التخبط الغربي اليوم في الشرق الاوسط لا يعود الى الاحتضار البطيء للنظام العلوي. فمع انهيار الامبراطورية السوفياتية، فقد العالم بوصلته في المنطقة. وعلى رغم اضطرابات مرحلة ما بعد الاستعمار، لم تنفلت النزاعات الاقليمية من عقال المواجهة بين الغرب والشرق ومنازعاتهما الايديولوجية. ففي السبعينات من القرن العشرين، كان التقدمي في فرنسا ينظر بعين الاعجاب الى صدام حسين أو حافظ الأسد وحزبَي "البعث" السوري والعراقي. وفي حسبانه أن الزعيمين هذين أو حزب "البعث" بنسختيه هما حَمَلة لواء الديموقراطية والاشتراكية والعلمانية والحداثة! وفي الثمانينات، وفي الحرب العراقية – الإيرانية، سلّطت الأضواء على واحد من تناقضات الحرب الباردة، اي على الاتفاق الضمني بين الشرق والغرب للحفاظ على موازين القوى. فحين تختل كفة التوازن، تتدخل القوى لتقويمه. فانتهت الحرب هذه من غير فائز او خاسر. لكن جورج دبليو بوش نزل على دعوات مارغريت ثاتشر، وخرج على مبدأ التوازن في 1990-1991، إثر غزو صدام الكويت. ورسخ الأميركيون والإنكليز القطيعة هذه في 2003، فأطاحوا الديكتاتور العراقي من الحكم. ومنذ سقوط نظام الشاه في ايران، لم ينقطع سيل التوقعات الأميركية بانهيار وشيك لنظام الملالي، لكن السياسات الأميركية انتهت الى زعزعة التوازن الدقيق بين السنّة والشيعة في المنطقة، ورجحت كفة طهران، وأجّجت الميول المتطرفة في كل حدب وصوب. وحَسِب المحافظون الجدد الاميركيون أن اطاحة نظام «طالبان» والنظام البعثي في العراق ستشرّع ابواب «الشرق الأوسط الكبير» على الديموقراطية. ومثل هذه الأخطاء ساهم في نبذ القوة الغربية وانبعاث قوة روسيا ما بعد السوفياتية. لكن القوة الروسية اليوم متواضعة قياساً الى نظيرتها الغربية، والغرب لا يتوانى عن تبديد موارد كبيرة في خدمة سياسات طالحة، فحين اندلع «الربيع العربي»، حار في أمره، فسارع الى قطع حبال الدعم عن الأنظمة الاستبدادية، وأثار مخاوف الزعماء المعتدلين الذين نجوا من ارتدادات زلزال الربيع. فأطيح العقيد معمر القذافي من غير تردد في تجاوز التكليف الأممي، وحسِب الغرب كذلك أن نظام الأسد سيلقى مصير غيره من الأنظمة العربية، وأن سقوطه وشيك. وأعتقد بأن الانحياز الى معسكر «الأخيار» الكلامي هو إجراء كاف، وسعت الدول العربية الى تقويض المعسكر الشيعي. ودارت عجلة هذه التطورات في وقت كان الانشغال الهوسي بالملف النووي الايراني في أوجه، وكانت الأزمة تتفاقم. فرنسا وقعت في شباك عقيدة المحافظين الجدد الأميركيين، وأهملت أحوال الأقليات في المنطقة، والتي رجت باريس ألا تنساق وراء هواماتها الأيديولوجية. الأقليات هي الخاسر الأكبر في هذه المنطقة، وآن أوان عودة السياسة الخارجية الفرنسية الى صراط السياسة بعيداً من الأيديولوجيات والمشاعر الطيبة والمبادئ المانوية. وتقتضي السياسة الخارجية فهماً معمّقاً لميدان النزاعات، وتحديد مآرب طويلة الأمد وسبل بلوغها. وافتقار الغرب الى نهج استراتيجي كان فاقعاً في ختام 2010، أي منذ اندلاع «الربيع العربي». وعلى خلاف الروس، لم يلتزم الغرب نهجاً استراتيجياً، وأطنَب في خطب عقائدية وخطا خطوات تكتيكية، ورد على استخدام السلاح الكيماوي في 21 آب (اغسطس) الماضي في سورية رداً لا تُرجى منه فائدة إذا لم تقر الحاجة الى رؤية استراتيجية واسعة ترسي معايير تجمع ابرز اللاعبين في المنطقة، أي تركيا وإيران ومصر واسرائيل، والقوى الخارجية (الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن). والمعايير هذه تقضي بعدول القوى الخارجية عن مساعي اطاحة الانظمة، ولو كان سقوط بعضها مرجحاً وآتياً لا محالة. إن إرساء شيء من الاستقرار في الشرق الاوسط يقتضي الإقرار بمكانة كل لاعب في ميزان الحقوق والواجبات. ولا تحتاج المنطقة الى مؤتمر «جنيف 2» لإنهاء النزاع في سورية فحسب، بل الى مؤتمر أوسع يذلل النزاع الاسرائيلي– الفلسطيني وينزع فتيل السلاح النووي في المنطقة. والتقارب الأميركي – الإيراني في الأممالمتحدة مرحب به. * محلل، عن «لوفيغارو» الفرنسية، 26/9/2013، إعداد منال نحاس