"عتبات البهجة" رواية للكاتب المصري ابراهيم عبدالمجيد، صدرت حديثاً عن دار الشروق القاهرة وهي تأتي مع روايته السابقة"برج العذراء"كمحاولة للخروج على السمة المكانية التي تنم بها اعمال الكاتب في مجملها. انها استدعاء للمكان الهامشي الذي مثل حالة برزخية بين المدينة والصحراء. الا أن من الملاحظ ان تلك الحالة البرزخية ظلت قائمة، على رغم محاولات الخروج عليها. فإذا كان"المكان الهامشي"يفصل بين المدينة والصحراء، فهو تحول في"برج العذراء"إلى"مكان استثنائي"يفصل بين الحياة والموت، وها هو يستحيل في"عتبات البهجة"فاصلاً بين الدخول إلى اعماق البهجة، أو الوقوف على عتباتها. تقع احداث"اعتاب البهجة"في بؤرة مكانية مركزية، تتمثل في حديقة هي على هامش احد الميادين في مدينة القاهرة، الجميع يمر بجوارها، لكن لا أحد يراها. وربما لهذا السبب وحده، تصبح هي المكان الاثير للشخصيتين المحوريتين: احمد الراوي وحسن، وهما يقبعان على هامش ذاكرة الواقع، بقدر ما ينغمسان فيه محاولين الخلاص منه. يقول حسن:"هذه الحديقة افتتحتها السيدة الاولى قبل عامين، ثم رفع صوته أكثر وقال: لا احد يجلس هنا، لا أحد يدرك أن هنا حديقة". ومن البديهي أن الانسان اذا اختار ان ينعزل عن الواقع، فإنما يتم ذلك تحت وطأة عامل سيكولوجي. فإذا كان يمتلك قدراً من الوعي، فإنه - بالضرورة - يتبنى موقفاً ايديولوجياً رافضاً، حيث يأمل - من خلال هذا الرفض - في تغيير ذلك الواقع. ومن هنا، تكتسب"عتبات البهجة"حساً سياسياً بعيداً من المباشرة، لكنه يشكل خلفية للرواية. وإلى ذلك، فإنه يمكننا أن نقرر انها الى جانب كونها رواية مكان، فإنها تتميز ايضاً بأنها رواية"حالة". فبناء الرواية يعتمد على مجموعة من المشاهد واللوحات التي قد تبدو متباعدة، لكنها تتضافر لكي يخلق الجدل في ما بينها حالة كلية، تؤكد العبثية أو اللامعنى. انها"الحالة المصرية"الراهنة اذا جاز التعبير. لكن من الضروري أن نشير إلى أن الرواية تبتعد كثيراً من"أدب العبث"، لأن اللامعنى هو حالة خارج الشخصيات ولا تنبع من داخلها. كما ان موضوعَيْ"العدمية"، وپ"التمرد"غير مطروحين أساساً. فالعبثية - هنا - هي عبثية الواقع، بينما اللامعنى هو اللامعنى السياسي. أدى اللامعنى السياسي بالشخصيات، خصوصاً بالشخصيتين المحوريتين، اما إلى فقدان الذاكرة، أو إلى فقدان جزئي للقدرة على التذكر:"تصور أن المصريين وهم يتذكرون كل شيء، لا بد ستنفجر رؤوسهم". وأدت عبثية الواقع إلى افتقاد الاحساس بالجمال، ويبدو ذلك واضحاً في مشهد بائع الورد الذي يقرر:"تصور يا أستاذ أنا فكرت أبيع بانغو... حتى أوفر كل الرشاوى المطلوبة مني". وتلك العبثية ذاتها هي التي تؤدي ببائعة العسلية، كأحد افرازات الطبقة الجديدة والمتسعة من"معدومي الدخل"، إلى أن تشيح ببصرها عن الواقع، متجهة به إلى السماء:"والنعمة دي يا ربنا، أنا ما بعت النهارده غير بجنيه واحد، أخده مني أمين الشرطة". ثم يأتي اللامعنى - مرة أخرى - ليؤكد ثبات الواقع وعدم امكان تغييره، من خلال توقف الاحساس بالزمن لدى الشخصيات، الا في ما يتعلق بالألم وحده. وهو القابل - بمفرده - للتحول والنمو:"قال لي حسن إن الساعات توقفت في كل مكان يذهب اليه، وتحركت في يدي، انا الذي أتألم لانتحار دنيا. العالم اذاً يتحرك في الاتجاه الخطأ". على أن الرواية تبلغ ذروة العبث واللامعنى من خلال لوحة العقيد عباس وضحاياه، وهي واحدة من اجمل اللوحات التي تضمنتها الرواية العربية في شكل عام. كان احمد وحسن يرصدان الكائنات الهامشية التي تقبع على حدود الحديقة، أو تلك التي تلجها على استحياء، وقد أثار انتباههما ضابط شرطة برتبة كبيرة، يأتي إلى الحديقة بعد منتصف الليل ليختلي بنفسه، ثم يغادر حزيناً. عرفا من بائعة الشاي ان العقيد عباس، كان نقل قبل عام إلى احدى مدن الصعيد، ثم عاد مرة اخرى الى القسم المجاور للحديقة، ومنذ ان عاد، فإن ضحاياه السابقين"ينتظرونه على الرصيف، فإذا خرج مشوا خلفه، واذا ركب سيارة الشرطة جروا وراءه حتى تنقطع انفاسهم، اذ لا يلحقون بها ثم يعودون ينتظرون عودة العقيد عباس". وتصل تلك المأساة / الملهاة إلى ذروتها، حين نعرف ان هؤلاء الضحايا ارتحلوا خلف جلادهم حين نقل إلى الصعيد، ليمارسوا معه هذا الطقس الغريب من محاولة الالتصاق به، أو التوحد معه. أليست تلك الحالة هي أحد تجليات التصاق شعوب العالم الثالث بجلاديهم، حين يهتفون لهم:"بالروح، بالدم نفديك يا فلان"؟ على أن الرواية ترى - في مستوى دلالي أعمق - أن ما يفعله هؤلاء الضحايا هو أعظم طريقة لهزيمة الطغاة، لو فهم السياسيون ذلك. قال حسن:"انهم يمشون وراء العقيد عباس مثل الضمير، سيجننونه. اراهنك سيمشي معهم يوماً ويجري في الطريق، ضحكنا، قلت: يبدو أن مصير هذا البلد مرهون بالمجانين". واذا كانت الرواية تشير إلى ضحايا من الرجال، فإن الامر يبدو أسوأ في ما يتعلق بضحايا آخرين من النساء. ويمضي العنف الذي يمارسه الواقع على النساء في اتجاهين: إما عنف معنوي، أو عنف مادي. ومن نتائج الاتجاه الأول انتحار دينا، تلك المرأة الشابة التي كانت تعشق الحياة، لكن الحياة خذلته. ونظراً الى أنها كانت تعيش الحياة بمبدأ"الكل أو لا شيء"، فإنها لم تستطع ان تستمر في ممارستها. أما الاتجاه الثاني فيتخذ مظهر العنف المباشر تجاه المرأة، كما في حالة بائعة العسلية التي يضربها زوجها في الشارع، وفي شكل يومي. الا ان العنف المباشر يتخذ ابلغ صوره في حالة الطبيبة التي يضربها زوجها يومياً، وقد فضحت الواقع باعتبارها مجرد تجلٍ فردي له، وليست حالة استثنائية به، حين صرخت في السياسي المعارض الكبير، الذي كان يحضر ندوة عن حقوق الانسان في مصر، قائلة:"لماذا تقيمون هذه الندوات الآن في كل مكان، ولا يوجد في بلادنا اساساً انسان نبحث له عن حقوق. يا استاذ يا محترم انا زوجي بيصبحني بعلقة ويمسيني بعلقة، وأنا دكتورة ولي وضع في المجتمع. وحين اذهب إلى المستشفى أجد الموت اسرع إلى المرضى من العلاج، وفي الليل تتحول المستشفى إلى مسخرة: الاطباء ينامون والممرضات والتومرجية وأاشياء أخرى فظيعة. وكل حين تجد البوليس يرسل الينا مريضاً مقيداً بالحديد، مريض في"كلبش"، شفت حضرتك مريض في كلبش إلا في بلادنا. وأختي المحامية تحكي لنا أهوالاً عما يحدث في المحاكم، تصور حضرتك من طرقة المحكمة تلاقي واحد واقف، حيوان ابن كلب، حيوان ابن جزمة يقف في يده سلسلة حديد يضرب بها المتهمين، الذين يسحبهم عسكري في سلسلة ثانية من عربة الترحيلات، التي تقف في الشارع، حتى يدخل بهم إلى القاعة، ليضعهم كالحيوانات في القفص. في القفص فقط يفك الحديد عن ايديهم حتى يرى القاضي ان كل شيء تمام. يا استاذ دي"بلد وسخة". وهنا بهتت القاعة كلها، وخرجت الطبيبة مسرعة، لكنها عند الباب انفجرت في البكاء". ربما كان هذا المشهد هو الوحيد الذي يتسم بالمباشرة داخل الرواية، لكنها المباشرة التي تؤكد العبثية من ناحية، وترسخ الاحساس بالألم من ناحية اخرى. ان هذا هو ما دفع بحسن إلى أن يلحظ أن:"هناك الآن من يحرصون فعلاً على حضور الجنازات والتعازي للذين يعرفونهم وللذين لا يعرفونهم. الناس تفرغت لجمع الثواب من أي شيء". وهذا الاحساس الدائب بالألم، يأتي دائماً خلف هاجس المصريين الذين يستدركون - حينما يضحكون كثيراً - قائلين: اللهم اجعله خيراً. انهم يتوجسون من الفرح أكثر مما يخافون من الألم. وتأتي النهاية داخل الرواية لتؤكد تلك الحالة المترقبة الفزعة، التي تشي بالقلق من المجهول، وبالاكتفاء ببوادر الاشياء المفرحة من دون التورط معها إلى النهاية:"فكرت فجأة اننا على قدر تحمسنا لأي شيء لا نكمله أو لا يكتمل، قبل ان اسأله عن سر ذلك قال حسن:"الوقوف على عتبات البهجة دائماً افضل من البهجة نفسها. أجل، البهجة أمر سهل، ولكن اذا طمعت فيها قتلتك واهلكتك". ألاَّ يطمع الانسان في تجاوز عتبات البهجة، فهذه هي العبثية، وان يتوجس الانسان من السعادة فتلك اقصى درجات اللامعنى. لذلك، فإن الوقوف على عتبات البهجة من دون الطموح إلى ما وراءها، هو ما يؤكد الحس السياسي داخل الرواية. فالوقوف على عتبات البهجة هو حالة برزخية اخرى، ما بين فرح هامشي وسعادة دائمة: من دون ضحايا، وبلا مجانين.