لم تمض أيام قليلة على اشتباكات ليل الثلثاء الماضي في بيروت بين حزب الله وجمعية المشاريع الإسلامية (الأحباش)، إلا وكانت الحادثة قد أُشبعت تحليلاً ووصفاً وتوقعاً. لكن ثمة مقارنة تستبطن قدراً من الصراحة لم يُفاتح بها اللبنانيون أنفسهم، وتتمثل في أن الاحتقان السياسي والطائفي غالباً ما يُترجم في الشارع الإسلامي باشتباكات مسلحة، ويخلف ضحايا وأضراراً، في حين انه وعلى بعد مئات الأمتار منه، ثمة احتقان بين القوى المسيحية لا يقل ضراوة، وأحياناً كثيرة يفوقه في قوته، لكنه لا يُترجم على الاطلاق بالنزول الى الشارع، وباستعمال السلاح، ويبقى مضبوطاً بأطره الاجتماعية والسياسية. وهنا لا بد من الإشارة وفي سياق المقارنة الى أن التواصل بين قيادات المتخاصمين المسلمين يبقى قائماً، وأن مصالحات واجتماعات تنعقد بين زعماء الجماعتين وتصدر بعدها بيانات وتعهدات، في حين أن شيئاً من هذا لم يجر بين القيادات المسيحية المتخاصمة، التي يرفض كثيرون من وجوهها فكرة عقد مصالحة أو اعتراف بالخصم. فميشال عون مثلاً يرفض من حيث المبدأ فكرة «مصالحة مسيحية». وعلى رغم ذلك يبقى الفارق هائلاً في انعكاس الاحتقان في الشارع! علماً أن الافتراض يختل في حالات نادرة منها حوادث متفرقة بين جماعتي القوات اللبنانية والمردة في شمال لبنان، لكنها أحداث سرعان ما تُطوق، وسرعان ما تبدي القوى هناك مرونة وتعاوناً، ناهيك عن انها حوادث في الهامش والطرف وليست في المتن. لهذه المعادلة أسباب كثيرة ربما كان من المفيد عرضها في سياق التوقف عند ما حصل في منطقة برج أبي حيدر. أولاً، عندما يُقال الشارع الإسلامي فالمعني هنا كل من الشيعة والسنة، وهذه قسمة لا مقابل لها في الشارع المسيحي. وينجم عن هذه القسمة ما لا يُحصى من فروق. فبالإضافة الى أنها تستمد احتقانها من اضطراب عام في العلاقة بين السنة والشيعة يتجاوز لبنان، فإن القول بان الانقسام في لبنان سياسي وليس طائفياً ومذهبياً قد سقط نهائياً عند حدود اشتباك الثلثاء بين «أبناء الصف السياسي الواحد» والمذهب المختلف. وفي حين يُسهل الاختلاف والاحتقان المذهبي لقاء القادة المسلمين وتبادل اعترافهم بحدود كل منهم داخل طائفته، فلا يهدد ذلك طموحاتهم داخل جماعاتهم، يتولى الانسجام الطائفي والمذهبي في الحالة المسيحية منع تلاقي القادة، لما قد يوحي به هذا التلاقي من اعتراف في النفوذ داخل الطائفة والمذهب والجماعة. ثانياً، توافر السلاح في أيدي المسلمين على نحو أكثف مما لدى المسيحيين، وهذا اعتقاد قد يثير حفيظة كثيرين، إذ قد يُستشف منه حكماً بتمتع الأخيرين بمستوى أعلى من النقاء، في حين أن ما دفع إليه معطيات عملية، منها ما هو بديهي ويتمثل في أن السلاح يظهر في أيدي قوى إسلامية على نحو أسرع وأوسع مما يظهر في أيدي قوى مسيحية، ومنها أن لدى المسلمين أحزاباً سلاحها مشرّع في البيان الوزاري، وأخرى كانت حليفة للأجهزة الأمنية اللبنانية والسورية ولم يُنزع سلاحها في العقدين الفائتين. وهذا بالإضافة الى أسباب كثيرة أخرى كقرب أحياء المسلمين من المخيمات الفلسطينية التي ما زالت الأحزاب والقوى فيها محتفظة بالسلاح، وهو ما يُسهل عملية الاتجار بالأسلحة عبر حدود المخيم. أما الأحزاب والأفراد في المناطق المسيحية، فما يُفترض انه بحوزتها من أسلحة يبقى محدود المصادر. فهو ما تبقى من سلاح الحرب الأهلية الذي تم نزع جزئه الأكبر بعد 1990 كما هي حال القوات اللبنانية، في حين ينخفض مستوى التسلح لدى العونيين الى مستوى أدنى نظراً لانعدام الماضي المسلح لدى الشرائح الأوسع منهم. ثالثاً، أدى ما كابده المسيحيون خلال سنوات النفوذ السوري المباشر في لبنان (1990-2005) الى بلورة حالة اعتراض مدنية أرست تقاليد صدام غير مسلح في الأحياء ومع القوى الأمنية الرسمية. وهذا ما تستعين به البيئة المسيحية اللبنانية في تصريف احتقاناتها، ويبدو أنه قد تكرس بصيغة متوافق عليها ضمناً من دون أن يُعلن كشرعة. وهنا يبدو أن الأحزاب المسيحية منصاعة الى هذه الصيغة أكثر من كونها راغبة فيها، إذ يشعر المقيم في المناطق الشرقية من بيروت أن ثمة ما هو أقوى من الأحزاب ومن رغباتها، وأن هناك نظام عيش يومي يفوق بأهميته، لدى السكان، ما يمكن أن يطرأ عليه من عوارض قد تتسبب بها انتخابات أو محطات سياسية أو لحظات احتقان. ففي السنوات الثلاث المنقضية لطالما وقف جمهور عوني في ساحة ساسين في منطقة الأشرفية في مواجهة جمهور من القوات اللبنانية، وتبادل الجمهوران الشعارات وأحياناً الشتائم، لكن ذلك لم يفض يوماً الى صدام مسلح، على رغم انه من المرجح أن بين المتواجهين من يملك سلاحاً في منزله. هذا المشهد لا يمكن معاينته في الحالة الإسلامية، لا بل إن احتمال تواجه متظاهرين من طرفي الانقسام أمر تجهد القوى والأحزاب لتفاديه نظراً لبداهة تحوله الى مواجهة مسلحة. لكن الافتراض الثالث ينقلنا الى مستوى آخر من المحنة اللبنانية، وما قد يُستشف منه لجهة أن حصانة مدنية قد تكون وراء عدم انتقال الاحتقان السياسي الى اشتباك مسلح تُبدده حقائق كثيرة. فالسنوات الخمس الفائتة أفقدت المسيحيين في لبنان عناصر تقدمهم المدني وإن كانت قد أبقت على بعض المظاهر منها. فالسهولة التي قايض بها ميشال عون مكتسبات ضيقة بحقائق ومسلمات لبنانية من النوع الثقيل والتي لم تُقابل بمحاسبة تُذكر في المحطات الانتخابية المختلفة، تدفع الى الاعتقاد بعجز المسيحيين عن استثمار القيم المدنية التي تتخلل عيشهم اليومي في إنتاج مشهد سياسي موازٍ، واقتصار الاستثمار على منع انتقال الاحتقان الى اشتباك مسلح. ثمة بؤر مدنية واسعة عند المسلمين، لكنها بؤر ضعفهم لا بؤر قوتهم. فلنتذكر السهولة التي سلم فيها شارع الحمرا نفسه الى المسلحين في 7 أيار، ولنتذكر أن سكانه هم سَقط المجتمعات الكبرى، وقادمون إليه هرباً ولجوءاً، وأن من هذه حالهم لا يقوون على السلاح.