في صيف عام 1982 أطلقت إسرائيل حملتها ضد لبنان وقامت بمحاصرة عاصمته قبل الدخول إليها في ما بعد. طوال أشهر ذلك الهجوم شهدت المقاومة العسكرية الفلسطينية - اللبنانية انهياراً تاماً اجتمعت في تفسير أسبابه ظروف شتى من دولية متواطئة، إلى إقليمية متخاذلة، إلى داخلية منقسمة، إضافة إلى عدم جهوزية القوى المحلية المقاتلة لرد هجوم بهذا الحجم من إحدى أقوى الجيوش في العالم. كشف اجتياح عام 1982 حجم التسليح المسموح به للمقاومة الفلسطينية وحلفائها اللبنانيين. فعلى الرغم من الدعم السياسي والمالي والعسكري الذي كانت تحظى به منظمة التحرير الفلسطينية وقوى اليسار اللبناني المنضوي آنذاك تحت مسمى"الحركة الوطنية"اللبنانية، وعلى الرغم من العلاقات التي كانت توصف ب"الاستراتيجية"مع الاتحاد السوفياتي والدول العربية المسماة"تقدمية"آنذاك، إلا أن ما نتج عن تلك العلاقات من دعم كان محسوبا يهدف إلى إبقاء الصفة"الأهلية"على الحرب في لبنان، من دون أن يتجاوز ذلك قواعد المعادلة الإقلمية، او أن يؤدي إلى جرّ عواصم المنطقة إلى صراعات غير محسوبة. وفي معركة المواجهة مع إسرائيل عام 1982 لم يكن التحالف الفلسطيني - اللبناني يملك صواريخ باستطاعتها ضرب المدن الإسرائيلية، كما أنه لم يكن يملك صواريخ نوعية من تلك التي بإمكانها ضرب بوارج إسرائيلية، ولم يكن يملك أسلحة مضادة للمدرعات بإمكانها صدّ المدرعات المعتدية ولا التخفيف من فتك الميركافا آنذاك... الخ. باخنصار أريدَ لتلك القوات أن تبقى في صيغة الميليشيا، ولا ترقى لصيغة القطاعات المقاتلة المعدّة تسليحاً لإنزال خسائر بالعدو أو حتى تعطيل تقدمه. والذين كانوا شهودا على ذلك الاجتياح المشؤوم، يذكرون مئات قصص البطولات الفردية التي بقيت فردية مكشوفة لا تحظى بالغطاء الصاروخي اللازم، ولا تنعم بغزارة نيران نوعية تتسق مع مستوى التحدي. والذين واكبوا تلك الحقبة التاريخية يذكرون كيف أن تلك الجيوش الجرارة القادمة من الجنوب توقفت عند مداخل بيروت العاصمة محاصرة لها. ويذكرون كيف باءت كل المحاولات العسكرية الإسرائيلية لإقتحام المدينة بالفشل أمام ملاحم سطّرها المدافعون عنها. لم تسقط عاصمة لبنان على الرغم من أطنان القنابل والصواريخ المطلقة براً وجواً وبحراً. بقيت القوات الإسرائيلية خارج المدينة على الرغم من انعدام المظلات الصاروخية والمدفعية التي كان يمكنها تخفيف الضغط على بيروت. وبقيت العاصمة اللبنانية عصيّة على مهاجميها، حتى تم الاتفاق على انسحاب القوات الفلسطينية من المدينة ودخول القوات المتعددة الجنسيات إليها وإنهاء القتال. عندها فقط، دخلت القوات الإسرائيلية مدينة بيروت بعد أن باتت منزوعة السلاح والمسلحين، وأشرفت من خلال هذا الدخول على مجزرة ضد المدنيين العزل في مخيمي صبرا وشاتيلا. ولم تستطع القوات الإسرائيلية ان تبقى طويلا في بيروت، واضطرت أن تنسحب تحت ضغط عمليات المقاومة التي اندلعت وتصاعدت حتى خروج تلك القوات من العاصمة لتنكفئ مستقرة في مناطق لبنانية أخرى. لم يكن ينقص المقاومة في تلك الحقبة لا الشجاعة ولا العزم على القتال ولا الميل نحو البطولة. ما كان ينقصها هو ذلك السلاح النوعي الذي من شأنه قلب الموازين، ما كان يلزمها هو دعم إقليمي لوجيستي وعسكري من شأنه إرباك العدو وتهميش خططه، ما كان يعوزها هو أن لا يبقى جهدها محليا، بل ينضوي ضمن أجندة إقليمية وخطة شاملة ترقى بالحرب إلى أبعاد تتجاوز حدود لبنان. قد يكون ضروريا وصف ما انتهت اليه الحرب الأخيرة بأنه"انتصار إلهي"، وهذه الضرورة لا تتعلق بعلم الحروب، بل تتصل بمقتضيات إدارة الصراع السياسي الداخلي في لبنان، أو بتقييم المقاومين لنتيجة هذه الحرب. فما حققه"حزب الله"يستند علميا الى وقائع ملموسة بالإمكان التدليل عليها والاستناد إلى حقيقتها خدمة للعقل ومنطقه. وما أنجزه"حزب الله"جاء ثمرة جهد عقائدي وتنظيمي، مدني وميداني، أمكن تحقيقه خلال العقود الغابرة برعاية إقليمية كاملة لم يحظ بها أي فريق من قبل. ولا ينفي"حزب الله"نفسه أن تلك الرعاية، المتمثّلة بإيران وسورية، كانت عاملا أساسيا في بناء البنى الخلفية والمتقدمة على كل الصعد المدنية والمالية والعسكرية التي سمحت بممارسة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، من دون أي موانع أهلية كتلك التي كانت تعاني منها المقاومة الفلسطينية في لبنان لا سيما في جنوبه، ومن دون أي تناقض مع الراعي السوري كذلك الذي أدى إلى مواجهة الخيارات الفلسطينية اللبنانية للخيار السوري آنذاك، وبرعاية واعتراف ودعم من قبل حكومة لبنان الرسمية، وهو أمر لم تكن لتناله قوات التحالف الفلسطيني - اللبناني في زمن غياب الدولة وغياب الوحدة المذبوحة على أرضية الحرب الأهلية. كما ان بناء الحزب اعتمد على الطائفة الشيعية دون غيرها، ليس فقط بسبب تماس الجنوبيين المباشر مع الاحتلال الاسرائيلي - فالمقاومة قبل"حزب الله"كانت متعددة - بل لارتباط الحزب عضوياً بشكل عقائدي وسياسي ومالي وعسكري بالمركز الإيراني. وهذه القاعدة الطائفية أسست لا سيما بعد المجابهات الدموية الداخلية بين الحزب وحركة أمل للحمة شعبية واحدة أحادية الانتماء المذهبي، على نحو سهّل تصليب بنية الحزب، بحيث لم تربكه البنيات المتعددة العابرة للطوائف وحتى للجنسيات التي كانت تستند اليها فصائل المقاومة الفلسطينية والأحزاب اليسارية والقومية اللبنانية. وما نريد سوقه في سطورنا هذه، أن ما حققه"حزب الله"يرتبط بطبيعة الظروف الجيواستراتيجية التي سمحت بتسليح الحزب وتأمين إمداداته وتوفير ظروف استقراره. وقد تكاتفت قوى محلية وإقليمية لتحقيق ذلك. كما أن الطابع المحلي الذي كان عنوان وشرط الدعم الذي كانت تتلقاه الفرق الفلسطينية - اللبنانية، لم يكن ليحقق ما حققه"حزب الله"لأنه لم يكن مسموحا له أن يحقق ما حققه"حزب الله". فهل بالإمكان تخيّل نتائج معركة عام 1982، لو كانت تلك المقاومة تملك صواريخ باستطاعتها ضرب مدينة حيفا وتهديد مدينة تل أبيب؟ وهل بالإمكان تخيّل طبيعة نتيجة الحملة الإسرائيلية، لو كانت لدى المقاومة آنذاك صواريخ باستطاعتها ضرب بوارج إسرائيلية على غرار ما يملكه"حزب الله"؟ وهل بالإمكان تخيّل نهاية تلك المعركة، لو كانت الصواريخ المضادة للمدرعات تطلق من على بعد 5 آلاف متر لا من على بعد متواضع لا يتجاوز ال500 متر، وهو محدد أساسي أدى، كما رأينا، إلى وقف وتعطيل وارباك التقدم الإسرائيلي المدرع في الحرب الأخيرة؟ محصلة القول ان الحرب الأخيرة تثبت مدى الرهان الإقليمي على حركة"حزب الله"، ومدى العلاقة العضوية والوظيفية بين الحزب والحلفاء الإقليميين. وعلى الرغم من سعي الحزب الدائم إلى التأكيد على لبنانيته واستقلال قراره، بيد أن المحددات كافة تجعل من الصعب على الحزب تحت فرضية عزمه على ذلك التخلص من روابطه الإقليمية الوجودية والانكفاء إلى خصوصيته اللبنانية. ولا ريب أن ارتباط الحزب بالحلف الإيراني - السوري وهو أمر يجاهر الحزب به اخذ طابعاً وجودياً وحيوياً يجعل من النيل من أي طرف نيلاً من الطرف الآخر. وهو ما يجعل هذه العلاقة استراتيجية بالمعنى الحقيقي للكلمة وليس بالمعنى الذي كان مستخدماً في وصف علاقات التحالف الفلسطيني - اللبناني مع اطراف إقليمية عام 1982. وفي سيرورة"حزب الله"ينتقل الفعل من ميدان المقاومة وآفاقها القومية إلى ميدان السياسة الداخلية وظروفها البيتية. ففي زمن الرعاية السورية لم يشارك الحزب في العمل الحكومي اللبناني، ليس فقط زهداً بالسلطة، بل لعدم حاجته للوجود مباشرة في السلطة التنفيذية في ظل نظام سياسي - أمني وفر للحزب حاجاته على الصعد كافة. ولا شك أن الخروج السوري من لبنان وضمور تأثيره على القرار السياسي الرسمي اللبناني، دفع بالحزب إلى المشاركة المباشرة بالحكومة والسعي إلى توطيد تلك المشاركة وتدعيمها، سعيا وراء التأثير على القرار اللبناني بما يحمي الحزب ومصالحه بالجناحين المحلي والإقليمي. فالحزب في خياراته اللبنانية اختار دوما أخذ العامل الإقليمي كأولوية ومحدد، بحيث أن هذا العامل وديناميته يفسران شروط حركة الحزب حتى بتفاصيلها المحلية، وأن وجودية الحزب ترتبط عضويا بسلامة الحلف السوري - الإيراني عامة وسلامة الموقف الإيراني خاصة. وهذا أمر لا ندعي اكتشافه، بل ان الحزب يجاهر به ولا يخجل من إعلانه سواء تعلق الأمر بالدعم المالي أم بالدعم العسكري. لذا فمن البديهي اصطدام مشروعه بمشروع المعسكر الآخر تحالف 14 آذار المعتمد على محلية المعايير ولبنانية القيم والمستند الى دعم دولي سمته الوحيدة الراهنة عداء لمحور طهران - دمشق. ولا شك أن نظرة تبسيطية للأمور تستدعي تخفيفا للجرعات الإقليمية من جهة وشيئا من الابتعاد عن الفلسفة الممعنة بالمحلية من جهة أخرى. لكن تلك كما أسلفنا نظرة تبسيطية للأمور! * صحافي وكاتب لبناني