حال السياسة الأميركية أشبه بالشيزوفرينيا ما بين الداخل والخارج، على غرار د. جيكل في النهار، مستر هايغ في ظلام الليل. فهي تمثل أميركا الخارج الحضارة الغربية المسيحية يدعى هنتنغتون؟ وهل مصالحها الحيوية في العالم واستغلال الشعوب والتحكم بأموالهم وأرزاقهم: يعبر عن المثل العليا للديموقراطية والعدالة؟ والإسلام لم يشارك ولن يشارك في بناء حضارة قائمة على تدمير الإنسان أو استقلال الإنسان للإنسان، فباعتراف اليهود أنفسهم لم تحصل مجازر بينهم وبين المسلمين بل العكس، والى حين اعلان دولة اسرائيل، كان اليهود والمسيحيون يعيشون بأمان في ظل الحكومات الإسلامية. وليس هنالك سابقة تاريخية في مستوى الهولوكوست، وقد كان اسلام غرناطة نموذجاً لتعايش الأديان الثلاثة، ولو ان المسلمين تصرفوا كما تصرف المستعمرون الأوائل في أميركا مع الهنود الحمر، لأصبحت أوروبا الشرقية واسبانيا جزءاً من العالم الإسلامي ما لم يفعله العرب والأتراك، فعله الاسبان في المسلمين بعد سقوط غرناطة سنة 1492. ولكي يحدث صدام وصراع بين الحضارات يجب ان يفشل الحوار في البداية. ولكي يكون حوار يجب وجود طرفين يتحاوران ويلتقيان حول الأمور المشتركة ويختلفان حول الأمور الأخرى، ولكن الى الآن لم يحصل حوار. فالشرقي يفهم الغرب ويحاكيه في الكثير من عاداته وتقاليده، ويقتبس عنه الكثير من العلوم والفنون، ويحاول باستمرار التعرف على مفاهيمه الحديثة. ولكن، في المقابل، هل يفهم الغرب الإسلام وهل حاول فهمه، باستثناء بعض المستشرقين؟ نسمع الاشادة بالحضارة الإسلامية على لسان المسؤولين السياسيين الغربيين خلال زياراتهم البلدان الإسلامية، لكن الاشادة تتم بعد التوقيع على استثمار أو صفقة أسلحة. رجال الأعمال والمفكرون المسلمون يعرفون الحضارة الغربية أكثر مما يعرف نظراؤهم الغربيون لحضارة الإسلامية. وهذا الجهل بالمحاور ظهر فجأة بعد كارثة نيويورك وواشنطن، تبين للأميركيين وللأوروبيين جهلهم للإسلام، ونتيجة لهذا الوعي بالجهل والتقصير، حصلت هجمة لم يسبق لها مثيل على المكتبات، وافرغتها من نسخ القرآن، ومن كتب عن الإسلام والمسلمين. كيف تتحاور مع انسان يجهلك ويعتبرك متخلفاً، فقط لأنه يعتقد انه الحقيقة المطلقة؟ هذا النفي للآخر، لوجوده، لقيمه، هو المؤشر الأول لاندلاع العنف. وهنا يتبين ان ما قلناه يناقض ما توصل اليه هنتنغتون من اتهام للإسلام والمسلمين، فلو اتبع الضمير: فلو سرد التناقض الحضاري في أميركا وتفكك المجتمع الغربي، لوصل الى نتيجة تختلف تماماً. أولاً: لأكتشف ان اميركا التي تستقطب الآن عداء العالم تفتقد لغة حوار مع الحضارات فهي لا تنظر الى العالم الثالث، الا من منظار مصالحها الاقتصادية، اي الثروات والاسواق، وقد أشار هنتنغتون الى التناقض في السياسة الخارجية الاميركية لكنه لم يشأ ان يستخلص منهجيتها في العمل. ثانياً: ان الغرب على رغم تقدمه التكنولوجي وقيمه الحضارية اصبحت ديموقراطيته تتقلص تدريجاً لتصبح اسيرة فلسفة الاستهلاك ورهينة الفكر الرأسمالي. ثالثاً: رفاهية الشعوب الاوروبية قامت ليس فقط من مجهودها العملي، انما على امتصاص ثروات أو موارد الدول الفقيرة. رابعاً: الديموقراطية الحديثة لم تعد نموذجاً لكونها اصبحت في خدمة شعوب وتأمين رفاهيتها على حساب شعوب اخرى. فهي ديموقراطية نرجسية. خامساً: تتحكم في الغرب فلسفة اللذة الفردية الانانية، على حساب العلاقة بالجماعة، وعلى عبادة الربح والنجاح الساطع. سادساً: يعاني الغرب فلسفة مادية تضيق الخناق اكثر فأكثر على القيم الروحية والمناهج الفلسفية فأصبح الشعور بالذنب شبحاً يسيطر في الخفاء، يتحكم بمسلك كل فرد، يحد من تعاطيه مع متعة الحياة، وهذا ما حدا بفرويد الى كتابة مقالة الشهير سنة 1928 "قلق في الحضارة". الحوار الصحيح بين الحضارات، ليس كما يتصور عامة الناس انه بين الاسلام والمسيحية، بل بين الاسلام والمسيحية من جهة والحضارة الغربية المادية والخطاب العلمي من جهة اخرى، فهذا الاخير هو الذي يتحكم بمصير الشعوب وعلاقة الانسان بالدنيا والآخرة. هو خطاب عقلاني علمي يعتمد بالدرجة الاولى المكتشفات العلمية التي تخضع للتجربة. هذا الفكر ظهر في اواسط القرن التاسع عشر نتيجة اعمال فلاسفة امثال ديكارت وهيغل وكانط وغيرهم. وكان من نتيجته الطلاق بين الدين والعلم. ولو نظرنا الى مجمل الافكار العلمية التي ازدهرت في القرن العشرين، لوجدنا ان القرن التاسع عشر كان استنبطها وبشر بها. ما خلق شرخاً بينها وبين الدين. وعلى سبيل المثال اذكر حدثين. الأول: ظهور نظرية النشوء والارتقاء لداروين وسبنسور الى حيز الوجود. وهي صدمت اتباع الاديان السماوية، لأن النظرية تخالف المعتقد القائل إن الانسان يتحدر من آدم وحواء، بل تقول ان منشأ الانسان يعود الى فصيلة شبيهة بالقرد، والعلم الحديث ذهب ابعد من ذلك، ليعود بتاريخ الانسان 3 مليارات سنة عندما كان هلاماً يسبح في البحار. الثاني: مدرسة هولمهولتز التي تضم الكثير من كبار العلماء: أمثال بروك استاذ فرويد وريمون دبوا وغيرهما، والتي جعلت من العلم ديناً بديلاً. فالحياة في نظرهم كناية عن تيار كهربائي نتيجة تفاعلات فيزيائية وكيماوية. وإذا كانت للعلم اهميته في تقدم البشرية تقدم الطب منذ اواسط القرن العشرين اكثر ما تقدم طوال عشرة آلاف سنة فإنه لا يخلو من المخاطر التي يمكن ان تهدد البشرية لاحقاً. فمن مميزات الخطاب العلمي انه لا يعطي اية اهمية لقيمة الانسان كانسان، وهذا ما يفسر الحروب المدمرة التي عرفها القرن العشرون. فالقنابل تحصد الآن من البشر بكبسة زر من دون ان تحرك اي شعور بالذنب او بالمسؤولية لدى المنفذين. فالبشر مجرد أعداد تدخل في حسابات وأرقام تخرج من محتواها الانساني، إضافة الى الاكتشافات الجينية والبيولوجية، التي ان استمرت من دون رقيب يمكن ان تشكل خطراً على الانسانية، ما دفع عدداً من الدول الى تأسيس جمعيات رقابة خلفية للحد من الضرر وتوجيه الاكتشافات الى ما هو خير البشرية نرى ان الدين المسيحي له موقف مغاير للكثير من النظريات المسماة حضارية، لكنه مهمش. والغرب قبل ان يشغله هاجس الأمن بعد احداث 11 ايلول سبتمبر كان مشغولاً بهجوم الحضارة وتأثيرها في حياة الناس والبحث عن مخارج فكرية ونفسية لكي يصبح الانسان اسعد مما هو عليه الآن، لأن العلم لا يتوقف ولن يتوقف ولن يعود الى الوراء. ولكن التعامل معه اصبح يفرض نظرة وجودية جديدة غير تلك السائدة والمبنية على الاستهلاك، فعلى رغم الاكتشافات التي تؤمن رفاهية الانسان، الا ان القلق الناجم عنها يجعل هذا الانسان اقل سعادة من ذي قبل. فما تمنحك اياه الحداثة في مكان تأخذه منك في مكان آخر، هذا ما سمعته شخصياً من جاك لاكان. الاستهلاك هو السائد، لكن المقلق في اوج الازمة الحالية هو العقد او الزواج المحرم الذي حصل ما بين الخطاب العلمي والفكر الرأسمالي. وأصبح الاول تحت سيطرة الثاني ... تحت شعار الاستهلاك والعولمة. هذا من جهة تعامل الغرب مع الحضارات الاخرى ومع ازمته الحضارية، اما من جهة الاسلام وموروثه الحضاري فالأمور تختلف. والحضارة هي الموروث الذي نشأ عليه من ثقافة وفنون وعادات وتقاليد وفلسفة تجاه الكون والدين وحتى التاريخ بكل احداثه المؤثرة الواقعية والاسطورية الخ... كلها مخزون وراثي تحمله اللغة فنقتبسها قبل ان نقرأها، فتتحدد هوية ننتمي اليها قبل ان ندرك محتواها. واذا كانت هنالك مجموعة حضارات فلا ضرر من ان تتحاور فتستفيد كل واحدة من مكتسبات الاخرى، فالحضارة العربية مثلاً لم تعرف الازدهار في العصر العباسي، الا بعد ان فتحت ابواب الحوار على الحضارات الاخرى مثل الفارسية والبيزنطية والاغريقية. نجد الكثير من الاسئلة في التاريخ. والحوار الحضاري معلّق في ايامنا، والعلاقات تقتصر على المصالح الاقتصادية والاحلاف السياسية من دون المس في جوهر الموضوع الحضاري الذي يميز هوية كل طرف عن الآخر. فلا اعتراف بالآخر المختلف، والعنف هو الجامع الأوحد. فعندما يقول الرئىس بوش: هي حرب الخير ضد الشر، او "معنا او مع الارهاب"، فهو كأنه يدعو الى الارهاب، لأن الغرب هو كل الخير ولأن الشرق هو كل الشر، مقولة تدخل في الفلسفة الهيغلية عن "النفس الجميلة" La Belle Ame. فالشر موجود في أميركا وفي الغرب فعلاً قبل احداث 11 ايلول، وتاريخ الحروب يشهد على ذلك، وحين يصنف بن لادن العالم ما بين كفرة ومؤمنين، فهو في الواقع يردد مقولة الرئىس بوش اذا ما شوهدت في مرآة. اين الحوار الحضاري؟ انه موجود ومتواصل على غير علم منا، لا سيما بعد ان اجتاحت العولمة الحدود الجغرافية وتقاربت المسافات، ودخل الاعلام المرئي والمسموع والانترنت الى كل بلد والى كل بيت، ليفتح نافذة على ما يفكر به الغرب، وعلى معتقداته في شؤون الحياة والجنس والموت. وإطار الحوار هو الذات في مفهومها النفسي، فكل واحد منا عندما تسنح له الفرصة للعيش في الغرب او لرؤية مشاهد من الغرب، او قراءة اعمال الغرب الادبية والفلسفية: ينطلق عنده الحوار الذاتي بين الموروث والمعتقد وبين ما هو في حضارة الغرب. فنرى انفسنا امام فروقات متعددة، نتساءل ندهش، نتقبل، نكتسب، ننفر، نشمئز، نرفض نعجب، الى غير ذلك من المتواردات الشعورية واللاشعورية ضمن اطار حوار ذاتي ما بين المقبول والمرفوض. وهنا يجب ان نشير الى ظاهرة تميزنا في الحوار عن الغرب، وهي ظاهرة فريدة. فالعالم الاسلامي والعربي اصبح مرهوناً برفاهيته وبتسيير شؤون حياته بالانتاج التكنولوجي الغربي. فالرفض الكلي يؤدي الى مأزق فكري وحياتي، كيف يمكنه قبول الانتاج الصناعي الغربي، وتأمين رفاهيته بأحدث التكنولوجيا مكيف، سيارة، طائرة، تلفزيون، الهاتف المحمول وغيرها الخ... وفي الوقت نفسه رفض الافكار التي انتجتها؟ هذا الارتهان الوجودي مهدد بأن يتحول الى استعباد فكري، وقد يكون الجواب على ذلك العنف المنظور وغير المنظور الى الآن. والمسرح الأول لحوار الحضارات هو الذات نفسها لأنها مخزن الفكر، وتحمل في تكوينها التراث الحضاري الموروث والمكتسب. ولكي تستطيع ان تحاور يجب ان تتحرر من المعتقدات السلفية، اي التي كانت صالحة للأسلاف، وبحكم مرور الزمن فقدت اهميتها. وهذا يتطلب معرفة ونوعية ومناخاً ديموقراطياً يسمح للفكر ان ينطلق. وعلى رغم هذا كله، يتوقف الحوار عندما يصطدم بمعرفة ليس لها تصور مسبق، او ان التسليم بها يؤدي الى زعزعة معتقد او تقاليد تربينا عليه. عندئذ يشعر واحدنا بالارتباك وتطرح امامه مسألة لا يمكن حلها، فيتحول الحوار الى صراع ذاتي، يترجم في خطاب معاد رافض او في دعوة الى العنف. ومن هذه المسائل هناك أربع مطروحة على المفكرين العرب والمسلمين: المنهج العقلي العلمي - نظام حكم الأكثرية - طبيعة العلاقة بين الرجل والمجتمع من جهة والمرأة من جهة اخرى - المقدس في مظاهره المختلفة. وماذا بعد؟ اننا، نحن والعالم كله في بدء مرحلة جديدة، والكل تحت عين أميركا... * محلل نفسي لبناني.