لم يسبق لي أن قرأت شيئاً يذكر للشاعر العراقي علي حبش الذي التقيته قبل ايام في معرض الكتاب الدولي الاخير في القاهرة. وحين أهداني حبش مجموعته الشعرية الصغيرة"صواريخ العائلة السعيدة"الصادرة عن مسابقة"ديوان"للشعر كنت أظن ان صاحبها يكبدني عناء حمل المزيد من الاصدارات التي يحرص اصحابها على ايصالها الى اكبر عدد ممكن من القراء والكتاب والمتابعين. اول ما فعلته قبل قراءة المجموعة هو قراءة الكلمة التي كتبها الناقد العراقي المعروف حاتم الصكر على غلافها الاخير والتي يشير فيها الى"حداثة تدل على وعي بالكتابة الجديدة، وتستثمر المتاح من امكاناتها وفي مقدمها الحس الساخر الذي يمتزج بسوداوية وحزن لا تخفيهما الملاطفات وروح النكتة لدى الشاعر". ثم يخلص الصكر الى اعتبار الشاعر صاحب خصوصية لا نجد معها صدى من الآخرين او اجتراراً اسلوبياً وامتثالاً للسائد في القصيدة العربية الراهنة". كان يمكن بالطبع ان اعتبر مثل هذا التقديم النقدي نوعاً من المجاملة التي لا يبخل بعض الشعراء والنقاد المكرسين في اغداقها على الشعراء الجدد على سبيل التشجيع حيناً والخجل أو الاحراج حيناً آخر. ولكن قراءتي المتأنية لمجموعة علي حبش، الذي سبق له ان اصدر مجموعة اخرى غيرها، جعلتني متيقناً تماماً من صدقية الصديق الناقد، التي اشتهر بها في أي حال، ومن كون تجربة حبش على قصرها وطزاجتها هي واحدة من التجارب الغنية واللافتة والاكثر اتصالاً بمصدرها الحياتي. بل ربما كان ذلك التوصيف الاخير، اضافة الى الموهبة بالطبع، هو السبب الرئيسي في رفد قصيدة حبش بهذا الكم من المغايرة والادهاش والقدرة على اصابة المعنى من دون تفريط في الصورة او الشكل. لم يأت علي حبش الى الشعر من الموقع المألوف والمتداول الذي يجعل قسماً كبيراً من الشعر العراقي، والعربي ايضاً، رازحاً تحت وطأة التفجع الكربلائي والانفعال المفرط والكرنفالية الصاخبة، بل هو يأتي من السخرية المبطنة بالسخط ومن المفارقة التي لا تحمل معنى الطرافة وتصيّد النكات بقدر ما تسلط الضوء على عبثية الواقع وقسوته ولا معقوليته. قد يتهيأ للقارئ احياناً ان حبش ليس بريئاً تماماً من مثل هذا التصيد الذي يشبه النكتة"الرحبانية"في لعبه على الالفاظ كما في عنوان قصيدته الاولى"عيد الفقر المبارك"، حيث لا يخفى على احد ذلك الجناس الناقص الذي استمرأه الشاعر في تحويل عيد الفطر الى عيد الفقر لدى الكثير من الفقراء والمعوزين. لكن ما ينقذ الشاعر من الوقوع في فخ الطرافة اللفظية هو القصيدة نفسها التي تجيّش بالصور والدلالات الموحية بقدر ما تجيش بالصدق الآتي من المعاناة الفعلية لا من استدعائها في اللغة:"ها هو في الخامسة والثلاثين من حزنه/ يدخل عام ألفين/ بجورب قديم وحروب كرتونية/ لقد وصل العيد قرب الجامع يا أبي/ السعادة تهندس المكان/ والمنزل عامر بالصدى../ نباح تسمعه المنافي فقط/ اللغة تبتكر سكاكين جديدة ومعاول/ والشتاء أكل مجده بالشتائم وأعواد النقاب...". سيكون من الصعب على قارئ علي حبش ان يتوقف عن قراءة قصائده، التي لا تستغرق لقصرها وقتاً طويلاً في أي حال. لكن هذه القصائد تستمر على سوية واحدة وتنتزع مناخاتها من واقع العراق في السنوات القليلة التي سبقت الاحتلال. ومع ذلك فبقدر ما نحس أننا ازاء فظاعة الواقع المحلي المحدد في مكان وزمان معينين نشعر في الآن ذاته اننا امام نصوص متحررة من محليتها أو راهنيتها ومقذوفة في العراء الانساني التام. ثمة بالطبع ما يشير الى كل حدث بعينه، الى كل لقمة أو دمعة أو صاروخ يمزق جسداً الى اشلاء. ثمة ملموسية حادة تنغرز كالإبرة في عقل القارئ وجسده وقلبه، لكن ثمة دائماً هذا الهروب المستمر من فخ التهويل العاطفي والانفعالي لمصلحة السخرية والدعابة القاسية والهزء من العالم:"المبنى الذي نخره الصاروخ تمثال ينتفخ/ والمارة ببرود يمررون المشهد كأنهم في نزهة/ تحت اقدام شارع المتنبي يتكاثر الزمن/ المجد يحتفل بالخردة/ ومن بناية لاخرى ينطفئ الجسد/ كتلة اللحم في الفخذ تتحرك بانتظام رشيق/ تحرر شهوتي/ أمتص اللعاب/ يأتي الباص ويختلف المشهد". نتلمس في مثل هذه المقاطع مقدار افادة علي حبش، ومعه حفنة قليلة من شعراء قصيدة النثر الجيدين، من التقنيات المعاصرة للقصيدة الحديثة والتي تعرف تمام المعرفة كيف تفيد من السينما واللوحة وفن التصوير والملصق والكولاج الذي يقتطع من المشهد مقدار حاجته تماماً ويهمل البقية. ربما نعثر في غير مكان من المجموعة على ما يذكرنا بالصور والتشبهات المدهشة لمحمد الماغوط أو باعادة تركيب العالم من منظور طفولي كما عند شوقي أبي شقرا ولكن ما يعصم علي حبش من الوقوع في فخ المشابهة وتقليد النموذج السابق هو صدقية التجربة نفسها واندفاعة الحياة في عروقه واصغائه المضني الى دواخل نفسه. ان عالمه حقيقي ونابض وشديد القسوة بما يكفي لايصال الرسالة لمن يرغب في استلامها. ليس ثمة من مجانية هنا ولا اسراف في استخدام الجمل أو افاضات لغوية محضة بل قدرة على استنفار الحواس الخمس بما يجعلها قادرة على التقاط ما تريده من تفاصيل الحياة اليومية ووحولها واحلامها المجهضة حيث المجد يقترن بالعملة والشعر عطلة رسمية واكياس النفايات تموت حزناً تحت المغسلة والحافلة ترمم الوداع والحصان يتهجى المنازل بالدراهم والسياط. قد تكون القصائد الشديدة القصر في المجموعة اقل قدرة على اصابة المعنى من مثيلاتها الاطول، لكن الامر لا ينطبق على الجميع بل نلمح تفاوتاً في الدقة والكثافة بين"برقية"واخرى. ربما لأن هذا النوع من الكتابة هو من الصعوبة الفائقة بما يتطلب نضوجاً اكبر وتمرساً اكثر على الاختزال والتجريد والوصول الى لب اللغة. لكن هذه الملاحظة العابرة لا تقلل من شاعرية علي حبش المتميزة ومن نجاحه الاكيد في نقل عدويين اثنتين الى قرائه: عدوى الالم والقسوة ورعب الواقع العراقي وعدوى الدهشة والمباغتة ومتعة الكتابة.