رفضت شركة الشحن البحري دفع تكاليف معالجة النفايات الخطرة في هولندا، فأبحرت الناقلة بحمولتها السامة وفرغتها في ساحل العاج. انها قصة جديدة للتجارة القذرة التي حوَّلت البلدان النامية مكبّات للنفايات الخطرة المصدَّرة من الغرب كان الفتى جان باتيست غياسي ينقّب في مكب النفايات قرب أبيدجان بحثاً عن خردة معدنية، ليبيعها بنصف دولار للكيلوغرام. وهو اعتاد أن يفعل ذلك ساعات يومياً بعد انصرافه من المدرسة، لكسب بعض المال الذي يقيت عائلته. لكن صنداله المهلهل غرق ذلك المساء في بقعة وحل سوداء، فعاد الى منزله وقد غطت قدميه وساقيه مادة غريبة تفوح منها رائحة نفّاذة. تلك الرائحة ذاتها ملأت المكب وأحياء المدينة، وكانت كريهة الى حد الإرعاب. عبق خانق يحرق الأنف والعينين، جمع بين روائح البيض الفاسد والثوم والبترول. بعد أيام ظهرت على جلد الفتى وكثيرين من سكان الجوار بثور تحولت الى قروح سيالة. وعانت عائلات بأسرها من صداع وغثيان ونزف في الأنف وآلام في المعدة. مات عشرة أشخاص على الأقل، وأدخل نحو مئة ألف الى المستشفيات، مما شل نظام الرعاية الصحية الهش في بلاد أفقرتها حرب أهلية منذ العام 2002 ومزقتها بين شمال يسيطر عليه المتمردون وجنوب في يد الحكومة. عندما شاعت أخبار الموت والمرض ذعر السكان المقيمون قرب المواقع الملوثة بالوحول السامة، وأخليت المنازل، ونزح الألوف في عربات تجرها الحمير الى الغابات القريبة التي هجروها هرباً من عنف الحرب الأهلية. كيف وصلت الوحول السامة بأبخرتها القاتلة الى عقر دار أهالي أبيدجيان، العاصمة التجارية لساحل العاج؟ انها حكاية"عولمة". لقد أفرغتها هناك ناقلة صنعت في كوريا، تملكها شركة يونانية، ترفع علم باناما، مستأجرة من فرع في بريطانيا لشركة سويسرية مقرها هولندا. التخلص المأمون من تلك الوحول في أوروبا كان سيكلف أكثر من نصف مليون دولار، لذا تم إلقاؤها على أبواب فقراء في أفريقيا. تشيرنوبيل ساحل العاج بدأت الحكاية في 2 تموز يوليو ،2006 عندما وصلت ناقلة ينخرها الصدأ اسمها"بروبو كوالا"الى ميناء العاصمة الهولندية أمستردام في طريقها الى إستونيا، بعدما مكثت طويلاً في البحر المتوسط. لقد استأجرتها شركة"ترافيغورا"التي تتعاطى التجارة بالنفط والمعادن، وحمّلتها ما ادعت أنه 250 طناً من"الوحول العادية"الناتجة من غسل خزانات السفن. عرضت شركة"خدمات مرفأ أمستردام"معالجة تلك الوحول في مقابل 15 ألف دولار. ولكن مشاكل برزت عند بدء تفريغها، فقد تبين أن حجمها كان أكبر كثيراً من المعلن، إذ تعدى 400 طن، ثم ان الأبخرة المنبعثة منها أصابت بعض العمال الهولنديين بالغثيان. أوقفت الشركة عملية التفريغ وأمرت باجراء تحاليل للوحول، بيَّنت نتائجها وجود نفايات خطرة. فتم إبلاغ السلطات الهولندية حيث فتح المدعي العام تحقيقاً جنائياً. وأُبلغت شركة"ترافيغورا"أن كلفة معالجة الوحول والتخلص منها باتت أعلى كثيراً: 300 ألف دولار. لكن"ترافيغورا"، التي بلغت عائداتها عام 2005 نحو 28 بليون دولار، رفضت دفع هذا المبلغ، واسترجعت وحولها وغادرت مرفأ أمستردام. أبحرت"بروبو كوالا"الى إستونيا، حيث تم تحميلها منتجات نفطية روسية. وبعد تسليمها في نيجيريا، تابعت رحلتها الى أبيدجيان لتصل في 19 آب أغسطس. وأبلغت سلطات الميناء ووزارة النقل في ساحل العاج بأنها تنقل نفايات كيميائية تتطلب معالجة خاصة. وهناك كلفت شركة محلية تدعى"تومي"لهذا الغرض. استأجرت"تومي"بضع عشرة شاحنة صهريجية ضخت اليها الوحول، وتوجهت الى نحو 20 موقعاً في أبيدجيان وضواحيها حيث أفرغتها تحت جناح الظلام. وقد تم القاء عدة حمولات في مطمر أبيدجيان، في منطقة تدعى أكويدو. ومع أن السكان هناك اعتادوا الروائح الكريهة، الا أنهم ارتابوا بخطورة تلك الوديعة الجديدة، فتعقبوا احدى الشاحنات وطوقوها مما أجبر سائقها على الفرار. وفي أماكن أخرى، تخلى السائقون عن شاحناتهم خوفاً من تعرضهم لاعتداءات بعد انتشار خبر القاء نفايات سامة. لم تبادر سلطات ساحل العاج الى معالجة المشكلة في الوقت المناسب، رغم أن الروائح الكريهة كانت تعبق في أنحاء أبيدجيان. وأثار تفشي الأمراض تظاهرات صاخبة حمّلت"الفساد الحكومي"مسؤولية تمرير النفايات الخطرة وإلقائها. وقام بعض المتظاهرين الغاضبين بضرب وزير النقل وإحراق منزل مدير المرفأ، باعتبارهما المسؤولين المباشرين محلياً. وفي النهاية، أجبر الغضب الشعبي رئيس الحكومة على الاستقالة في أيلول سبتمبر، ليشكل حكومة"جديدة"لم تختلف عن سابقتها الا بتغيير وزيري النقل والبيئة. عادت الناقلة"بروبو كوالا"الى إستونيا، حيث تم احتجازها بناء على طلب رسمي من ساحل العاج، بعدما حاصرتها سفينة منظمة"غرينبيس"وقيّد ناشطوها أجسادهم اليها للحؤول دون مغادرتها المرفأ. كذلك رفعت منظمة"غرينبيس"في أمستردام، حيث مقرها الرئيسي، دعاوى جنائية ضد وزارة البيئة الهولندية. وقال الكيميائي إيكو ماتسر، خبير النفايات السامة لدى المنظمة:"كانت الاجراءات كلها مخالفة للقانون، بدءاً من السماح للنفايات بالدخول، الى اعادة ضخها في الناقلة، وانتهاء بتركها تغادر من دون أي تراخيص". لم يتضح تماماً منشأ تلك النفايات الخطرة. فثمة تقارير على أن الناقلة عملت في البحر المتوسط ك"خزان عائم"واستقبلت حمولات سامة من سفن مختلفة، اضافة الى وحول بترولية. كما أفادت تقارير في الصحافة الهولندية أنها كانت تستخدم سرياً كمحطة عائمة لتكرير النفط خلال الصيف، حين ارتفعت أرباح البنزين بشكل غير معتاد. لكن"ترافيغورا"نفت كل ذلك. قال أندرياس برنستورف، وهو خبير بتجارة النفايات السامة في هامبورغ بألمانيا:"كان على سلطات ميناء أمستردام أن تجبر الناقلة على التوجه الى محرقة روتردام القريبة، وألا تسمح لها باكمال طريقها وكأن شيئاً لم يحصل". فاتفاقية بازل بشأن التحكم بنقل النفايات الخطرة عبر الحدود تنظم مسؤوليات البلدان الصناعية إزاء التخلص من النفايات الخطرة، وهي تمنع تصديرها الى البلدان النامية حيث لا توجد مرافق مناسبة لمعالجتها أو التخلص منها. تصدير النفايات السامة من البلدان المصنّعة الى البلدان النامية بات عملاً روتينياً. وتعترف المفوضية الأوروبية بأن نحو 50 في المئة من صادرات النفايات التي تغادر الموانئ الأوروبية لا تتقيد بالتشريعات الدولية. وقد اعلنت في حزيران يونيو الماضي انها ستعزز تطبيق تشريعاتها ابتداء من سنة .2007 وقد أعلنت"غرينبيس"أن أعمال تفتيش أجريت في 18 ميناء بحرياً أوروبياً عام 2005 أظهرت أن 47 في المئة من النفايات المخصصة للتصدير هي غير مشروعة، وأن ما لا يقل عن 23 ألف طن من النفايات الالكترونية غير المصرح بها أو المخصصة للسوق"الرمادية"شُحنت من بريطانيا وحدها عام 2003 الى جنوب شرق آسيا والهند والصين وافريقيا. وفي الولاياتالمتحدة، يقدر ائتلاف وادي السيليكون لمناهضة السموم SVTC وهو منظمة بيئية تدير حملة ضد تصدير النفايات الالكترونية، أن ما بين 50 و80 في المئة من النفايات الالكترونية التي تجمع من اجل اعادة تدويرها يتم تصديرها الى بلدان نامية. وهناك خطر من نوع خاص، هو تصدير السفن التي انتهت حياتها والملوثة بنفايات الاسبستوس الأميانت الى"ساحات الخردة"في آسيا. "الحفرة الصحية"للقرية العالمية يرى بيئيون ان أفريقيا، الأفقر بين قارات العالم والتي تضم مناطق كثيرة تعاني من عدم استقرار سياسي، تتحول تدريجياً الى مقبرة للنفايات الخطرة. ومن أسباب ذلك الفساد، وغياب أو عدم تطبيق القوانين المحلية التي تحول دون التخلص العشوائي من النفايات، ومحاولة الشركات اجتناب نفقات أعمال التنظيف والمعالجة. ويقول مايكل وليامس، الناطق باسم برنامج الأممالمتحدة للبيئة:"تعتبر أفريقيا الأكثر تأثراً بين القارات. وقد حصلت فيها حالات عديدة حيث ألقيت حمولات السفن عشوائياً، او تركت السفينة برمّتها حتى تفنى"، مضيفاً أن الأممالمتحدة لا تملك إحصاءات حول عدد الأشخاص الذين قتلتهم النفايات أو أمرضتهم. يقول العالم البيئي السنغالي حيدر العلي:"نتكلم عن العولمة، عن القرية العالمية، ولكن هنا في افريقيا يخالجنا انطباع بأننا الحفرة الصحية لتلك القرية". وهو يرى أن"النفايات غالباً ما يقبلها أشخاص فاسدون أو عصابات أو جماعات متمردة تريد المال لشراء أسلحة". وحذر المدير التنفيذي لمنظمة"غرينبيس"غيرد ليبولد من"استعمار جديد بواسطة النفايات الخطرة".