سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
خمسة وعشرون عاماً على دخول قوات الردع العربية ونواتها السورية بيروت ... رسمياً وشرعياً . قمتا الرياض والقاهرة تتداركان "تفجر" لبنان بواسطة وكالة لا قيد عليها
عشية يوم الأحد في 14 تشرين الثاني نوفمبر 1976، قبل خمسة وعشرين عاماً أذاعت قيادة قوات الردع العربية، أو "قوات السلام المعزز"، بعد اجتماع جمع قائدها العقيد الركن أحمد الحاج، من الجيش اللبناني، ورئيس الجمهورية الياس سركيس، بياناً طلب "من المواطنين تجنب سلوك الطرق الرئيسية ... في مدينة بيروت ومداخلها... اعتباراً من منتصف هذه الليلة الأحد وحتى مساء غد الاثنين 15 تشرين الثاني الجاري". وفي الساعة الرابعة والنصف، صباح الاثنين، دخلت قوات سورية - كانت جزءاً من قوات عربية: سورية وسودانية وسعودية وإماراتية - بيروت من جنوبها وشرقها. ففي الصور الفوتوغرافية يُرى دبابات سورية "تحمي المطار"، على ما كتب شارح الصورة، وراجمة صواريخ قرب "راديو أوريان"، بخلدة عند المفترق الى قضاء عاليه وإلى ساحل الشوف، ودبابة في سهل الشويفات. ونزلت على طريق عاليه - الكحالة - الحازمية قوات سورية مدرعة، وتقدمت اخرى من ضهور الشوير الى بعبدات فبرمانا فالمكلس. ودخلت أرتال الدبابات الشياح وعين الرمانة وبرج البراجنة وجوار المطار وحرمه جنوباً، وجادة انطلياس الساحلية وضبيه ونهر الكلب، فجونيه والمعاملتين على ما افترض، شمالاً وشرقاً. واستكملت القوة انتشارها داخل احياء المدن والضواحي، وعلى أطرافها وحدودها، على شاكلة نجمة: فمن ساحة الحازمية الخارجية اتجه جزء من القوة الى فرن الشباك، فقصر العدل، فالمتحف، واتجه جزء آخر الى غاليري سمعان فمستديرة الطيونة فالبربير فالمتحف. ردع لم يردع وكان بعض هذه القوات دخل، الأحد، بيت الدين ودير القمر، في الشوف. وجاءت القوات التي دخلت الشوف من المديرج، على طريق دمشق - بيروت، ورابطت في البلدات والقرى بين المديرج وبيت الدين. ولم تدخل المختارة، "كرسي" آل جنبلاط، المحاذية بيت الدين. فاستنكرت "القوات اللبنانية"، وهي قوات أحزاب الجبهة اللبنانية من كتائب وأحرار وحراس أرز ومردة، الإحجام عن المختارة، واستنكرت "الحركة الوطنية"،وهي الأحزاب والجماعات التي انحازت الى المنظمات الفلسطينية المقاتلة، إحجام قوات الردع عن التقدم الى جونيه والمعاملتين شمالاً و"كسرواناً". ومهما كان من امر التحفظات، جاءت من هذه الجهة أو تلك، لم تردع القوات المسلحة العربية المتقاتلين المحليين عن الاقتتال في ذلك اليوم. فاشتعلت "محاور" الأسواق، على ماكان يسمى قلب بيروت، بالقصف من الواحدة صباح الاثنين 15 تشرين الثاني الى الخامسة. وقصفت الأشرفية شرقاً ورمل الظريف وكركول الدروز غرباً، قصفاً خفيفاً. و لم يلبث القصف أن ثقل على جديدة المتن والدورة وأنطلياس، وهي محطات على الطريق التي كان يتوقع ان تسلكها القوات السورية المدرعة الى ساحل كسروان، صبيحة الاثنين. وتواترت اخبار "التصعيد" و"الإسكات" بالأسلحة المناسبة. وأحصت مصادر امنية في ذلك اليوم "ثلاث جثث" قالت انه "عثر عليها" في ساحة الشهداء. ونعى الحزب السوري القومي الاجتماعية شهيده الملقب "الصاعق". ولم يتكتم المتقاتلون على تحفظاتهم. فذهبت مذكرة الأحزاب العروبية الى العقيد نبيل قريطم، نائب قائد قوات الردع، الى أن القوات السورية "تتصرف كأنها جيش سوري وليست قوات عربية". وزعمت ان "الصاعقة"، المنظمة الفلسطينية المؤتمرة بأمر السياسة السورية، وحزب البعث السوري، "يوزعان السلاح في بعض ا لمناطق على الأنصار". ومن وجه آخر، أوضح قادة الألوية السورية الى موفدي "القوات اللبنانية" أن القوات العربية "لن تتغلغل في قلب الأشرفية"، على ما كان تتخوف الأحزاب اللبنانية المسيحية. ولابس التمهيد السياسي الخطوات العسكرية الميدانية. فتوفعت الصحف قيام ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية المقيم في بيروت، بزيارة دمشق "في نطاق اعادة المياه الى مجاريها، انطلاقاً مما تم الاتفاق عليه في قمتي الرياضوالقاهرة" - وإنشاء قوة ردع عربية رأس قرارات القمتين. واستبق أبو اياد صلاح خلف، رجل "فتح" الثاني على ما كان يوصف، زيارة رجل "فتح" الأول اي ياسر عرفات الى دمشق، فقال: "فيما يتعلق بالعمل الفلسطيني من داخل لبنان، فنحن ملتزمون بكل ما أعطانا إياه اتفاق القاهرة من حيث حرية العمل على الأرض المحتلة وحرية الوجود وحرية حمل السلاح في المناطق التي نص عليها الاتفاق، وحرية الكلمة السياسية وحرية إعلامنا الخاص". ولم يقل رجل السياسة والأمن الفلسطيني ماذا يلتزم من قيود الاتفاق، نظير "التزامه" حقوقه. ولم يفت التحفظ الفلسطيني احداً. وعلى حين كان اللواء مصطفى طلاس، وزير الدفاع السوري، يعلن "وشك" انتهاء "الأزمة اللبنانية التي هزت العالم العربي"، ويقول اللواء عبدالرحمن خليفاوي رئيس الحكومة السورية ان "استقرار الأمن في لبنان يعتبر امراً اساسياً لاستتباب الأمن في سورية"، وأن اتفاق القاهرة "اكتسب طابعاً عربياً خلال اجتماعات مؤتمري القمة في الرياضوالقاهرة"، كان الشيخ حسن خالد، مفتي الجمهورية اللبنانية، يدعو في "مؤتمر اسلامي" - عقد الأحد في 14/11، وغاب عنه "التقليديون" من رؤساء الوزارة السابقين، ومعهم "لبنان القديم" بحسب الشيخ صبحي الصالح، أحد منظمي المؤتمر البارزين - الى "التحرك بإيجابية وصدق للنضال السلمي البنّاء في سبيل التغيير والتطوير". وحمل المفتي على "الحرب المفجعة" وعلى "مظاهر العار والإسفاف" التي غلبت عليها. ولكن ورقة عمل المؤتمر الإسلامي هذا نسبت "إثارة الحرب الأهلية" الى "الانحراف بلبنان عن الطريق العربي"" وتهاون الدولة "في الالتزام بالقضية الفلسطينية ... وفي تثبيت حكم القانون بالسواء على الجميع". وهي رواية العروبيين، وشطر كبير من المسلمين، لما سمي "حرباً أهلية". ووجه عاصم قانصوه، الأمين القطري لمنظمة حزب البعث، رسالة الى مفتي الجمهورية، هدد فيها بتقديم "التقسيميين" الى "محاكم أمن الدولة بتهمة الخيانة". بينما رأى رئيس حزب الكتائب وركن "الجبهة اللبنانية" و"قواتها"، بيار الجميل، أنه ليس بين اللبنانيين "حواجز وموانع متى أزيلت العوائق التي اصطنعها الغرباء والدخلاء". وأسف الجميل لاضطرار لبنان الى "طلب النجدة"، وذكَّر قوة الردع العربية بأنها أخذت على عاتقها توطيد الأمن والسلام في لبنان، ونبهها من طرف غير خفي الى أن "الأيام المقبلة ستكون محكاً" لها ولدورها. وفي ضوء هذه الوقائع، وهي مزيج مضطرب من الكلام والموت والقصف والترقب، بدا اليوم الأول من "سلام ينتظر الأبطال" على قول خطابي لأحد كتاب الافتتاحيات الصحافية "البطوليين" المزمنين يوماً عادياً، وحبة من حبات السبحة الطويلة التي يعدها اللبنانيون يوماً بيوم منذ تسعة عشر شهراً. وسبق اليوم الموعود، وتحقيق الوعد بسلام "معزز"، إعداد طويل. ففي 7 تشرين الثاني، وكان يوم أحد، وجه الياس سركيس رسالة متلفزة الى اللبنانيين، حرصت مؤسسة كهرباء لبنان على بثها فوزعت التيار المتقطع والمتعاقب في وقت واحد على خطوط التغذية كلها. بيت الداء ومهدت كلمة الرئيس اللبناني الأولى الطريق للقوات العربية. فطمأن الى حلول القوات "الأمنية" هذه "موقتاً" محل الجيش اللبناني والقوى الأمنية اللبنانية، والى توليه هو، رئيس الجمهورية، قيادتها "بقيادة لنا". وحصر مهمتها في "إنهاء الاقتتال" و"تطبيق الاتفاقات". وناط "قبولها وطلب بقائها أو سحبها" بإمرته كذلك "توضع هذه القوات في امرة رئيس الجمهورية اللبنانية، و"حيث نشاء وحين نشاء"، وكرر ان دخول هذه القوات إنما "يتم من اجل الحفاظ على سيادة لبنان". وأنها "على أرضنا بإرادتنا" ولمدة "قصيرة وقصيرة جداً إذا تعاونا جميعاً على جعلها كذلك". ولكن وعود الرئيس اللبناني الكثيرة والواثقة في شأن إمرته قوات الأمن العربية، وتوافقها مع السيادة الوطنية والسياسية، وتصرفه في مهماتها ومدتها - وهي وعود تضرب صفحاً من ملابسات سبعة أعوام طويلة من السياسات العربية المتشابكة والمتناقضة بإزاء المسألة الفلسطينية وفرعها اللبناني- كان عليها، في آخر المطاف، ان تنتهي إلى بيت الداء والعلة وهو الجمع "معاً" بين المحافظة على سيادة لبنان وتطبيق "الاتفاقات المعقودة مع منظمة التحرير الفلسطينية على نحو يؤمن سيادة لبنان ولا يحول دون تمكين المنظمة من العمل على بلوغ اهدافها القومية المشروعة". وهذا "النحو" المشكل والعسير أوكله الرئيس التوافقي الذي قُدِّم انتخابه على رجاء التهدئة، وقَبِل اشتراط السياسة السورية عليه رضاه رسمياً مرابطة قواتها في لبنان، على خلاف رفض ريمون إده، عميد حزب الكتلة الوطنية، الاشتراط هذا الى "عاطفة اخوية" حاطه بها "الأشقاء"، على قوله، ولم يشك في "صفائها"، فدعا الى مبادلة "المحبة بالمحبة... والثقة بالثقة". فعلق كميل شمعون، الرئيس الأسبق، وعارك السياسة القديم، على خاتمة الرسالة بالقول إنها "رسالة كويِّسة من قسيس بروتستانت". فمهد لتسمية السياسة "الكويسة"، أو اللاسياسة الآخذة من كل المواقف بطرف، ب"السركسة"، نسبة الى شهرة الرئيس الجديد. ورد أحمد الخطيب، صاحب "جيش لبنان العربي"، في "رسالة" بثتها "إذاعة الصنائع"، على ما عرفت الإذاعة اللبنانية بعد استيلاء الملازم أول الخطيب عليها، على الرئيس فقال إن دور الجيش اللبناني هو "الموت دون حياض الوطن... على أرض الجنوب"، وهو دور "أبدي أزلي يبقى ما بقي لبنان". وتنازع الرسالة الرئاسية، شأن السياسات اللبنانية والعربية من ورائها، تصوران مختلفان لم ينفكا يتنازعان معظم السياسات العربية الى اليوم. فذهب بيار الجميل الى تقديم "إنقاذ لبنان وشعبه من كابوس الإرهاب والفوضى" أولاً، وهو ما عرف ويعرف بالحل الأمني، "ثم نطرح على بساط البحث كل قضية أخرى"، سياسية "قدمية" ودستورية واجتماعية، أو ما عرف ويعرف بالحل السياسي. أما صحيفة "الثورة" السورية في 7 تشرين الثاني 1976 فرأت ان "وقف المعارك بين الأشقاء"، والتزام وقف اطلاق النار، يمكِّن لبنان من "تحمل مسؤولياته... على الجبهة الشمالية العربية - الاسرائيلية... الهدف الاستراتيجي لأمتنا العربية... في هذه المنطقة في المرحلة الحالية". وهذا يدمج الاجراء الامني في الاجراء السياسي، ويغلب هذا على ذاك من غير مناقشة جائزة. ولم يكن ثمة خلاف بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين السياسة السورية على الدمج والغلبة هذين في لبنان. وانما دب الخلاف ودار على ما سماه صلاح خلف أبو أياد، وكان الفلسطينيون يسمونه "الوصاية على المقاومة"، وعلى معقلها اللبناني وحماها الوحيد بعد اخراجها الدامي من الاردن، و"ضبطها" بأمر صدر عن الرئيس السوري حافظ الأسد في 1971 وحال بين المنظمات المسلحة وبين القيام بأعمال عسكرية من الأراضي السورية، وحوَّلها الى الأراضي اللبنانية. والخلاف العربي على لبنان كان خلافاً على المسألة الفلسطينية، وعلى محلها ومحل الفلسطينيين ومنظماتهم السياسية والعسكرية من العلاقات والمصالح والمنازعات العربية، والدولية استطراداً. فيوم جمعت مبادرة سعودية وكويتية الرؤساء المصري والسوري والفلسطينيواللبنانيبالرياض، طوال ثلاثة أيام 16 الي 18 تشرين الأول 1976، وأقرت القمة السداسية اجراءات تحويل قوة الأمن العربية من هيئة مراقبة الى قوة فصل ونزع سلاح وردع، سبقت القمة الضيقة مصالحات بعدد أركان السياسة العربية الفاعلة. فالتقى حافظ الأسد أنور السادات، والتقى ياسر عرفات حافظ الأسد. واتفقت الحكومتان المصرية والسورية على تبادل السفراء، وفتح مكتب العلاقات في البلدين، وعلى "تصفية الجو الاعلامي بينهما". وتوسم المراقبون في إعلان سورية "وقف اطلاق النار في لبنان" على المنظمات الفلسطينية والجماعات اللبنانية الموالية لها، خيراً. واستدلوا بنقل طائرة عسكرية سورية ياسر عرفات يرافقه ويضمن سلامته الفريق علي الشاعر، الملحق العسكري السعودي ببيروت سابقاً من بيروت الى دمشق، على "ايجابية الموقف السوري من قمة الرياض". وهذا كان غيضاً من فيض الخلافات. وظهرت هذه في القمة الثامنة، بالقاهرة، في 25 تشرين الأول، علناً ودعيت القمة العامة الى التصديق على مقررات القمة السداسية الضيقة المنعقدة بالرياض قبل أسبوع. فتخلف قادة المغرب العربي الأربعة عن القمة بمن فيهم الزعيم الليبي معمر القذافي. وعزي تخلفهم الى رغبتهم في ألا يظهروا بمظهر الشركاء في خنق "المقاومة الفلسطينية" والقضاء عليها. وتغيب الرئيس العراقي، أحمد حسن البكر، وسلطان عُمان. وكان ياسر عرفات يسعى، عشية القمة، في ثني القذافي عن مقاطعة القمة، وعن إعلان المقاطعة، وفي الحؤول دون انفجار خلاف مصر وليبيا حرباً واقتصرت الحرب على محاولة تسلل من مصر الى ليبيا ساندها "مستشارون" فرنسيون. وطالب سعدون حمادي، وزير خارجية العراق، بانسحاب القوات السورية من لبنان، وندد ب"قتلها الفلسطينيين والقوى التقدمية والوطنية". واعتذر معظم الدول العربية عن الاشتراك في القوة الأمنية العربية إقراراً بأرجحية السياسة السورية على السياسة الفلسطينية، أي باستحالة حسم النزاع السوري - الفلسطيني من غير طريق القوة العسكرية السورية، وإلباسها زياً شرعياً واقليمياً في لبنان. التوجه والتوجيه ولم تؤد المصالحات، على كثرتها ومسرحيتها، الى تقنيع الخلافات السياسية العريضة أو التستر عليها. فخطب الرئيس المصري أقرانه، ومن ورائهم "الجماهير" العربية، فأقر "بتدعيم المقاومة الفلسطينية"، ولكنه وجه الأنظار الى "إخوتنا الذين يواجهون العدو في الأراضي المحتلة ببطولة منقطعة النظري"، وليس الى المقاتلين "المشتركين"، الفلسطينيينواللبنانيين، بجنوب لبنان، على ما اعتادت الخطابة والسياسة العربيتان التوجه والتوجيه. وآذن ذلك، قبل سنة من زيارة الرئيس المصري القدس وابتدائه "عملية السلام" المصرية - الاسرائيلية، بانعطاف رمى الى نقل المسألة الفلسطينية، من "الساحات" العربية الى ساحتها الوطنية و"القطرية" الخاصة والمستقلة. ومدح الرئيس السوري "حرب رمضان المجيدة"، وسماها بأسماء الشهر الثلاثة تشرين، أكتوبر، رمضان، ووصفها ب"حرب الأمة العربية، و انجاز الأمة العربية الأبرز في هذا العصر"، وبنى عليها "تعديلاً في الموازين". وأراد حافظ الأسد بالمديح والوصف والبناء قطع دابر التوسل ب"المعارك الثانوية"، الفلسطينيةوالعراقيةواللبنانية، الى الانتقاص من الصدارة السورية في رسم السياسة العربية الفلسطينية فألحق "توقف القتال وإراقة الدماء في لبنان"، وإعادة الحيوية والنشاط والفاعلية في النضال الى المقاومة الفلسطينية، ب"إطار النضال العربي... ضد العدو المغتصب". والسياسة السورية، سياسته هو، هي القوامة على هذا "الاطار". والمنظمات الفلسطينية جزء منه، أو سجينته وحبيسته، على نحو ما هي سجينة الاطار اللبناني الذي تضطلع السياسة السورية ب"تخزين" الحركة الفلسطينية، على زعم صلاح خلف في ربيع 1973، داخله، وحبسها فيه. وأوكلت الدول العربية المجتمعة بالرياض، ثم بالقاهرة، الأمر ومعالجته الى السياسة السورية، على ما بدا واضحاً من ضعف الاقبال على المشاركة في القوة الأمنية. وجعلت هذه ثلاثين ألفاً. ولم يأخذ أهل القمة بالقاهرة بتحفظ ياسر عرفات وحجّته المتهاوية: "ان الجيش اللبناني كان يضم قبل الحوادث 14 ألفاً، فلماذا لا تكون قوة الردع العربية قريبة من هذا العدد؟". وأوكلت الدول العربية، كل واحدة لعلة تخصها على الأرجح، الى الثلثين السوريين من القوة، حل الاشكالات العملية الكثيرة التي انطوت عليها قرارات القمة السداسية بالرياض. فنصت القرارات ثانياً د و ه، وثالثاً على "سحب المسلحين الى الأماكن التي كانوا فيها قبل تاريخ 13/4/1975م"، تاريخ حادثة عين الرمانة، وعلى "إعادة الحياة الطبيعية في لبنان الى الحال التي كانت عليها قبل الأحداث". وأقرت جمع الأسلحة الثقيلة "تحت مسؤولية الأطراف المعنية". واعتبار الحال عشية 13 نيسان ابريل 1975 "طبيعية"، وإيكال جمع السلاح الثقيل الى "الأطراف المعنية"، تغاضٍ متعمد عما ترتب على اتفاق القاهرة، ثم على هجرة الفلسطينيين المسلحين والمدنيين الى لبنان غداة أيلول سبتمبر 1970 الأردني. وتغاضى المؤتمرون عن مترتبات اتفاق القاهرة كذلك حين ذهبوا في مقدمة القرارات، الى "استحالة قيام أي تناقض في المصلحة بين الشعبين اللبنانيوالفلسطيني الشقيقين". وسكتت القرارات سكوتاً ظاهراً عن البنود الجزائية، إذا صحت العبارة. فالانتقال من قوة أمن عربية، على ما سميت هيئة مراقبة صورية أوكلت قيادتها لضباط مصريين، الى قوة "أمنية" أو قوة "ردع"، تُرك تدبر شروطه وإجراءاته الى القوة السياسية والعسكرية الغالبة. وخلت المقررات خلواً تاماً من شروط المراقبة والإبطال والتحكيم. فلم تنص على الأحوال التي يبطل فيها التكليف، ولا على المرجع الذي ينظر في القيود على عمل القوة، ويعود إليه امر حدِّها، إذا أخلت بشروط تكليفها، أو أمر الاحتكام إليه في خلافات قد تنشأ ميدانياً. والحق أن القوة أنشئت تداركاً لأمور متفاقمة مختلفة. فيوم إعلان مقررات القمة السداسية بالرياض، في 18 تشرين الأول، تقدمت قوة مؤللة من الجيش اللبناني من القليعة، في المنطقة المحاذية الحدود بين لبنان وإسرائيل، إلى ثكنة مرجعيون، كبرى بلدات القطاع الشرقي، وسيطرت على الثكنة، وأجلت عنها قوة من "جيش لبنان العربي" بقيادة احمد الخطيب. وكانت قوة اخرى دخلت بلدة حانين، في القطاع الأوسط، وأجلت عنها بعض سكانها الشيعة. وآذنت العمليتان اللتان قامت بهما قوتان نواتهما من الجيش اللبناني عزلتهما "القوات المشتركة" الفلسطينية والعروبية عن قيادة الجيش، وانضم إليها مقاتلون من منظمات "الجبهة اللبنانية" و"القوات اللبنانية"، آذنتا باتخاذ التعاون مع إسرائيل والمنزع "الانفصالي" صفة عملية وتنفيذية. دائرة الانفجار والاسترسال فأثمرت سياسة التحالف على المسيحيين اللبنانيين، وعلى الدولة الواحدة وقواتها المسلحة، نازعاً محلياً الى الرد على التحالف والحرب بقبول المساندة الإسرائيلية من غير تحفظ. ولم تلبث إذاعة "القوات اللبنانية" أن تبنت العمليتين، ونسبتهما الى كتيبتها في القليعة. فخطت الخطوة الأولى على طريق إعلان "جيش لبنان الجنوبي"، بقيادة الرائد سعد حداد، من القليعة، ما سمي "دولة لبنان الحر" تحت الرعاية والوصاية الإسرائيليتين، وبدا ان احتدام الاقتتال بواسطة الجماعات الأهلية اللبنانية ومنظماتها المسلحة، دخل دائرة تنذر بانفجار لبنان "الفيديرالي" عصبيات و"دولاً". ولا يطعن الانفجار هذا، أو البلقنة، في التماسك العربي، الإقليمي والداخلي على حد سواء، وحسب، بل قد يتداعى حروباً أهلية عربية تتطاول الى بلدان المشرق المعقدة التركيب الأقوامي والهشة البنيان الوطني والسياسي. وعزت السياسات العربية هذا المنزع الى السياسة الصهيونية. وعزاه ليونيد بريجنيف زعيم الحزب الشيوعي السوفياتي في 25 تشرين الأول الى "الامبريالية" و"المخطط الرجعي" ولكن بريجنيف أقر بأن "التفكك الذي يعانيه الوضع العام في الشرق الأوسط يعتبر الأساس الحقيقي لأحداث لبنان"، وأسف "لانجرار سورية الى أعمال عسكرية" وقتالها المنظمات الفلسطينية والجماعات اللبنانية ومفاقمتها هذا التفكك. وأجمع الاثنان على حماية الحركة الفلسطينية، وحرية عملها من لبنان وفي لبنان تالياً، من وجه، وعلى تعهد وحدة لبنان وأمنه ودولته، من وجه آخر، بذريعة "استحالة" تناقض الأمرين. ولكن هذا التناقض كان يدق باب العلاقات العربية دقاً قوياً ومتصلاً. وصبغه القتال الفلسطيني - اللبناني، واحتدامه ودوامه وتعبئته موارد عربية متعاظمة ومتسعة، بصبغة دامية، فأسفر يوم 18 تشرين الأول وحده عن سقوط نيف وثمانين قتيلاً وإصابة مئات الجرحى. وفي أثناء آذار مارس - تشرين الأول اكتوبر 1976 خاضت المنظمات الفلسطينية ما عرف باسم "حرب الجبل". فدخلت بلدات المتن الشمالي وأجلت أهاليها عنها، وحرقتها. وتسلقت جبال السلسلة الغربية المشرفة على الساحل الكسرواني. فتهددت السيطرةُ الفلسطينية على المتنين الهيمنة السورية على "طريق الشام"، وهي طريق بيروت الى دمشق، وعلى متفرعاتها البقاعية الشمالية. فقصفت القوات السورية المرابطة في صوفر ورويسات صوفر والمديرج وعين الصحة بأعالي فالوغا المواقع الفلسطينية وحلفائها من اللبنانيين. وأنحى أنور السادات باللوم على السياسة السورية، واتهمها بالتعجيل في إطفاء "قضية فلسطين" التي "أحيتها المقاومة الفلسطينية"، على ما قال في ذكرى وفاة عبدالناصر ومرحباً بكمال جنبلاط القادم "رأساً من أتون المعركة". ولوح ياسر عرفات ب"النتائج الخطيرة" التي تتهدد بها "المجزرة الجديدة" "كل أماني امتنا العربية"، ولا تقتصر على "ضرب الثورة الفلسطينية والشعب اللبناني - الفلسطيني" على جاري القول يومها. وثارت، في هذه المناسبة شأنها في أمثاله، كل الخلافات العربية على المسائل والأمور كلها: من العلاقات والأحلاف الدولية الى "المعسكرات" العربية، ومن الأنظمة السياسية الداخلية الى "طبيعتها" الاجتماعية. وبلورت المسألة الفلسطينية الخلافات هذه. ولما كانت المشكلات والحوادث الناجمة عن احوال الفلسطينيين وسياساتهم ومنظماتهم تجري على أرض "بعيدة" وغريبة بعض الشيء هي لبنان، وسع القوى السياسية العربية الإجماع على "ضرورة" حماية الكفاح المسلح الفلسطيني، واستمراره، واحترام الاتفاقات المعقودة بين "السلطة" اللبنانية وبين منظمة التحرير الفلسطينية. فهذا الإجماع لم يكن ليرتب على معظم المجتمعين ضرراً، ولا يلقي عليهم تبعة. ورضيت المنظمات الفلسطينية مقايضة هذا الإجماع "الجماهيري" والرسمي بقصر حمايتها على لبنان، وإطلاق يدها فيه، تداركاً ل"ايلول أسود" آخر. ولم تغفل المنظمات الفلسطينية عن انها أضعف، غداة حرب تشرين اوكتوبر، منها قبل الحرب. ولا غفلت عن ان شروط السيادة السورية لا تقل تشدداً عن شروط السيادة الأردنية، ولا عن توجس السياسة السورية خوفاً من علامات الانفراد المصري المتكاثرة. ولكن هذا كله لم يمنعها من الاسترسال مع رغبة جامحة في الاستيلاء على الدولة اللبنانية، ولا مع سعي حثيث ومستميت في جعل لبنان، ولو متداعياً ومتناثراً، معقلاً وحمى تنفرد به، يقيها تقلب السياسات العربية وضعفها السياسي والعسكري، وتسوسه بواسطة شطر محلي من "شعب لبناني - فلسطيني" مزعوم. فلم تمتنع من حضانة جموح الى أطراف العنف وذراه، على مثال "صمودها" في مخيم تل الزعتر اثنين وخمسين يوماً انتهت بمقتل ألفين الى ثلاثة آلاف فلسطيني، وخلفت تهجيراً ذريعاً وعداءً مستحكماً. وهذان رويا الضغينة والثأر اللذين نشأت عليهما الحركة الخمينية من بعد، وما زال "حزب الله" ينفخ في رمادهما. وحسبت المنظمات الفلسطينية ان الضحايا الفلسطينيين هم ضمان تأييدها الشعبي العربي ومساندتها، وهم لحمة ولاء الشطر اللبناني العروبي لها وانقياده إليها وتسليمه. والأرجح ان السياسة الفلسطينية هذه - وهي ارتسمت تدريجاً، وجراء وقائع طارئة وإن لم تعدم منطقاً وتماسكاً - كان ليقيّض لها بعض النجاح لو لم تفضِ الى تداعي البنيان اللبناني، وإلى انخراط اسرائيلي مباشر، جغرافي وعسكري وسياسي أهلي، في لبنان. وأصاب هذا الانخراط السياسة السورية، والدولة السورية، في مواضع بالغة الحساسية والهشاشة من البنيان السوري، على ما نبه الرئيس السوري في خطابه الهام في أواخر تموز يوليو. وهذا ما احتسبته السياسة السورية منذ نذر الجولات الأولى، اي منذ الهجوم الفلسطيني على الدامور، ودخول البلدات المسيحية باكراً في الجنوب والبقاع وعكار، واستئناف "المعارك" والجولات في بيروت معركة القنطاري، معركة الفنادق، معركة الأسواق.... ففي هذه المراحل أو "المواقف" كلها، اختبرت السياسة السورية بواسطة الجماعات الفلسطينية الموالية الصاعقة، القيادة العامة ... الهوج الفلسطيني، فألفته مؤاتياً ومطواعاً. وتولى الهوج هذا خلخلة لبنان على نحو وقدر لا دواء لهما إلا بقوة عسكرية قاصمة تتولى الحؤول دون انضمام جزء من لبنان الى الدولة العبرية، من وجه، وتتولى، من وجه ثان، الحؤول دون خروج لبنان دولةً متماسكة من دوامة المنازعات العربية والإسرائيلية، وقيامه بنفسه. ومنذ ربع قرن يدور شطر من السياسات الإقليمية المشرقية على "هذا". * كاتب لبناني.