في روايته الجديدة"عتبات البهجة"دار الشروق، القاهرة 2005 يبتعد ابراهيم عبدالمجيد عن التاريخ المضفور بحيوات تتفاعل مع الاحداث والسياقات، ليرتاد اعماق شخوص تبدو فاقدة البوصلة، باحثة عما يُسلي ويُبهج، وسط مجتمع يسير بخطى حثيثة نحو التداعي والتدهور. وتتركز بؤرة السرد على بضع شخصيات، لكن ثمة اشارات تُبرز الحضور السلبي لپالليفياتان"، الآلة الجهنمية التي تسحق النفوس وتدمرها. تحمل فصول النص العشرة، عناوين تشير الى المحتوى غير انها تشتمل على حرف"أَوْ"، بمعنى التخيير، فيأتي الشق الثاني للعنوان أبعد ما يكون عن دلالة الجملة الاولى، الى درجة الايحاء بالتناقض والبعد الفانتاستيكي، مثل:"كيف تعرفت على دنيا، او لماذا كانت دنيا تموت مرة كل اسبوع؟"، وفي فصل آخر نجد عنوان:"كيف توقفت الساعات؟ او لماذا لم نسمع في السرادق إلا آيات الجحيم؟". يأتي السرد بضمير المتكلم على لسان احمد، رئيس مصلحة باحدى الوزارات، لكنه قلما يذهب الى عمله، فهو يحب القراءة ومشاهدة الافلام ولا يجد في الوظيفة ما يرضي طموحه. توفيت زوجته فشعر بوطأة الوحدة اكثر، وتصاحب مع حسن الذي يعمل معه في الوزارة نفسها ويعزف ايضاً عن العمل ويحب هو الآخر القراءة والافلام والسياحة في مواقع الانترنت. يلتقي الصديقان كل يوم تقريباً، يمشيان مسافات طويلة ويتحدثان في كل شيء. وكل مساء، عندما يفترقان آخر الليل، يستأنفان حديثهما بالتلفون. وعلى رغم ان السرد يتم من خلال احمد، فإنه يأخذ محورين اساسيين: 1- محور احمد ? حسن: يحكي ما يدور بين الصديقين عندما يتجولان او عندما يستريحان ليلاً في حديقة صغيرة اكتشفها حسن ولم ينتبه اليها احمد على رغم انها تقع في الطريق التي يسلكها كل يوم. في تلك الحديقة، بائعة الشاي وابنتها سعيدة المطلقة التي يحاول حسن ان يستميلها... وهذا المحور من السرد ينقل قسطاً كبيراً من تعليقات حسن الغرائبية وتفريعاته الكلامية المسلية التي يُعاكس بها بعض الباعة او اشخاصاً يلتقيهم خلال الجولة. انه نموذج لپ"الكلامنجي"المحترف الذي يلتذذ بالسفسطة والاختلاق والكذب القابل للتصديق. الا ان ربط هذا السلوك الكلامي بوضعية حسن، تجعلنا نخمن كأنما هو يتحاشى بذلك مواجهة اسئلة تطارده، تخص علاقته الفاترة بزوجته أمينة، ما جعله يحاول التعويض بالسعي الى ربط علاقة مع سعيدة التي تنتمي الى فئة مهمشة تمنعها من تخطي الفروق الاجتماعية... حسن، إذاً، لا يحقق ذاته في الوظيفة وعلاقته مع زوجته فاترة، فيلجأ الى ممارسة قدرته الكلامية واستثمار معلوماته في مجال السخرية وخلق اجواء فانتاستيكية. على هذا النحو، يتحدث حسن باستفاضة عن الجينات والكلاب وسلالاتها، وعن اهمية خَلّ التفاح في صنع حُكّام عقلاء، وعن النباتات المفيدة للعلاج وسطوة التلفاز:"فكرتُ اذا كان العالم كله قد سكن هذا الجهاز فهو عالم تافه؟ واذا كان يسكن في الجهاز الاصغر الموجود في غرفتي فهو أتفه، وربما يستحق الشفقة، يا إلهي. اقصى خيال البشر حبس المارد في القمقم زمان. العلم الآن يحبس العالم في التلفاز"ص 89. 2- محور أحمد والآخرين: وفيه يسرد تفاصيل عن حياته الخاصة في الماضي والحاضر. لقد ماتت زوجته، وتزوجت ابنته، واستقل ابنه بحياته ففكر في الزواج ثانية، لكنه يعاني ارتفاعاً في الضغط وانسداد في الشرايين، فضلاً عن انه لا يجد امرأة تلائمه. بدلاً من ذلك، يعيش علاقة جنسية مع دنيا المتزوجة والتي فتحت عينيه على مسالك لم يرتدها من قبل. يقول عنها:"دنيا حالة وحشية، مفتوحة مسامها كلها على الشهوة، تكاد تشرب عرقي بجلدها، ولديها من فنون الحركة اكثر مما لديها من فنون القول؟ كل مرة تهتف في همس"انا كنت ميتة، انا كنت ميتة"تهتف من اعماقها البعيدة جداً وبهمس تتعذب فيه حروف الكلام"ص 43. كانت لدنيا صديقة هي فادية التي تعاني شذوذ زوجها عند مضاجعتها، وكانت تحكي لأحمد عن محنة فادية التي تعيش محرومة من انوثتها. وذات يوم، جاءت دنيا ومعها صديقتها وأغرته بأن ينام معها. في الاثناء، تسللت دنيا وعادت الى بيتها لتنتحر. اكتشف احمد ان علاقة مثلجنسية كانت قائمة بين الصديقتين، الا انه لم يدرك سبب انتحار دنيا التي كانت تعبر بجسدها عن حب كبير للحياة. هل كانت تحبه، ام ان علاقتها المعقدة بزوجها وبفادية هي التي كانت وراء انتحارها؟ يظل الامر مبهماً عند احمد الذي يقنع نفسه بأن الجنون والعبث المطبقين على المدينة يدفعان الى الانتحار. اما حسن فسيقول له معلقاً:"لا الحب ولا الدين أفلحا في منع الناس من الانتحار، للأسف". ص 163. الكآبة وشلل النفوس من خلال سرد يسلك محورين متوازيين ومتلامسين أحياناً، وعبر شخصيتي احمد وحسن الموظفين اللذين يستعيضان عن العمل بالقراءة والمشي والكلام، تتنامى رواية"عتبات البهجة"عبر محكيات طريفة وأخرى درامية لتغوص بنا، تدريجاً، في ما وراء الظاهر وما يتلفظه اللسان. تبدو الشخصيتان اول الامر، وكأنهما تنشدان ما يسلي النفس ويجلب البهجة. وحين يستقر رأيهما على شراء كلبين للمرافقة وتزجيه الوقت، سرعان ما يبادر حسن الى التنازل عنهما لشحاذٍ في أمسّ الحاجة الى مصدر يكسب قوته. وأمام استغراب احمد، يقول حسن:"الوقوف على عتبات البهجة دائماً افضل من البهجة نفسها"ص 246. لكن البنية العميقة للنص تؤشر الى ابعاد تأويلية اخرى، لان رحلة الصديقين الكلامية، تخفي جراحات وندوباً تحيل على ما يتعدى البحث عن البهجة الى عناصر مأسوية ذات جذور اجتماعية وانسانية. ذلك ان الواقع المتدهور المحيط بهما، المملوء بالثقوب، يمعن في محاصرتهما ويؤثر في سلوكهما. من ثم يبدوان، في صداقتهما ورحلتهما، كأنهما هاربان من قساوة الواقع المحدود، الخاوي، الى فسحة الكلام او المغامرة في منطقة الممنوع. يكتفي حسن بالاستيهامات وتوليد العبارات، بينما يتلقف احمد دنيا ليعوض بها عن فقدان الزوجة والحب. لكن انتحار العشيقة يبدد محاولات التعويض، ويرفع القناع عن حجم الحصار الذي يتضافر على احكامه الوضع الاجتماعي ? السياسي، والقوى العلوية ممثلة في الموت والشيخوخة واعتلال الجسد. ان"الهرب"الى التجول ولوك الكلام، والبحث عن مسرّات مبهجة، هو ما يجمع بين احمد وحسن القارئين للأدب والمحبين للسينما والتلفاز واللذين يبحثان عن فضاء يعوضهما عن الفقد والحرمان. من ثم، تنتفي القدرة على الفعل، وتحل محلها أفعال الكلام والسخرية واستثمار المعرفة الجاهزة التي توفرها المجلات والانترنت... وعندما يكتشف الصديقان تردد العقيد عباس على الحديقة الصغيرة عند منتصف الليل هرباً من اصوات واحتجاجات ضحاياه الذين نكّل بهم، لا يستطيعان سوى ان ينصحا السياسيين بانتهاج الطريق الذي سلكه الضحايا المختلون، للانتقام من جلادهم. وفي هذا المستوى تلتقي محكيات أحمد الخاصة بالمحكي العام الذي يُفسر ظاهرة الجنون والانتحار والانحدار الى الحضيض. من باب المقارنة، يمكن القول بأن"عتبات البهجة"تمثح من نفس نُسغ"بيت الياسمين"التي نشرها ابراهيم عبدالمجيد سنة 1986، وكأنها امتداد لها، على رغم اختلاف الشكل والكتابة. هناك عشرون سنة تقريباً، تفصل بين الروايتين، وفيهما معاً تبدو صورة المجتمع المصري عبر مرآة مزدوجة لا تعكس بقدر ما تلتقط الملامح الكاشفة: ففي"بيت الياسمين"يبيع"محمد علي شجرة"نفسَه تحت ضغط فترة الانفتاح، ثم يصحو وعيه فيراهن على طفله الجنين... وهنا في"عتبات البهجة"، يتحول احمد الى متفرج على تدهور الاوضاع ينشد البهجة في أي شيء مهما كان تافهاً. لقد فقد البوصلة وأصبح عالقاً في شَرَك العبثية والكآبة المقنعة. لكن مع ذلك، هناك ما يشير الى ان وعياً جديداً يتخلق من خلال ضحايا العقيد عباس ممثل المجتمع السياسي الاستبدادي الذي يحاصره ضحاياه كل يوم. كأن بلوغ التردي منتهاه هو شرط انبثاق وعي بديل. ان ما يلفت النظر في"عتبات البهجة"هو السرد المتدفق ببساطة بالغة، والانتقال، عبر محكيات تتناءى وتلتقي، من المشاهد الخارجية ذات الفضاءات المتباينة الى دواخل النفوس الهاربة من كآبتها ويأسها. وتشتمل لغة السرد والحوار على مستويات مختلفة وسجلات معرفية عدة. وبذلك ينجز ابراهيم عبدالمجيد رواية تراهن على جمهور افتراضي واسع، وفي الآن نفسه تقدم للباحثين عن قراءة تأويلية متعددة الدلالات، عناصر لمساءلة المجتمع من خلال امتدادات النص المحتملة.