية وغير المدرسية في العالم العربي. ولن تلبث بيروت أن تتقدّم على القاهرة في هذا المجال بسبب سيطرة الدولة الناصرية على هذا القطاع في مصر، بينما اعتمد الناشرون اللبنانيون أحدث التقنيات في مجالي الطبع والتوزيع واستفادوا من طبيعة النظام السياسي اللبناني الليبرالي. عاصمة العرب في الفصل الثاني من كتابه، يُبيّن مرميي كيف أن بيروت، حتى في أبشع فترات الحرب، لم تتوقف عن لعب دورها الرائد كوسيط ثقافي، على الأقل في مجال الكتاب. فاستمرار الإنتاج النشري ونموه خلال هذه السنوات الصعبة هما مؤشران على أهمية بيروت كعاصمة العرب الثقافية. ومع أن دول الخليج تنافس اليوم لبنان في قطاعي الإعلانات والإعلام، إلا أنت قطاع الكتاب لا يمكن أي مركز عربي للنشر أن ينافس بيروت به، ما عدا القاهرة. ويعود ذلك إلى عدد المطابع ودور النشر، وكذلك إلى دور الناشرين اللبنانيين في توجيه مختلف ميول سوق الكتاب العربي الذي يتحكمون به بواسطة شبكات التبادلات والتوزيع الكثيرة المنتشرة في العالم العربي انطلاقاً من العاصمة اللبنانية. ومنذ فترة طويلة، يلعب محيط النشر في بيروت أيضاً دور الناقل الرئيس للنقاشات الأيديولوجية داخل العالم العربي والمكان المثالي للإنتاج الفكري العربي. فانطلاقاً من فترة الخمسينات، تحولت العاصمة اللبنانية حقلاً تتنافس داخله مختلف التيارات السياسية البعثية، الناصرية، الماركسية التي كانت تتصارع على بسط سيطرتها على المنطقة العربية حتى نهاية السبعينات. وأدت هذه المنافسة الأيديولوجية إلى تأسيس أو تمويل دور نشر في بيروت نظراً إلى طبيعة نظامها التعددي على المستويين السياسي واللغوي، وانحسار الرقابة فيها. وبعد هزيمة 1967، تسارعت وتيرة فتح دور النشر فيها مع قدوم المنظمات الفلسطينية 1969 واليسار العربي الراديكالي. وإلى جانب الأيديولوجيا، شكلت بيروت فضاء مواجهة على المستوى الجمالي أيضاً، كما تشهد عليه المنافسة بين مجلتي"شعر"وپ"الآداب"، وتلعب دوراً رائداً على مستوى الإبداع الأدبي ونقد التاريخ. وفي الثمانينات، ومع انحسار موجة دور النشر اليسارية، شهدت بيروت تطور النشر الإسلامي عبر إنشاء مؤسسات جديدة أو زيادة إنتاج الكتب التي تعنى بالتراث الإسلامي لدى دور النشر اللبنانية. وبعد الحرب الأهلية، شهدت المدينة تأسيس دور نشر جديدة تحمل مشروعاً ثقافياً مستقلاً. إلا أن النشر العربي في لبنان لا يزال حقل اختبار ثقافي مميز والحيّز الأبرز للنقاشات الأيديولوجية التي تعبر الفضاء العربي. وهذا ما يؤكده نشر هذه الدور أبحاثاً وروايات ودواوين حديثة لكتّاب عرب ولبنانيين. في الفصل الثالث من الكتاب، يشير مرميي إلى انحسار الهيمنة المصرية على"الجمهورية العربية للآداب"انطلاقاً من الثمانينات مع بروز أدب"قومي"، كما في لبنان الذي ستؤدي الحرب الأهلية فيه إلى أدب جديد يتميّز بمرجعيات عدة، أو في دول الخليج حيث ستظهر أنواع أدبية جديدة كالرواية والقصة القصيرة بعدما كان الإنتاج الأدبي محصوراً بالشعر. وفي مجال النشر، يبيّن مرميي كيف أن احتكار بيروتوالقاهرة لهذا القطاع سيبدأ تدريجاً بالانحسار أيضاً انطلاقاً من التسعينات مع تطوّر القطاع الخاص في عدد من الدول العربية كسورية والأردن والسعودية ودول المغرب العربي حيث تنافس الكتب الصادرة في كل من هذه الدول، على الأقل داخل سوقها المحلي، الكتب اللبنانية والمصرية. ولكن إذا كان دور المركزين الرئيسين بيروتوالقاهرة هو بالتحديد ربط الفضاءات المجاورة والعوالم البعيدة، فلا تزال العواصم العربية الأخرى بعيدة كل البعد عن دور مركزي في تجارة الكتاب على مستوى المنطقة العربية بكاملها. وكذلك الأمر بالنسبة الى عدد الإصدارات. ففي عام 2004، صدر في لبنان نحو 7500 عنوان، بينما صدر في سورية عام 2002 نحو 2500 كتاب، وفي الأردن نحو ألف عنوان، وفي المغرب نحو 800 عنوان، وفي الجزائر نحو 400 عنوان. ويتوقف مرميي في هذا الفصل عند حال النشر في كل من سورية والأردن وفلسطين والعراق ودول الخليج والمغرب العربي. سوق الكتاب وفي الفصل الرابع، يقارب مرميي سوق الكتاب العربي متوقفاً أولاً عند مشكلة الرقابة في الدول العربية التي تشكّل الحاجز الأكبر لترويج الكتاب. والمواضيع الحساسة ثلاثة: الدين والسياسة والجنس. ولكن الرقابة تضعف أو تتشدد وفقاً للبلد ودرجة ليبراليته. وباستثناء لبنان، تفرض الدول الأخرى على الناشر تسليمها لائحة بالكتب التي يرغب في عرضها في معارض الكتاب، وأحياناً نسخة من كل كتاب. وتمارس الرقابة قبل صدور الكتاب أو بعده، وأحياناً لدى عبوره في منطقة الترانزيت، كما حصل في مطار القاهرة العام الماضي حين صودرت ثلاثة كتب لبنانية وهي في طريقها إلى معرض فرانكفورت، من بينها رواية نجيب محفوظ"أولاد حارتنا". والمثير هو أن منع كتاب ما في دولة عربية يقدّم أحياناً له دعاية جيدة ويساهم في ترويجه في شكل أكبر في بقية الدول العربية. لكن الخطر بالنسبة إلى مرميي هو الرقابة الذاتية التي يمارسها الناشر خوفاً من منع كتبه والتي تؤدي إلى موت الأفكار والكتب قبل ولادتها. وعلى مستوى تسويق الكتاب، يلاحظ أن الكتب الصادرة في المغرب العربي غير موجودة تقريباً في الأسواق المشرقية، بينما تطغى الكتب المشرقية على الأسواق المغربية العربية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الكتب الدينية التي تنتشر في كل أسواق الكتاب العربي، بينما يلاقي الناشر العلماني صعوبة كبيرة لتوزيع كتبه خارج بلده. ويعزو ذلك إلى تفكك شبكات ثقافية وسياسية كثيرة بعد انحسار الأيديولوجيات الاشتراكية العربية وسقوط أو ضعف الأنظمة المبنية عليها. ويشير مرميي في هذا الفصل أيضاً إلى أن هيمنة بيروتوالقاهرة على إنتاج الكتاب العربي وتجارته تظهر جلياً من خلال مساهمتهما في انبثاق معارض الكتب في العالم العربي ومشاركة دور نشرهما فيها. ولكن باستثناء بيروت التي تنظّم المؤسسات الخاصة معارض الكتاب فيها، تنظَّم كل معارض الكتاب العربية من قبل وزارات الإعلام والثقافة أو مؤسسات تابعة لها. وأدى تطور هذه المعارض والمنافسة بين الدول العربية في تنظيمها إلى تحوّل هذه المعارض مراكز رئيسة لنشر الكتاب العربي. فبالنسبة إلى عدد كبير من القراء العرب، تمثّل هذه المعارض فرصة وحيدة للاطلاع على تنوّع النشر في العالم العربي. ولكن لا يفوت مرميي أن هذه المعارض تلعب أحياناً دور المصفاة التي لا تسمح بالتمرير، إلى كل سوق محلية، إلا الجزء المرئي من الإنتاج العربي، تاركة في الظل الجزء الأكثر إبداعاً. ويقارب مرميي في هذا الفصل أيضاً عملية تسويق الكتاب على شبكة الانترنت والمنافسة الضارية بين دور النشر في هذا المجال. وتحتل بيروت موقعاً رائداً في تسويق الكتاب عبر هذه التقنية. فالمكتبات الإلكترونية العامة التي تعنى بنشر الإنتاج"الحديث"وپ"العلماني"موجودة بمعظمها في هذه المدينة، وتشهد على مدى انفتاح دور النشر اللبنانية على العالم العربي. ويتوقف مرميي في هذا السياق عند أبرز المواقع الإلكترونية الناشطة في هذا المجال. عالم مجزأ في الفصل الخامس والأخير من الكتاب، يمنحنا مرميي انطلاقاً من التوصيفات الدقيقة التي وضعها في الفصول السابقة لعدد كبير من دور النشر اللبنانية والعربية، صورة شاملة عن عالم النشر في المنطقة العربية الذي يبدو مجزأً ويتميز بمعالم غير واضحة. فحتى اليوم، يصنف عدد كبير من المطابع في خانة دور النشر، بينما لا يضطلع الجزء الأكبر من دور النشر العربية إلا بنشاط محدود وأحياناً خيالي، أو يقوم فقط بدور الوسيط بين المطبعة والكاتب، مما يقلص وظيفة الناشر إلى حدود تحقيق الكتاب وتوزيعه. وينطبق هذا الأمر على الكتب الصادرة على حساب أصحابها أو تلك التي تقف وراءها مؤسسات رسمية أو ثقافية تستخدم الكتاب كأداة دعائية والناشر كمجرد وسيط تجاري. ويشير مرميي أيضاً إلى فقدان"حس الزمالة"بين الناشرين وانعدام القوانين والقيم المهنية المشتركة، مما يؤدي إلى تباين فاضح في ممارسة هذه المهنة. وعلى مستوى حقوق الكاتب، يتوقف مرميي عند الممارسات غير الشريفة لبعض دور النشر التي تطبع وتبيع نسخاً كثيرة من كتاب ما من دون علم صاحبه، أو تقوم بطبع كتاب صادر عن دار نشر أخرى. وعلى صعيد آخر، يبيّن مرميي كيف أن عدداً مهماً من دور النشر التي تعنى بنشر كتب أدبية وفكرية حصرياً، تُضطر في النهاية إلى إيقاف نشاطها، على رغم أهمية"كاتالوغها"وحجمه، بسبب صعوبة بلوغ السوق العربية وتعرّض كتبها لمشكلات لا تحصى مع الرقابة. وعلى خلاف عملية الانصهار والتركيز الحاصلة في ميدان النشر في الغرب، يتميّز هذا الميدان في الشرق بالتشتت والتجزؤ. والسبب يعود إلى أن معظم دور النشر العربية ذات طابع عائلي تقوم على ضرورة حفظ الأسرار المهنية داخل العائلة الواحدة، وإن تطلّب الأمر تخصّص عدد من أفرادها في مختلف فروع مهنة الكتاب. أما بالنسبة إلى حصة الترجمة في الكتب الصادرة في العالم العربي والتي تلعب دور المؤشر على الانفتاح والتطور الثقافي، فتتميز بركود منذ بضع سنوات وفقاً لتقرير PNUD الذي يقدّم الرقم 320 كتاباً مترجماً إلى العربية سنوياً. لكن مرميي يشكك بدقة هذا الرقم نظراً إلى الكتب المترجمة سنوياً في سورية 200 ولبنان 1000 وإلى الإحصاءات المتعلقة بالكتب المترجمة في كل العالم العربي والتي تتأرجح بين 2000 و3000 كتاب. وعلى مستوى النُسخ المطبوعة من الكتاب الأدبي أو العلمي فيتفاوت عددها بين 1000 و2000 نسخة، بينما تأرجح هذا العدد في الثمانينات بين 3000 و5000 نسخة. وفي المقابل، يلاحظ مرميي ازدياد عدد النسخ المطبوعة من كتب التراث الإسلامي إزاء تراجع الكتب الفكرية والعلمانية.