يتضاءل الترحيب الرسمي والشعبي التركي بزيارة بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر الى درجة تقترب من الازدراء والتهميش، بل حتى إعلانه ضيفاً هو أمر غير مرغوب فيه، ولذلك اسباب منها ما يتعلق بشخص البابا وما صدر عنه من تصريحات تجاه الإسلام وتركيا، ومنها ما يتعلق بطبيعة تركيا القومية وتاريخها ونظرتها الى الأقلية المسيحية التي تعيش على ارضها. والغالب ان نتائج هذه الزيارة لن تصب في مصلحة تركيا التي تحاول الانضمام الى الاتحاد الأوروبي من خلال لعب دور في مسيرة اتفاق الحضارات وتفاهمها التي ظهرت بعد احداث الحادي عشر من ايلول سبتمبر، بل انها ستدفع بتركيا اكثر نحو الشرق من خلال إبرازها عدم قدرة الدولة قبل الشعب على استيعاب الآخر المسيحي، فتفاعل تركيا مع الغرب وتفاهمها معه ناتجان من مشاركتها له معايير العلمانية والديموقراطية وليس من تسامحها المزعوم مع العالم المسيحي. تتعدد ألوان الاحتجاج على زيارة البابا الى تركيا شعبياً ورسمياً، فمن احتلال مجموعة قومية متطرفة متحف ايا صوفيا في اسطنبول وإقامة الصلاة فيه للتأكيد على هويته الإسلامية على رغم كونه في السابق - قبل الفتح العثماني لاسطنبول كان إحدى أهم الكنائس البيزنطية، الى تظاهرة حاشدة ينظمها حزب السعادة الإسلامي قبل يومين من زيارة البابا، الى تظاهرات اخرى متوقعة خلال الزيارة بأشكال وألوان مختلفة، يخشى ان ينال بعضها من أمن وسلامة وفد البابا. وعلى الجانب الآخر، يأتي غياب كل من رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان ووزير الخارجية عبدالله غل ووزير الشؤون الدينية محمد ايضن عن تركيا خلال الأيام الأربعة لزيارة البابا، وإصرار رئيس الشؤون الدينية محمد بارداق اوغلو على ان يزوره البابا في مكتبه رافضاً ان يذهب هو إليه، إضافة الى حجب التلفزيون الرسمي التركي الذي يحتكر تصوير نشاطات زيارة البابا وبثه معظم الصلوات والقداديس التي يشارك فيها البابا في تركيا من دون إبداء أسباب. شعبياً مهدت تصريحات البابا بنديكت السادس عشر التي اقتبسها حول الإسلام اخيراً لهذا الموقف الرافض زيارته قبل تقديم اعتذار رسمي وواضح عن تلك التصريحات، كما ان للبابا الحالي ذكريات غير سارة في تركيا قبل ان يتولى البابوية، فالأتراك يذكرون تصريحاته الرافضة انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي بسبب هويتها المسلمة، كما ان علاقة تركيا المتوترة حالياً مع الاتحاد الأوروبي بسبب قبرص والملف الأرمني لا تجعل الشارع التركي مهيئاً للترحيب بأي زائر أوروبي أو غربي، ناهيك عن رجل يمثل الغالبية المسيحية الرافضة للعضوية التركية. اما على الصعيد الرسمي فالدعوة التي وجهها الرئيس احمد نجدت سيزر العام الماضي للبابا من اجل زيارة تركيا جاءت من باب"مجبر أخوك لا بطل"، اذ كانت الدعوة مجرد وسيلة لسد الطريق امام دعوة اخرى والالتفاف عليها، اذ ان بارتالاميوس بطريرك الروم الأرثوذوكس في تركيا كان سارع الى توجيه دعوة الى البابا لزيارة اسطنبول فور توليه البابوية، بهدف العمل على مصالحة الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذوكسية، وهذه الدعوة تقدم بها بارتالاميوس بزعم ان كنيسة الروم الأرثوذوكس في اسطنبول هي الكنيسة الرئيسة - تاريخياً - لجميع كنائس الأرثوذوكس الشرقية، وهو أمر خلاف بينها وبين كنائس في موسكو وأنطاكية، كما انه زعم ترفضه الدولة التركية التي تخشى ظهور كيان ارثوذوكسي في اسطنبول على شاكلة الفاتيكان في ايطاليا، يحتل جزءاً من ارض المدينة، وينازع على السيادة فيها ويحيي التاريخ البيزنطي هناك. لذا سارعت الديبلوماسية التركية الى توجيه دعوة رسمية الى البابا من مخاطبه السياسي رئيس الجمهورية احمد نجدت سيزر لقطع الطريق على قبول البابا دعوة بارتالاميوس وإنشاء حوار ندي بين الفاتيكان وكنيسة الروم الأرثوذوكس في اسطنبول، خصوصاً ان دعوة بارتالاميوس للبابا فتحت الباب امام شائعات بأن الزيارة في حال تمت في إطار ديني بحت فإنها قد تتضمن إحياء قداس في متحف ايا صوفيا، الأمر الذي اقشعرت له أبدان الأتراك فور سماعه، ولا بد هنا من اجراء مقارنة تاريخية لاستيضاح نظرة الأتراك الى ايا صوفيا، فبينما تحاشى خليفة المسلمين عمر بن الخطاب الصلاة في كنيسة القيامة عندما فتح القدس من اجل الحفاظ على الكنيسة وعدم تحويلها الى مسجد، عمد السلطان العثماني محمد الفاتح الى الصلاة في كنيسة ايا صوفيا وتحويلها الى مسجد بعد فتحه اسطنبول التي كانت عاصمة للبيزنطيين ومن ثم تحولت الى عاصمة الخلافة الإسلامية، ولذا فإن الدعوة الى تحويل اياصوفيا الى كنيسة من جديد يعني في نظر الأتراك خيانة للسلطان محمد الفاتح الذي اشترى بماله الكنيسة وحولها الى وقف إسلامي كمسجد، وكذلك للدولة العثمانية، بقدر ما هو خيانة للدولة الإسلامية وإحياء للعهد البيزنطي المسيحي. رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان اعتذر عن عدم لقاء البابا ولو دقائق في بداية أو نهاية زيارته بسبب حضوره قمة الناتو في ليتوانيا، وأكدت الخارجية ان الفاتيكان هو الذي حدد موعد زيارة البابا وانها اخبرته بوجود أردوغان في الخارج تلك الفترة وطلبت تغيير الموعد إلا أن الفاتيكان رفض وعبّر عن تفهمه للوضع. وإن بدت الصورة الرسمية بريئة للغاية هنا، إلا ان تصريحات أردوغان أخيراً والتي قال فيها انه غير مستعد لتغيير جدول أعماله من أجل لقاء البابا في تركيا، تعكس صورة ما يجري خلف الكواليس، خصوصاً أن أردوغان كان من بين أشد المنتقدين لتصريحات البابا في شأن الإسلام ومن بين من طالبوه بالاعتذار رسمياً وعلناً، وهو أيضاً لن يجني شيئاً من الظهور في الصورة مع شخص غير مرغوب فيه شعبياً على عتبة عام انتخابي حاسم في تركيا. كما ان محاولة وزير الخارجية عبدالله غل تعديل صورة"المقاطعة"الرسمية للبابا من خلال عرضه لقاءه الى غداء عمل في اليوم الأخير للزيارة، جاء خارج إطار الديبلوماسية المتعامل بها، فالمعروف عن بابا الفاتيكان انه لا يلبي مثل هذه الدعوات التي يعتبرها من متاع الدنيا الذي يزهد فيه، ولذا جاء رفض الفاتيكان دعوة غل ليزيد مشاكل التعامل البروتوكولي والديبلوماسي المعقدة لهذه الزيارة والتي وصلت حتى الى الخلاف على السيارة التي سيستقلها البابا خلال جولته وما إذا كانت تتبع للكنيسة الأرثوذكسية أم لرئاسة الجمهورية التركية. أما رئيس الشؤون الدينية محمد بارضاق أوغلو صاحب أقوى تصريح ندد بتصريحات البابا عن الإسلام، فإنه اعتذر عن لقاء البابا لأن اللقاء بين الرجلين يجب أن يتم في إطار زيارة رجال الدين بعضهم لبعض، ما يستوجب ذهاب الضيف الى رئاسة الشؤون الدينية في أنقرة وليس العكس. تركيا تنتظر من البابا تصريحات تجبر ما انهدم بين العالمين المسيحي والإسلامي من جسور عندما اقتبس البابا تصريحات مسيئة للإسلام في محاضرة ألقاها في ألمانيا الصيف الماضي، وهذا فقط يجعل للزيارة أهمية سياسية لتركيا التي تسعى الى أن تكون عنواناً لاتفاق الحضارات والأديان وتفاهمها، لكن، لم تحصل من الفاتيكان على أي إشارة بهذا الخصوص قبل الزيارة، أو على الأقل فإن الترتيبات البروتوكولية التركية تشير الى عدم وجود ثقة لدى الأتراك بأن تصريحات البابا في تركيا قد تحمل أي جديد مهم. بل العكس فإن الزيارة وما قد تشهده من تظاهرات احتجاج ستركز أنظار العالم المسيحي على تركيا ليراها هذه المرة في شكل مختلف، فالعالم الغربي لن يرى خلال الزيارة تركيا العلمانية الغربية التوجه، وإنما الوجه الشرقي الإسلامي والقومي لتركيا، وستبرز قضايا الأقلية المسيحية التي تعاني الكثير في هذا البلد على رغم علمانيته، وللتاريخ هنا باع طويل في سرد ما جرى للمسيحيين في تركيا خلال قرن، فإضافة الى ما واجهه أكثر من مليون أرمني من تهجير قسري وقتال لا يزال الخلاف قائماً على وصفه وتسميته، فإن اتفاقية لوزان عام 1923 قضت بترحيل مليون ومئتي ألف مسيحي كانوا يعيشون في اسطنبول وغرب تركيا الى اليونان، ثم جاء قانون الضريبة على الحياة على غير المسلمين في تركيا عام 1945 والذي دفع الآلاف ممن تبقى من المسيحيين الى الرحيل تجنباً للإفلاس، وتبع ذلك أحداث 6 أيلول سبتمبر 1955 التي تعرض خلالها الأرمن والمسيحيون في اسطنبول الى اعتداءات وحشية بأيدي المتطرفين الأتراك دفعت بالكثيرين منهم الى الهرب تاركين ممتلكاتهم للنهب والسرقة حتى تراجع عدد المسيحيين في تركيا الى أقل من 0.2 في المئة حوالى مئة ألف نصفهم من الأرمن. وإضافة الى النظرة السائدة في تركيا حول الأقلية المسيحية بكونهم عملاء وجواسيس، فإن الدولة التركية ترفض إعادة فتح مدرسة الرهبان في جزيرة هيبلي في اسطنبول ما يضطر الأقلية المسيحية الى استيراد مدرسين ومعلمين للدين وأساقف من الخارج، ولا يزال البرلمان يناقش حتى اليوم وبعد ضغوط الاتحاد الأوروبي قوانين حقوق الجماعات والجمعيات غير المسلمة في تركيا التي استولت الدولة على ممتلكاتها وأراضيها بغير وجه حق، وتعمل الآن على تعويضهم عنها والسماح لهم بشراء ممتلكات جديدة وترميم ممتلكاتهم وكنائسهم التي توشك على الانهيار. وكان مجلس الأمن القومي التركي أعد تقريراً اعتبر فيه فعاليات المبشرين المسيحيين البروتستانت التي زادت في تركيا عقب زلزال اسطنبول 1999 خطراً يهدد الأمن القومي، واحتجز رجال الأمن مبشرين مسيحيين وشن حملة على الكنائس السرية التي بدأت تنتشر في المدن التركية. وعليه فإن التاريخ الذي سجل ان تركياً هو من حاول اغتيال بابا الفاتيكان الراحل جان بول السادس، فإنه سيسجل أيضاً ان ثالث زيارة يقوم بها بابا الفاتيكان خلال عمر الجمهورية التركية الحديث، ستحقق للبابا بيندكت ما يريده من سعي الى تحويل أوروبا الى ناد مسيحي متدين، وذلك من خلال تسليط أضواء الإعلام العالمي مدة أربعة أيام على وجه آخر لتركيا كان العالم نسيه أو تناساه.