لا شك في أن الدينامية الشوهاء والفظيعة التي تسيّر الحال في العراق، وتطبعها بطابعها، هي جزئياً مرآة إخفاق التدبير الأميركي وأخطائه. ولكنها، في المرتبة الأولى، شاهد على إفلاس وانهيار مدويين هما إفلاس هوية أمة عربية وانهيارها. ولا يقتصر الأمر على أنانيات وطنية ومحلية صغيرة، على شاكلة تلك التي أودت، قبل أربعين عاماً بالطموح الناصري الى وحدة أنظمة متشابهة في مصر وسورية والعراق. فالمسألة، اليوم، أفدح بكثير. فقبل عشرين عاماً لم يكن يدور في خلد أحد التنبيه على أن عبدالناصر نفسه تزوج شيعية عراقية، أو على أن مؤسس باكستان، محمد علي جناح، وأحد خلفائه، ذو الفقار علي بوتو، كانا شيعيين من فرقتين مختلفتين. وأما اليوم فالهوية المذهبية، شيعية أم سنية، فارق قوي في العالم الاسلامي كله، وليس العربي وحده، من أدناه الى اقصاه. ويتولى الفارق هذا تعريف العصبيات والانتسابات. ولا يتحمل الأميركيون مسؤولية، ولو ضئيلة، عن الانهيار العربي هذا. ويلاحظ أن كردستان العراق، وهو أقرب حليف لواشنطن في المنطقة، يتمتع بوحدة استثنائية تسود العلاقة بين الشيعة والسنّة، وما يجمع هؤلاء وأولئك هو هويتهم الكردية. وعلى خلافهم، يوالي شيعة العراقولبنان والبحرين من غير تردد، التشيع التركماني والفارسي السائد بطهران. وعلى نحو أقل ظهوراً وجلبة، يميل السنّة المعتدلون والعرب في شمال الهلال الخصيب، وهم حنفيون متسامحون، الى تركيا، الحنفية كذلك، ويتصلون بها من طريق علائق اجتماعية واقتصادية. وينضوي الأصوليون المصريون والجهاديون العراقيون تحت لواء سندهم الاستراتيجي الكبير، الجيش الباكستاني واستخباراته. وعلى جاري العادة، تصفع رياح التاريخ العاصفة لبنان الصغير، وينوء بثقل المنازعات الحادة، الناجمة عن ميزان القوى الجديد. ويترتب على الانهيار العربي منطق مدمر لا يلجمه أو يكبحه إلا تضافر معسكر القوى المعتدلة ومعسكر القوى العلمانية الناشئين. وتنطوي هذه اللوحة المتعاظمة التماسك على عنصر عجيب وخافر، وهو أن الرئيس الايراني الحالي يسعى، من جهته، الى لجم هذه الدينامية التي لا تؤاتي غاياته ومقاصده. فالاصولية الحتمية ترمي الى توحيد السنّة والشيعة في أصولية متزمتة وجامعة. وآيتا الله اللتان تلهمان، الى اليوم، المتولي على طهران، هما بهشتي وباهونار والاثنان قضيا في عملية اغتيال في 1980. ووضعا نصب العين حركة واحدة تجمع ايران الى"الاخوان"بمصر. ولعل هذا هو تعليل المكانة التي يوليها الرئيس الايراني لاستراتيجية التحالف بين"حزب الله"اللبناني وإخوان"حماس"الفلسطينيين. فعلى الحلف هذا أن يحول أنظار الجماهير العربية عن تعاظم المقبرة العراقية، وأن يجمعها على العدو المشترك والموحد على الدوام، أي اسرائيل واليهود. ولا يبدو أن طلاب طهران والضحايا العراقيين الكثر يعينهم ذلك على الصبر أو التحمل. عن ألكسندر أدلر ، "لوفيغارو" الفرنسية ، 16 / 12 / 2006