تزدحم الصحف اليومية والمجلات والدوريات ووسائل الإعلام العربية على مختلف ألوانها ومشاربها بعشرات المقالات والدراسات والتقارير، التي تبحث في ما آلت إليه العلاقات العربية والاسلامية مع الغرب، وعلى وجه الخصوص العلاقات العربية - الأميركية. وعلى رغم التنوع الواسع نسبياً في منهج القراءات والنتائج التي تخلص اليها، إلا أنه يمكن تصنيف غالبيتها في ثلاث خانات رئيسية، أولها تنطلق من موقع المتهم الذي يتوقف على حجية دفعه طلباً للبراءة مصيره وجوداً وعدماً. وثانيها تنطلق مقولاتها من موقع المتهم للآخر بتحميله مسؤولية العجز العربي التاريخي والمستمر، كإرث ثقيل من حقبة الاستعمار الأوروبي الغربي. والثالثة من موقع الإقرار بدونية الحاضر العربي وتخلفه صراحة أو مخاتلة. ويُستحضر في سبيل ذلك سيل من المقارنات والمقاربات والحقائق والاستبيانات والأرقام، لإثبات كم تخلفنا عن ركب الحضارة ثقافة وفكراً وعلماً وتكنولوجيا وتقانة وحداثة الخ... إن محاولة أصحاب المقولات السابقة تأسيسها على وقائع ملموسة، لا تنفي حقيقة أنها تبقى أحادية الجانب تنمط العلاقة وتضعها في اطار سكوني يفتقد لرؤية التغيير الاستشرافية، واستسلام لوطأة الراهن وخيبته. وفي كثير من الأحيان تتحول الواقعية المدعاة في شكل تناولها وتحليلها للأزمات التي نمر بها الى أزمة بحد ذاتها تستجر المزيد من الأزمات، لأنها غالباً ما تصل الى تعميمات خاطئة أو منقوصة. وعلى سبيل المثال حسب واقعية البعض، من المشروع القول إن إحدى النقاط الساخنة في الصراع مع الغرب يعود الى كون الديكتاتورية صفة أصيلة لازمت مجتمعاتنا وصبغت حياتنا وفكرنا وثقافتنا ولا فكاك منها، وبالتالي عبثية التغيير بالمراهنة على الحراك المجتمعي الداخلي في مجتمعات شوهت فيها المفاهيم، بعد أن حولتها الطبقات الحاكمة الى مجرد شعارات جوفاء، ولم تستطع المعارضات على اختلاف مشاربها الايديولوجية أن تغير من واقع الأمر شيئاً، حتى أضحى الكثير من القيم والمفاهيم مثل: التعددية، الديموقراطية، الحداثة مجرد شطحات ذهنية تدور في اطار ما هو مفترض، ولا تخرج عن كونها مماحكات النخب الثقافية بالمعنى الواسع للمصطلح، فاقدة لأي قيمة جماهيرية ببقائها بعيدة عن معيارية واضحة تستند الى نقد تجربة حية صواباً أو خطأ، ضمن واقع ملموس. لا نستطيع هنا أن ننكر حقيقة افتقاد مجتمعاتنا للفكر الحداثوي والتعددية والديموقراطية... الخ من نقائص. ولكن أليس محقاً هنا تساؤلنا، هل من الواقعية والعلمية التنظير ل لا جدوى التغيير والعبثية؟ أليست إرادة التغيير والسعي لها أهم ميزات الفكر الحداثوي؟ وهل من الجائز الانطلاق في اصدار الأحكام على هذا النحو، على رغم وجود الكثير من الصفات والظواهر المشتركة بين المجتمعات العربية، وكذا بين أنظمة الحكم. أليست تجربة المغرب والجزائر - نسبياً - في تشريع الحياة الحزبية، وما أحدثه هذا من حراك يستحق التظهير والتمايز على رغم كل ثغراته ونواقصه وما آلت اليه التجربة؟ أليس هذا ثمرة نضال حزبي وجماهيري يجب أن يتواصل ويصوب ويعمق مساره؟ وفي الجهة المقابلة ينطلق البعض من أن الظروف المستجدة بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 حركت الحالة المجتمعية والسياسة العربية الراكدة، وبأن إقرار الكثير من الحكومات العربية بضرورة التغيير لم يكن وليد معطى حراك اجتماعي داخلي، بل أساسه ضغوط خارجية أميركية - أوروبية على وجه التحديد، وتعاطي الأنظمة العربية مع الضغوط الأميركية والأوروبية الغربية يفتح الطريق أمام مخطط مشبوه لتفكيك الوعي العربي والاسلامي، وأخذاً ب"منطق الحد الأقصى"يصبح مطلوباً تحديد موقف قاطع من العلاقة مع الغرب قبولاً أو رفضاً. هنا من المهم أن نلاحظ كيف يتم السقوط في فوضى الأحكام والتعميمات الخاطئة القائمة على الخلط المقترن حكماً بالتشويه. فالحضارة الغربية - من دون تمييز بين مكوناتها - تصبح في نظر هؤلاء معادلاً للاستعمار الغربي، وأفكارها وقيمها من دون تمييز شعارات زائفة لحكم العالم، ومعاول هدم لخصوصية مجتمعاتنا لاحظ هنا كيف يتم الخلط بين الحضارة الغربية وبين مفهوم العولمة الأميركية. بل يتم الذهاب ابعد من ذلك بنصب الاختلاف الديني حاجزاً جديداً بوجه التفاعل مع الحضارة الغربية. ويتناسون أنه إذا كان صحيحاً أنه يجب عدم اسقاط البعد الإسلامي عن الهوية والثقافة العربية، وهي صفة اختلاف مع الغرب المسيحي، إلا أنه يجب النظر الى هذا الاختلاف في اطار التنوع الانساني، الذي لا يلغي حقيقة علمانية الفكر والثقافة والأدب والتكنولوجيا والحضارة الانسانية عموماً بكل مكوناتها. اضافة لما سبق يجب الانتباه الى حقيقة جوهرية ومهمة وهي أن الثقافة المسيحية تشكل جزءاً عضوياً وفاعلاً في الثقافة العربية والإسلامية، وهذا يمثل عنصر قوة وغنى لها تفتقده الثقافة الأوروبية الغربية، التي يعتبر الإسلام بالنسبة اليها غريباً ووافداً، توطينه وإدماجه في المجتمع يحتاج الى جهد ووقت ومعاناة، شاهدنا جزءاً منها في معركة الحجاب والإساءة الى الإسلام والنبي العربي الكريم صلى الله عليه وسلم، التي لم تنته فصولها بعد. وبالتالي فإن المسيحية العربية يمكن لها أن تشكل أحد جسور التواصل مع أوروبا، وقد لعبت هذا الدور سابقاً بنجاح. ويذكر أن الجماعات الصهيونية والمتصهينة الأميركية والأوروبية الغربية تنبهت باكراً لهذه الحقيقة، لذلك حاولت أن تعيد تعريف الثقافة الأوروبية لتصبح:"ثقافة يهودية - مسيحية"، وزرع ذلك في العقل الأورو-أميركي لوأد إمكانية قيام علاقة تفاعلية سليمة عربية واسلامية مع الغرب. مثال آخر، أصحاب القبول - بحده الأقصى - بالعلاقة مع الغرب من دون شروط، يحمّلون العرب مسؤولية الخلل الحاصل، حين يرجعون سبب اختلال العلاقة الى عطب مستديم أصاب المجتمعات العربية، جعلها غير قادرة على صوغ علاقة تفاعلية بناءة مع الغرب، بحكم الهوة الواسعة بينهما في التقنية والتكنولوجيا والانتاج الفكري والثقافي، وما يقابل ذلك من قيم ونظم اجتماعية. وتشويه اصاب الفكر الجمعي العربي جعل منه فكراً مشوهاً ومعزولاً يفتقد الى الحداثة والعقلانية، ومن مظاهر هذا التشويه النظرة القاصرة الاحادية الجانب الى الحضارة الغربية مما أدى في النهاية الى تنميطها في غير صورتها الحقيقية بالادعاء أن الغرب استخدم القيم الانسانية كقيم مطلقة لممارسة هيمنته على العالم. وبالتالي فإن الروح العدائية للغرب وأميركا على وجه التحديد تحركها مشاعر الدونية والحرمان ليس إلا تعبيراً عن الوضعية الحرمانية التي تثير في المحروم مشاعر الحقد والرغبة بتدمير ما لدى الحارم، كما تجعله مهيأ لتلقف كل ايديولوجيا عابرة في الطريق، تغذي لديه مشاعر التقدير الذاتي المبالغ فيه، والاحتقار العكسي للآخر، عدو الذات. لاحظ هنا كيف يتم تجاهل السياسات الأميركية كسبب للعداء والكراهية! منهج دوني يبرر الاستلاب للآخر، لا يمكن له أن يؤسس لعلاقة تفاعلية مع الآخر حتى مع عدم اشتراط مبدأ التكافؤ، الذي لن يكون موجوداً في بادئ الأمر واقعياً. ان قيام علاقة تفاعلية مع الغرب ممكن إذا تم الانطلاق من ادراك مجموعة الحقائق التالية: اولاً: ان مجموع القيم الاجتماعية والأنظمة والقوانين الوضعية في الدول المتقدمة التي تحكم العلاقات بين الفرد والمجتمع حقوقاً وواجبات، وتحدد مسؤولية الدولة حيال المجتمع أفراداً ومؤسسات، هي نتاج صراع وحراك اجتماعي طويل احتل فيه الصراع بين الدولة والكنيسة فصولاً عدة، انتهت بتحرير الشعوب الأوروبية الى حد كبير من سطوة الفكر الديني الذي كانت تمثله الكنيسة، وولادة الدولة العلمانية. لذلك يجب الإقرار بأن العلمانية صفة تميز معظم القوانين الوضعية الأوروبية، على اختلاف أشكال التعبير عنها وتفاوت مستوياتها، وتبعاً لدورها المتقدم فكراً وتشريعاً واقتصاداً وتكنولوجيا احتكرت الدول الغربية صياغة أسس العلاقات الدولية نظماً وقوانين، وما يزال الى وقتنا هذا دورها هو المقرر. ثانياً: إن التحدي الذي تشكله محاولات فرض المفهوم الأميركي للعولمة بشكلها المتوحش وبأحكامها الشمولية، التي تقدم الولاياتالمتحدة الأميركية كقوة نهائية هي بالنهاية عولمة غير أخلاقية، والممانعة الأساسية التي تقف في وجهها تأتي من معسكر الدول المتقدمة، التي تدرك مجتمعاتها المخاطر التي يمثلها المفهوم الأميركي على الحرية والتنوع الانساني ومستقبل البشرية والخصوصية الثقافية، وتسليع كل شيء. ومرة ثانية يجب أن نتنبه الى أن العولمة كحركة تاريخية ثمرة للتطور الانساني لا يمكن منع تقدمها، ولا ينبغي السعي الى ذلك، والمطلوب تصويب المفاهيم بما يلجم العولمة الأميركية الهادفة الى السيطرة على العالم، والتأسيس لعولمة بديلة تحفظ انسانية الانسان. ثالثاً: يجب النظر موضوعياً الى الثقافة الغربية بمحتواها الانساني العميق، وبكونها ليست منتجاً غربياً صرفاً مقطوع الجذور عن الثقافات الأخرى، بل بما هي ذروة الثقافة الانسانية المستندة ليس فقط الى ما سبقها من ثقافات بل الى ما يزامنها أيضاً، وصبت في نهرها كنتيجة لعملية المثاقفة عصارة ثقافات العالم ومنتج مثقفيه بما شكلته من عامل جذب لأسباب عدة. لذلك فإن مناصبة الثقافة الغربية العداء من منطلق النظر لها كمنتج غربي صرف، والخلط بينها وبين مفاهيم العولمة الأميركية تعميم خاطئ يفتقد للموضوعية العلمية. رابعاً: الانطلاق من حقيقة ضرورة المواجهة، وبالتالي التأسيس لها، والمواجهة هي بالأساس مواجهة مع الذات، يحتل فيها الفرد دوراً مميزاً في إعادة بناء المجتمعات العربية التي أوصلها استبداد الأنظمة الشمولية الى الإفلاس، بفقدان الفرد لقيمته الاجتماعية، وتحويله الى مجرد أداة، فاقد لأبسط صفات انسانيته. * كاتب فلسطيني