نجح "رهان" فيروز وزياد الرحباني واعتلت "قرنفل" خشبة مسرح "البيال" في مسرحية "صح النوم"، وامتلأت الصالة بجمهور لبناني وفد من مناطق عدة متحدياً الظروف الصعبة التي تمثلت في التظاهرة الضخمة التي دعت اليها المعارضة اللبنانية وفي مقدمها "حزب الله"، وما أعقب التظاهرة من اعتصام ليليّ قد يستمر فترة غير قصيرة. كان على مسرحية"صح النوم"أن تعرض في قلعة بعلبك في الصيف لكن حرب"تموز"حالت دون عرضها وظلّت فيروز وزياد ولجنة مهرجانات بعلبك في حال من الحيرة إزاء توقيت عرضها في بيروت. لكن قدر هذه المسرحية المستعادة من "الريبرتوار" الرحباني أن تواجه أزمة تلو أزمة، مثلما واجهت سابقاً في 28 أيلول سبتمبر 1970 رحيل الزعيم جمال عبدالناصر وأُوقف عرضها طوال ليالٍ. بدا جوّ المسرحية غريباً عما يحصل في الشارع وفي الساحتين، ساحة البرج وساحة رياض الصلح، على رغم بعض"الإشارات"السياسية الساخرة في أحيان، التي تذكّر ببعض المشكلات الراهنة. ومنذ أن يدخل المشاهد الى الصالة يجد نفسه في عالم آخر، لبناني ولكن على الطريقة الرحبانية. ويشعر المشاهد أنه انقطع للفور عن مناخ التظاهرة الضخمة التي شهدها وسط بيروت، سواء شارك فيها أم كان من المتفرجين عليها. وفي الختام صفّق الجمهور كثيراً للمطربة فيروز وكأنه يلح عليها ألا تغادر الخشبة فلا يغادر هو هذا"العالم"الجميل الى الواقع الذي لا يمكن وصفه إلا بپ"المزري". كانت حماسة الجمهور لافتة قبل أن تبدأ المسرحية. جمهور مختلط، أجيالاً وطوائف وطبقات. بعضه يشاهد فيروز في مسرحية كاملة للمرة الأولى، وبعضه جاء يستعيد صورة الماضي الذي ما برح يحنّ إليه بشدة. ولم يتوقف الجمهور عند تفاصيل العرض الذي يُقدم في صيغة جديدة أشرف عليها زياد الرحباني، فهو كان يصفق مرة تلو أخرى للمطربة ول"الوالي"أنطوان كرباج ولدى بعض"القفشات"وپ"الشعارات"، مع أن هذه المسرحية هي من الأقل إغراقاً في السياسة بين الأعمال الرحبانية. لعل الجديد الذي حملته هذه المسرحية الغنائية أوبريت تجلى أكثر ما تجلى في اللمسات التي وضعها زياد على المقاطع الموسيقية وبعض الأغنيات، وبدت بديعة على رغم خفرها. المقدمتان الموسيقيتان حملتا"نَفَس"زياد في التوزيع والشفافية وبدتا مختلفتين عن الصيغة السابقة. أما أغنية"البير"فأحاطها زياد بجو موسيقي ساحر، مضيفاً الى جماليتها الكثير من الرقة والعذوبة والعمق، العمق الوجداني، وعرف كيف يتعامل مع صوت فيروز الجديد أو الراهن الذي يختلف عن صوتها الفتي قبل نحو ست وثلاثين سنة. فالصوت الذي يميل الآن الى الطبقة العريضة يملك جماليته الخاصة وألقه الخاص، على رغم ثبات خامته الرائعة. وإن بدا الأداء مختلفاً عن الأداء الأول في بعض المقاطع والأغنيات فإنه في الصيغة الجديدة يكتسب بعداً وجدانياً داخلياً نادراً، وشجواً خافتاً يبرق بالأحاسيس. إلا ان المفاجئ هو إسقاط موّال"بعدك حبيبي"من أغنية"هب الهوا"وهو من أجمل المواويل التي غنتها فيروز، ولم يُعرف السبب. إلا أن التدخل البارع لزياد الرحباني في الموسيقى لم يقابله تدخل لافت منه في الإخراج وفي الناحية المشهدية عموماً. وهو لم يستطع أن ينقذ العرض الذي تولى إخراجه برج فازليان، من البطء والمباشرة والجمود و"السطحية"التي طغت على السينوغرافيا والحركة والتمثيل. لم تبدُ جلية لمسات زياد على الصيغة الإخراجية الجديدة التي بدت كأنها نسخة عن الأولى مضافاً اليها بعض"التعديلات"في الديكور والأداء وحركة المجموعة. علماً أن النص الرحباني نفسه، المغرق في الشعرية والحلمية قابل لأن يُصاغ إخراجياً في طريقة باهرة وأسلوب يجمع بين الواقعية والغروتسك والفانتازيا والخيال. ويبدو أن برج فازليان لم يُعمل مخيلته لا قليلاً ولا كثيراً، بل سعى الى"تطبيق"النص الرحباني إخراجياً من دون أن يفتح له أفقاً مشهدياً وبصرياً، مع أن النص يشكل مادة مهمة ومغرية للإخراج والسينوغرافيا والإضاءة. وبدا تعامل فازليان مع النص شبه مدرسي وتقليدياً، وبدا هو غير قادر على الخروج عن"التقليد"المسرحي الرحباني الراسخ في رأسه. ماذا يعني اليوم أن يعود مخرج الى عمل مضى على تقديمه أكثر من خمس وثلاثين سنة؟ هذا السؤال لم يطرحه فازليان على نفسه، ولو طرحه لاستطاع أن يكون كمخرج، في مستوى النص الذي بين يديه، وهو نص شعري قائم على الحوار الملحن وتنقصه طبعاً تقنيات"الدراماتورجيا"الحديثة التي لم يبال بها أصلاً الرحبانيان، عاصي ومنصور، مكتفيين بالحوارات البديعة والشخصيات الأشبه بالظلال. أطلّت فيروز بهية كعادتها في شخصية"قرنفل"الفتاة التي تجرؤ على مواجهة"الوالي"انطوان كرباج ومستشاره زيدون إيلي شويري وقد حل محل نصري شمس الدين، وتقود ما يشبه"الثورة"العفوية ضد أنانيته ولا مبالاته بهموم الناس... أما"الوالي"فهو ينام شهراً بكامله ويستيقظ يوماً واحداً يوقع خلاله ثلاث معاملات فقط. والٍ طريف جداً كأنه طالع من حكايات"ألف ليلة وليلة"، قاسٍ وضعيف، خبيث وساذج، رجل وطفل، يحب الولائم ويتعب بسرعة. ولا تتوانى"قرنفل"عن أن تغني له أغاني الطفولة تلك التي ينام الأطفال على وقعها. وعندما ينام في الساحة ذات ليلة، تسرق"قرنفل"الختم وتوقّع معاملات الناس ما عدا معاملة"الكندرجي"الاسكافي الذي لم ينجز لها الحذاء... ثم ترمي"الختم"في البئر. وعندما تعترف بما فعلت ينزلها الناس الى"البئر"وتعيد الختم الى"الوالي"الذي يهبها إياه لتقوم محلّه بمهمة توقيع المعاملات... القصة جميلة وتتراوح بين الواقع والخيال، وتحوي الحوارات الملحنة والحية جملاً بديعة هي أقرب الى القصائد والحكم. والنص الرحباني بموسيقاه قد يكون قادراً وحده على إرضاء رغبة الجمهور ونقله الى عالم ملتبس بين الحلم والنوم واليقظة والسحر... وقد عبّر الرحبانيان عاصي ومنصور عن هذه الحالات الشفيفة والرؤى من خلال الحوار الشعري والأغنيات والموسيقى أكثر من الشخصيات وعلاقاتها بعضها ببعض. فالشخصيات هي بدورها شخصيات شعرية يسبقها كلامها وما يحوي من جمل وأقوال بديعة. تقول"قرنفل":"وين بدّو يهرب الديب من وج الشمس؟"أليست هذه الجملة قصيدة بذاتها؟ عادت فيروز الى المسرح بعد دورها الأخير الذي أدته كممثلة في مسرحية"بترا"عام 1977 وكان جمهورها اشتاق الى مثل هذه الإطلالة المسرحية بعدما شاهدها مراراً في حفلاتها الغنائية. عادت فيروز بجمال صوتها ورونقها وكأن الزمن لا وجود له في حسابها. إنه السحر الفيروزي القادر دوماً على تخطي تخوم السنين.