"Tov la Yeoudim" بالعبرية معناها "هذا جيد لليهود"، وهو تعبير متداول كثيرا بين اليهود في أنحاء العالم، بجدية أحيانا وبسخرية من النفس أحيانا أخرى، ولعله واحد من اشد المؤشرات اللغوية على امتزاج شعورين هما العزلة والتهديد، أو ما يشكل خاصية التركيب النفسي كما بني في تلك المجتمعات المغلقة والمنبوذة، أي الغيتو. وبالمناسبة واستطرادا، لا يهم تفحص مدى ما يحوز عليه هذا التركيب النفسي من الحق أو الصناعة بل حتى الابتزاز، فهذا جدل عقيم إلا في الأوساط العلمية المختصة، لأن الأكثر اعتبارا في سياق الواقع الجاري، السياسي والسوسيولوجي، هو سيادة كيفية معينة لإدراك الذات تصبح قوة مادية فاعلة. السيد يوسي بن آري أحد أشرس جنرالات إسرائيل، شرح منذ أيام لجريدة"هآرتس"كيف أن السيد احمدي نجاد هو أفضل من يقوم بالدعاية لإسرائيل، والعنوان كان"أحمدي نجادTov la Yeoudim". وهو كان يعلق على المؤتمر الذي انعقد منتصف الشهر الجاري في طهران. ربما لم نكن بحاجة للجنرال لنعرف أن ذلك المؤتمر البائس ليس إلا هدية صافية لإسرائيل. فقد كتب العديدون بلهجات متفاوتة الحدة عن الأمر، أذكر منهم عزمي بشارة في جريدة"الحياة"يوم 14 كانون الأول ديسمبر الجاري، في مقالة عنوانها"وجوه إنكار المحرقة النازية"، تميزت ببيداغوجيتها الصبورة لتقول، رغم ذلك، وبوضوح لا يقبل التأويل أن"إنكار المحرقة خطوة سياسية غبية ... وطهران ليست صاحبة تقاليد في بحث المحرقة، ولا الموضوع ملح أكاديمياً في إيران، وإنكار المحرقة ورد خطابة قبل المؤتمر، ولذلك فالمؤتمر ليس بحثا أكاديميا بل تظاهرة تسيء للمسلمين والعرب وتفيد النازيين وأوروبا اليمينية والحركة الصهيونية". فإذا كانت طهران ومن يطبل لمثل هذه الأفعال لا تستمع لا لأصدقاء ولا لأعداء، فما العمل؟ أضعف الإيمان: رفض الفعل بوصفه مسيئا سياسيا وبوصفه أيضا وقوعا في البربرية... التي تنتمي إليها إسرائيل والولايات المتحدة وقبلهما النازية... وهذه ليست لائحة مكتملة. لكل واحدة من تلك المذكورة خصوصيتها، ولكنها تشترك في امتلاك ملامح بربرية. يمكن الرجوع إلى الغزو الأبيض لأميركا وتاريخ إبادة السكان الأصليين، وتاريخ العبودية الحديث الأفول، وحتى خطابات بنجامين فرنكلين، كلحظات مؤسسة تتبقى منها مرتكزات قابلة للنبش والتوظيف، للقول إن الأمر لا يتعلق بالجريمة الفظيعة المرتكبة حاليا في العراق وقبلها في فيتنام. وكذلك بالنسبة لإسرائيل التي تستند جرائمها بحق الفلسطينيين والعرب إلى جرائم سابقة عليها... بحق اليهود. إن أول منكري المحرقة، أثناء وقوعها، كانوا الصهاينة أنفسهم لأنهم لم يكونوا يريدون وقتها القيام بشيء لوقف الجريمة. وهذا ثابت في الوثائق التاريخية لفترة الحرب الثانية. وفي ذلك التاريخ وعلى سبيل المثال، قال ديفيد بن غوريون"نعلم عن هذه الأشياء بالطبع ولكن هذه المسألة ليست عاملا مركزيا في حقيقة اليشوف". واليشوف هو المجتمع اليهودي الصهيوني في فلسطين، أما تلك"الاشياء"كما يقول بن غوريون فهي... المحرقة. لكن، وعلاوة على ذلك، يمكن الرجوع أيضا إلى المعاملة البشعة التي ما زالت إسرائيل تخص بها الناجين من المحرقة النازية وأبناءهم، منذ وفودهم اليها كملجأ آمن مفترض. وكان واضحا أنهم شهود مزعجون. إلا ان الامر مستمر، وقد ذكرت"هآرتس"مؤخرا أن"الدولة"ما زالت تحول أموال التعويضات التي تدفعها ألمانيا لضحايا المحرقة إلى بنود أخرى، تاركة العديد من هؤلاء في أحياء مهملة يعانون من الجوع بالمعنى الحرفي للكلمة. ثم رفض الخضوع إلى إرهاب المجاملة أو اعتبارات أخرى مشوهة. إرهاب ما يُخرَج بسهولة من القبعة كلما حصل مثل هذا النقاش في بلادنا، فيتهم أصحابه بأنهم يخضعون لمنطق في التفكير يتبنى المقولات الغربية بوصفها مطلقات، تتوزع ككل المطلقات بين مقدس ومحرم. فينعتون بأنهم إما ملتحقون بالتكوين الفكري للغرب، متغربون كما يقال، أو أنهم يسايرون الغرب تزلفا أو خشية. والأحرى أن ينساق الكتاب إذا كانوا فاقدين للصدق إلى الموقف الأسهل والأكثر غرائزية وتزلفا للشعور العام السائد، الذي يعوض الفشل والانكسارات حيال إسرائيل بتصعيد التهديد والوعيد اللفظيين. والأحرى أن يتزلفوا أو يخشوا السباحة عكس التيار في بلدانهم، ولا يصح على معظمهم نعت"النخب المتغربة"التحقيري، حين يكون هؤلاء منخرطين بدأب وعلانية في الصراع من أجل فلسطين وضد الصهيونية، وضد منطق الحرب الشاملة والدائمة، وضد الحروب الفعلية المندلعة هنا وهناك. أخيرا، لقد ناقش مفكرون كبار وجادون، وهم على ذلك مناضلون ملتزمون، كنعوم تشومسكي ونورمان فنكلنشتين، وكلاهما يهودي الولادة، ولعلها ليست مصادفة فحسب بل أيضا إحساس بالمسئولية الخاصة، مسألة التوظيف الصهيوني للمحرقة النازية، وقبلها لتاريخ مفترض من الاضطهاد الدائم - فلنتذكر أن الصهيونية سابقة بعقود عديدة على النازية وجرائمها، بل أن وعد بلفور أطلق عام 1917. لم يحضر أي منهما مؤتمر طهران. أفليست تلك علامة كان ينبغي لها أن تنذر أصحاب ذلك المؤتمر بضحالته، عوض الاحتفاء بنكرات أوروبية كانت حاضرة، وهي لا تسمن ولا تغني عن جوع... ناهيك بممثل الكوكلاس كلان، المنظمة العنصرية الأميركية الواسعة النفوذ في تكساس والتي تقول ألسنة السوء أنها إحدى الدعامات السرية للرئيس الأميركي، سرية لأن السيد بوش، حتى هو، لا يمكنه التورط علنا مع الكوكلاس كلان. كان أجدى بالسيد أحمدي نجاد وحكومته أن يدعوا إلى مؤتمر لنقاش الوضع في العراق، الذي يعنيهم ويفهمون في أموره، وأن يتحملوا - خصوصا- حضور ورأي من لا يتزلف لهم، ومن يمكنه أن يقول بحضورهم أن استراتيجيتهم في العراق تؤدي إلى نتائج كارثية، ليس على العراق فحسب، وهو ليس بلدا ثانويا ومصيره ليس تفصيلا، بل على مجمل المنطقة ولعقود طويلة قادمة. لقد انعقد قبل شهر واحد من مؤتمر طهران السيء الذكر، ملتقى في بيروت لدعم المقاومة، حضره أكثر من ثلاثمائة ممثل عن حركات اجتماعية ونقابية وسياسية من أركان الأرض الأربعة، هم من بين الأكثر دينامية وفعالية بالتأكيد، ومثقفون وإعلاميون ومناضلون لا يطال صدقية كل واحد منهم أي شك، بدليل تاريخه وموقعه. وشارك كذلك في اللقاء مناضلون عرب يربو عددهم على المائة. هؤلاء الأخيرون اجمعوا - كان هذا هو الواقع رغم شبهة كلمة"إجماع"- على ضرورة التوجه إلى إيران بوفد عربي مناضل يناقش هناك، رفاقيا ووديا، سياسة طهران في العراق، ويطالبها بتعديلها باتجاه تبني أمرين مفتقدين: أولهما مقاتلة الاحتلال الأميركي وأدواته، وعلى رأسها العملية السياسية ركيزة الاحتلال التي لا غنى له عنها، ساقه الأخرى التي يستند إليها بالمقدار نفسه الذي يستند إلى القوات العسكرية، وثانيهما مناهضة المسلك الطائفي التفتيتي لبلاد الرافدين. وكان الدافع هو الثقة بإيران، فلا يمكن لأي جهة أن تكون راديكالية وجذرية عموما، سواء فكريا أو في لبنان، وأن تتناقض مع نفسها في اقرب مكان لها هو العراق، فيغلب تماما المنطق الضيق"لمصالح الدولة"على كل ما عداه. والسؤال: أين مصلحة الدولة، حتى هذه، في مؤتمر طهران؟ تبقى فرضية أخيرة، هي أن السيد أحمدي نجاد يهوى إثارة الكلام حول شخصه ويعتقد انه يبني هكذا كاريزماه الخاصة، مزيج من الشعبوية والاستفزاز السهل. ولكن إيران...؟