"كأنّما من بعيد تتساقط الأوراق..." على الحوار الممزّق بين رخامة البيانو ونوتات صادحة من الكمان والفلوت، يتصاعد صوت المغنّية إلى الفضاءات الدّاخليّة البعيدة حيث نرى بعينٍ رافضة حركة سقوطنا اللانهائيّة. الكلمات من قصيدةِ الخريف للشاعر النمسويّ الكبير راينر ماريا ريلكه، والموسيقى من جويل خوري، في قرص مدمج أنتجته مع "السيديتيك"، بيروت، في الخريف المنصرم تحت عنوان: "شعر وموسيقى"، فكان أفضل إنتاجٍ شهده لبنان عام 2003. أكثر من ذلك: لم يسبق أن وُجِدَ في لبنان، لأشعارٍ من مستوى ما اختارته جويل خوري من عمالقة الشعر الألمانيّ ريلكه وغوته ونوفاليس وهاينه - في ألمانيّتهم أو ترجمتها الإنكليزيّة - ولكن كذلك من الفرنكوفونيّة اللبنانيّة ناديا تويني مَنْ يتعامل معها موسيقياً على هذا المستوى. النّجاح الّذي حقّقه حين قُدِّم للمرّة الأولى في بيروت، رسالة تشجيعٍ بليغة إلى المتردّدين الّذين ما زالوا يلجأون إلى الفنّ "الوسط" بحجّة الخوف من "قلّة فهم الجمهور": كلّ شيءٍ يمكن أن ينجح في بيروت، حتّى العمل الفنّيّ الجيّد. ونجاح جويل خوري قصّة تروى. تشعر من كلامها، كما من طريقة تعاطيها مع الموسيقى قراءةً وكتابةً، بأنّ الموسيقى "في دمها". ومع ذلك تعرف أنّها نشأت في أسرةٍ بعيدةٍ عن الثّقافة الموسيقيّة، أمّا الدّراسة فلم تبدأها إلاّ في سنٍّ يفترض في العازف، فكيف بالمؤلّف؟ أن يكون قد اجتاز فيها مراحل التّدرّب. كيف كانت خطواتك الأولى في عالم الموسيقى؟ - لم أبدأ دراسة الموسيقى إلاّ في التّاسعة عشرة من عمري. كنت في الولايات المتّحدة أدرس الهندسة في جامعة جورج مايزن، في ولاية فرجينيا 1980 إرضاءً لأهلي. قرّروا لي هذا الاختصاص لأنّ علاماتي في الرياضيّات كانت جيّدة أيّام المدرسة. منذ البداية وجدت أنّني أكره الهندسة وأخذت أتردّد إلى غرفة البيانو. النظام التعليميّ الأميركيّ اختياريّ ويسمح بمثل هذه البدايات الغريبة. كنت أبكي في صفّ الموسيقى، وضِعْتُ إلى درجة أنّني أحسست أنّ الموسيقى وحدها تستحقّ أن أعيش وأعمل لأجلها. ذات يوم، وكانت فرقة جاز تعزف في مقهى الجامعة، قلت لصديقةٍ لي اسمها جاكي: أترين عازف البيانو في هذه الفرقة؟ أموت أو أعزف مكانه في السّنة المقبلة! ولم تموتي... - متّ وعشت وأنا أسرق الوقت للتدرّب القاسي. أجبر جسمي على ما لم يتعوّد. ففي هذا العمر يشلّك إدراك الأخطاء الّتي تبدو طبيعيّةً في سنٍّ مبكرة. ولكن مرّت السّنة ومرض عازف البيانو في فرقة الجاز فحللت محلّه موقتا، ثمّ نهائيّا... كلّ هذا بعد سنةٍ من التّدريب؟ - عزفنا مجّانًا في ثلاثة سجون وكنّا نكسب بعض المال في حفلات الغداء والعشاء الخاصّة. ولكنّني، من جهةٍ أولى أحسست بنواقصي، ومن جهةٍ ثانية هي الأهمّ، لم يكن الجاز غرامي، بل أحببت الموسيقى الكلاسيكيّة وكنت أريد أن أدخل إلى هذا العالم الواسع من حيث يتسنّى لي الدّخول. تركت الهندسة لكي أخصّص مزيدًا من الوقت للموسيقى. فعارَضَ أهلي أن آخذ اختصاصًا فنياً، وحينما طلبت أن أدرس الأدبَ أو علم النّفس رفضوا أيضًا طالبين أن "أعمل شيئًا بعقل" وإلاّ أعادوني إلى لبنان. فقرّرت أن أدرس علم الاقتصاد. وكان يحقّ لمن يحصل على أعلى العلامات في اثنتي عشرة مادّةً في السّنة أن يأخذ موادّ إضافيّة فاستطعت الحصول على إجازةٍ في الموسيقى. بدأت في بيروت عازفة جاز؟ - غرامي الكتابة، لكن في البداية لم يرض أحدٌ من الّذين عزفت معهم أن يدخل شيئاً من تأليفي في العرض. تعرّفت في البداية الى فرقة اسمها "جاز غايت" كانت تعزف في "ريترو" بيروت. ثمّ ابتدأت أعزف معها. وكان يجب أن أكتفي بعزف القطع التقليدية الشهيرة. المرّة الأولى التي عزف فيها شيء من كتابتي كانت في كازينو لبنان سنة 1988. ذات يومٍ عرض أسامة الرحباني، وكان يعزف معنا في "جاز غايت"، شريط فيديو للفرقة أمام زياد الرحباني. فطلب استضافتي في حفلاتٍ له في الكازينو. كانت الأحوال الأمنية صعبةً فأخذني إليه مدير أعمال السيدة فيروز. واتفقنا على أن يكون نصف العرض من تأليفي والنصف الثاني من تأليفه. ومع الوقت صار نصيبي من القطع التي تعزف من تأليفي اثنتين، ثم صدر التسجيل من دون أية قطعةٍ لي. مرّ وقت طويل قبل أن يصدر العمل الأوّل لك كمؤلّفة لموسيقى الجاز. ماذا فعلت طول هذا الوقت؟ - بقيت مع "جاز غايت". وكنّا نعزف في المقاهي والنوادي الليلية المحلية: بلو نوت، هاي هات، سوهو، سي غال... حتى مللت عزف المقطوعات التقليدية لأنني، من جهة، كنت أؤمن بالموسيقى التي في رأسي، ومن جهةٍ ثانية، كانت تقنيّتي في العزف لا تتماشى مع البراعات المتطلّبة من عازف الجاز التقليدي. تسيرين في عملك الأخير "موسيقى وشعر" على خطى من أطلق عليهم اسم مدرسة فيينا الثانية مع بقاء بعض التأثيرات من موسيقى الجاز. - أنا لا أؤمن بالفصل بين الجاز والموسيقى الكلاسيكيّة. مع ذلك كنت، بعد "موسيقى وشعر" أظنّني لن أعود إلى الجاز. والحال أنّ الحفلة التي قدمتها مع الفرقة، برعاية الكونسرفاتوار الوطنيّ، في مسرح بيار أبو خاطر في الجامعة اليسوعيّة، في العاشر من شباط فبراير الحالي، هي من الجاز. وعنوان القطعة الأولى الجديدة في هذه الحفلة دليل الى أنني فوجئت قبل غيري. عنوانها: "حين يحصل آخر ما كنت تتوقّع".