ترك الزمن أثره في النظام الليبي القذافي. ويخال المرء ان هذا النظام هو من مخلفات زمن غابر. وعلى أثر رفع العقوبات الدولية عنها وتعزيز الانفتاح الاقتصادي، هبت رياح التغيير الاجتماعي والاقتصادي والعمراني على ليبيا. وعلى رغم أن أكثر من ثلاثة عقود مضت على وصول العقيد معمّر القذافي الى الحكم بليبيا، يفضل الليبيون الصمت على الشكوى من ولاية"المرشد". فالليبيون يتكيّفون مع النظام الحاكم، وهم يريدون تعويض ما فاتهم، وبعث الوقت الضائع، وطي صفحة الماضي. وترافق رفع العقوبات الاقتصادية مع استئناف الرحلات الجوية من المطارات الدولية الى ليبيا، وفك تجميد الأموال الليبية في المصارف الخارجية. ومن"دولة مارقة"، تحوّلت البلاد، في مطلع الألفية الثالثة، إلى شريك الغرب، وخصوصاً الولاياتالمتحدة. وانتقل الليبيون بين ليلة وضحاها من معاداة الغرب الى مصادقته. وتقول عائشة، استاذة جامعية ليبية:"الى وقت قريب، كان الغرب عدو ليبيا اللدود، وكان الرئيس الاميركي جورج بوش"الشيطان الأكبر"، وانقلبت الآية فأصبح بوش صديق صدوق. ونحن نجد صعوبة في فهم ما يجري، وفي تصديق ما تراه اعيننا". وأصبحت ليبيا في مثابة ورشة بناء عملاقة. وتعم هذه البلاد موجة مبادرات فردية. ففلان ينشئ شركة تصميمات هندسية، وفلان آخر ينشئ وكالة سفريات. وعلى خلاف أترابهم في دول شمال أفريقيا، لا يحلم الشباب الليبي بالهجرة والاغتراب. ولا يرى الليبيون ما قد يحملهم على الهجرة وتحمل ازدراء الغربيين لهم. ففي بلدهم فرص العمل موجودة. وفي الأحياء الراقية بطرابلس، تزدهر متاجر السلع الفاخرة. وهي تبيع الأزياء والأحذية وأجهزة الراديو والأثاث والمطابخ. فالعاصمة الليبية أصبحت في مثابة متجر كبير يقصده التونسيون للتسوّق. وتعج الفنادق والمطاعم بالسياح الوافدين من آسيا وأوروبا والولاياتالمتحدة ودول الشرق الأوسط واميركا الجنوبية. ويقول مدير فندق كورنثيا الفخم أن معظم زبائنه هم من رجال الاعمال العاملين في قطاع النفط وفي مجال الخدمات الفندقية والصحية. والحق أن ظروف العيش تحسنت في الاعوام الثلاثة الاخيرة بليبيا، على رغم افتقار البلاد إلى بنى تحتية وطرق معبدة وشبكات صرف صحّي. وغالباً ما يشكو الناس من مساوئ القطاع الطبي وثغراته. فالليبيون ينظرون بعين الريبة الى نظامهم الصحي، وبعضهم يعزو نقل فيروس الايدز الى مئات الاطفال، أو ما يعرف بقضية الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني، الى إهمال المستشفيات الليبية وافتقارها إلى الكوادر المتخصصة. ويتوجّه الميسورون الليبيون إلى تونس للعلاج. وعلى رغم قيمة الرواتب المتواضعة وارتفاع نسبة البطالة، لم تتخل السلطات الليبية عن سياسة إعادة توزيع الثروات. وهي تتجنّب انتهاج سياسات جديدة في هذه المرحلة الانتقالية. وعلى أثر ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية، بلغت قيمة احتياطي العملات الاجنبية 40 بليون دولار. وتدعم السلطة الليبية السلع الغذائية الأساسية كالخبز والزيت والرز، وتنتهج سياسات اشتراكية وليبرالية الى حد ما. وتسعى الحكومة الليبية في حمل مواطنيها على العمل، والانتاج. وعليه، ومنذ مطلع العام الحالي، ألزمت هذه الحكومة الشركات الأجنبية العاملة على أراضيها بأن يكون نصف موظفيها من الليبيين. ومن شأن هذا الاجراء الاسهام في مكافحة البطالة وتدريب الموظفين وتأهيلهم. ففي أعوام الحظر الاقتصادي والعقوبات انقطع المجتمع الليبي، وخصوصاً الشباب، عن الخارج. وفي العقدين الماضيين، حظرت الحكومة الليبية تدريس اللغات الاجنبية. وعدد من يجيد اللغة الانكليزية والفرنسية والايطالية منخفض. وبعد سنوات من العزلة، يمدد الليبيون جسور الاتصال مع العالم. وهم يتخففون شيئاً فشيئاً من ريبتهم من الغرباء. وعلى رغم انفتاحه أخيراً على الغرب، يبقى المجتمع الليبي عصياً على فهم الغرباء له. فالغربيون يجدون صعوبة في فهم النظام الليبي. فالمؤسسات تجمع بين نوعين من السلطات المتوازية الاولى رسمية تراعي التراتبية، والثانية ترتبط بعالم الوساطة والنفوذ والزبائنية. وعليه، ليس رئيس مجلس الإدارة صاحب الكلمة النهائية والقرارات في مؤسسة ما. والتباس السلطات هذا يحيل هذه البلاد الى"جنّة"الوسطاء وپ"المحتالين. ويرى المراقبون ان فرص ترافق الانفتاح الاقتصادي مع انفتاح سياسي ضعيفة. وتقول شابة ليبية:"لا أتوقّع حصول أي تغيير سياسي، فأنا لم تُسنح لي فرصة الاقتراع، ولم اسأل عن رأيي فيما يقال عن أن أبناء"المرشد"الثلاثة هم قادة التغيير. وبات لدينا أربعة"قذافي"عوض واحد"!. وتبقى ذاكرة الحصار الاليمة ماثلة في اذهان الليبيين. وهؤلاء مشغولون بتحصيل العيش وتأمين حياة رغيدة. عن فلورانس بوجيه ، "لوموند" الفرنسية ، 20 / 12 / 2006