يؤرق بعض العرب الشعور بالذنب عن مسؤوليتهم في خيبة إدارة الرئيس بوش. ويؤرق بعضاً آخر تفاقم الشعور في المنطقة بالشماتة في هذه الإدارة وخيبتها، ويؤرق بعضاً ثالثاً الشعور بالخوف من مستقبل تهيمن فيه على واشنطن قوى من اليمين واليسار تكره العرب وما يعتقدون. ولا يخفى أن لدى بعض آخر اطمئناناً إلى أن حظنا مع الديموقراطيين سيكون أفضل، وأن أسوأ مراحل العلاقة مع الولاياتالمتحدة ذهبت ولن تعود. معذورون العرب الذين اهتموا بمتابعة نتائج الانتخابات الأميركية أكثر من اهتمامهم بمتابعة مذبحة بيت حانون، فكلنا في النهاية، حسب فهمهم، رعايا لهذه الإمبراطورية المترامية الأطراف والبالغة النفوذ والقوة أو متأثرون بها. ولذلك فالاهتمام بما يحدث في مركزها أي في واشنطن يسبق أي اهتمام آخر أو يجب أن يسبقه. وأظن أن الأمر ذاته ينطبق على الأوروبيين والآسيويين وجميعهم شعوب اهتمت بهذه الانتخابات أكثر من اهتمامها خلال الأسبوع الفائت بأي تطور آخر. يناقشون الآن في باريس ولندن وبرلين، كما يناقش البعض من العرب، دورهم في هزيمة الرئيس بوش. أفهم جيداً منطق"أحباء"أميركا في المنطقة العربية الذين يعيبون على حكوماتهم عدم استجابتها لرغبة إدارة الرئيس بوش وضغوطها لإقامة الديموقراطية وإدخال إصلاحات سياسية واسعة وحقيقية. لقد دخل بوش حرب العراق تحت شعارات ثلاثة، أولها القضاء على أسلحة الدمار الشامل وكانت كذبة أو معلومات خاطئة، وثانيها مطاردة"القاعدة"وجماعات الإرهاب وكانت أيضاً كذبة فلا"القاعدة"ولا الإرهاب كان لهما وجود في عراق صدام حسين، وثالثها إقامة الديموقراطية في العراق باعتبار أن قيامها هناك سوف يشجع شعوب المنطقة على فرضها في كل دول الشرق الأوسط، ولم تكن كذبة لكنها كانت شعاراً اختفت وراءه نيات أيديولوجية بثها المحافظون الجدد، وأفكاراً ديماغوجية شاعت بين عدد من الأتباع من أصول عربية في الأكاديمية الأميركية. وكان واضحاً منذ بداية الغزو أن هذا الهدف تحديداً لن يتحقق، فلا المشكلة العراقية كانت مرشحة للحل عن طريق الديموقراطية، ولا المجتمعات العربية وحكوماتها كانت جاهزة لانتهاز هذه الفرصة بالذات لتعديل أنظمة السياسة والحكم فيها. وأخطأ الرئيس بوش حين استنفد أرصدة سياسية كبيرة في الولاياتالمتحدة لتحقيق هذا الغرض مطمئناً إلى تأكيدات أعوانه عن سهولة تحقيق هذا الهدف. هنا يمكن القول، بكل ثقة، إن السلبية التي تعامل بها العرب مع الضغط الأميركي الجارف كانت أقوى من الضغط وتسببت في"خيبة"الرئيس بوش. من ناحية أخرى، سعت إدارة بوش منذ ما قبل الغزو إلى الحصول على مساعدة حكومات الجوار العربي وحكومات هي أبعد بعض الشيء عن صفة الجوار لضبط الحدود مع العراق والتدخل لتهدئة الأوضاع الطائفية فيه. ولم ترفض الحكومات العربية، وحتى الجامعة العربية لم تبخل فأظهرت نيات طيبة لمساعدة أميركا. وربما لا تقدر إدارة الرئيس بوش، أو ما تبقى منها، على الزعم أن العرب لم يساعدوها في العراق، فقد ساعدوا. ولكنها المساعدة"بغير نفس"أو من دون حماسة. وكنت مع آخرين أسمع من معلقين أميركيين أن المساعدة العربية كانت حسب الرأي الرسمي الأميركي متقطعة ومترددة وبالتأكيد سلبية. أما السلبية فكانت اتهاماً أميركياً ثابتاً لمجمل السلوك السياسي العربي. ولا شك أن جانباً كبيراً من هذا الاتهام كانت، وما زالت، ترعاه إسرائيل وجماعات الضغط الصهيوني. وعندما نشبت أزمة لبنان باختطاف جنديين إسرائيليين وحملة تأديب وحشية شنتها إسرائيل تصورت إدارة الرئيس بوش أن الفرصة سنحت لتحقق بغزو إسرائيلي رصيداً ينفعها في العراق ويستعيد لها شعبية لدى الرأي العام الأميركي. ولذلك عقدت تلك الإدارة آمالاً كبيرة على دول عربية تستطيع تعبئة الرأي العام العربي في اتجاه يسهم في دعم إدارة بوش داخلياً في أميركا والعراق. ولم تتحقق تلك الآمال. وكتبت صحف أميركية متعددة عن المواقف المتراجعة أو"السلبية"لبعض الحكومات العربية والموقف الجماهيري الذي ندد بأميركا وحرم واشنطن من جني ثمار فرصة كتب سيمور هيرش عنها أنه جرى التحضير المشترك لها طويلاً بين إسرائيل والولاياتالمتحدة. هنا أيضاً لعبت"السلبية العربية"حسب الفهم الأميركي دوراً في الخيبة التي ألمت بحكومة الرئيس بوش. من ناحية رابعة، لم تهدأ يوماً في السنوات الأخيرة مشاعر العداء في العالم العربي - الإسلامي لأميركا، وتحديداً العداء للسياسات الأميركية. وفي واقع الأمر وكما أظهرت نتائج استقصاءات للرأي جرت في أوروبا وآسيا، لم تكن الكراهية العربية وحيدة في العالم، ففي معظم دول أوروبا، وبخاصة، وللغرابة، في بريطانيا تجاوزت نسبة الذين عبروا عن كراهيتهم للسياسة الأميركية كل الحدود المعروفة سلفاً، ولذلك لا أعيب على العرب إصرارهم في التعبير عن هذه الكراهية، وبخاصة بعد أن تابعت الانتخابات الأميركية وجمعت مادة إعلامية وإعلانية تكشف عن حملة من جانب الحزب الديموقراطي لبث"الكراهية"للرئيس بوش شخصياً وحكومته في نفوس الناخبين. لكن الكراهية العربية بالذات خضعت للتضخيم الإعلامي الأميركي قبل الانتخابات وخلالها ولعبت جماعات الضغط الصهيوني دوراً بارزاً في هذا التضخيم، فبدت للناخب الأميركي دليلاً يضاف إلى أدلة أخرى تثبت فشل إدارة الرئيس بوش في تطوير سياسة خارجية ناجحة في الشرق الأوسط. وقد صاحبت هذه الحملة الناقلة للكراهية حملة أخرى ضد سياسات الرئيس بوش في موضوع الطاقة، وبخاصة فشل إدارته في إجبار الدول العربية على خفض أسعار النفط المنتج فيها. هنا أيضاً وقع اتهام على الدول العربية بالسلبية بالرغم مما يتردد يومياً عن التضحيات التي تقدمها الولاياتالمتحدة لحماية أمن الدول العربية. تستطيع الدول العربية رفض الاتهام بالسلبية كسبب من أهم أسباب فشل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وبالتالي رفض مسؤوليتها عن خيبة الحزب الجمهوري وإدارة الرئيس بوش في الانتخابات الأخيرة. ولكنها مهما فعلت لن تجد كثيرين في الولاياتالمتحدة يستمعون إليها ويتعاطفون معها. نعرف ويعرفون أن هناك جزءاً من الحقيقة في هذا الاتهام. ليس سراً أن عرباً كثيرين يعانون من سلبية حكوماتهم تجاه قضايا داخلية وإقليمية وإسلامية، وتجاه قضايا تمس في الصميم مصالح شعوبها ومستقبلها. وفي كل الأحوال لن تكون هذه السلبية وحدها السبب الموضوعي ولا حتى سبباً مباشراً في خيبة إدارة الرئيس بوش. وسيتضح بمرور الوقت أن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق تيار المحافظين الجدد. لا أحد ينسى أن قادة هذا التيار هم الذين اختاروا للشرق الأوسط الأسبقية على كل أولويات السياسة الإمبريالية التي دعوا لتطبيقها، وأنهم، قبل غيرهم، وراء كل خطوة خطاها الرئيس بوش نحو إعلان الحرب على الإرهاب وغزو العراق، وأنهم، وهو الأخطر، وضعوا مصالح أميركا وصاغوا سلوكها السياسي في قالب أيديولوجي. وكان هذا القالب هو السبب الموضوعي، أو السبب الأهم، وراء خيبتهم وخيبة الرئيس بوش. انطلاقاً من هذا التحليل يبدو منطقياً أن نتوقع مرحلة تجري فيها محاولات لممارسة الواقعية في التعامل مع الشرق الأوسط ويخبو فيها دور الأيديولوجيا ونفوذ جماعة المحافظين الجدد. وتعني الواقعية هنا أولاً الدخول لأول مرة في مواجهة صريحة مع الصراع العربي الإسرائيلي وبخاصة القضية الفلسطينية. ثانياً إطلاق مفاوضات مع إيران وسورية وتيارات المقاومة في أنحاء العالم العربي والإسلامي كافة. ثالثاً عزل الدين عن السياسة في ممارسات العلاقات الدولية وفي التعامل مع الأقليات الإسلامية في الغرب وتوعية الشعوب الغربية ضد خرافة"صدام الحضارات". رابعاً تقييد حرية جماعات الضغط الصهيوني في النفاذ إلى معاقل الحكم في البيت الأبيض والكونغرس والتأثير عليها في قضايا أكدت الانتخابات الأخيرة أنها كانت تمس بالضرر المصالح الحيوية الأميركية وأهمها غزو العراق وإثارة العداء والكراهية للإسلام والمسلمين وتهديد أمن الجاليات العربية والإسلامية في الولاياتالمتحدة وأخيراً الحشد السياسي والإعلامي لغزو إيران. وفي هذا يقول ايتامار رابينوفيتش السفير الإسرائيلي الأسبق في واشنطن حول احتمالات قيام مفاوضات مع إيران كلاماً له مغزى كبير، يقول"لن نترك الولاياتالمتحدة تفعل ما بدا لها مع إيران.. لن نسمح بأن يحدث هذا". ويبدو أن تصريحه هذا جاء ليرد على تصريح أدلى به السيد زيليكو مساعد كوندوليزا رايس وجاء فيه أنه"لكي تقيم أميركا حلفاً عربياً ضد إيران قد تلجأ إلى الضغط على إسرائيل لتقديم تنازلات للفلسطينيين". لا يوجد في واقع الأمر ما يؤكد المنطق القائل إن خيبة إدارة بوش ستدفع به إلى انتهاج الواقعية. إذ نلاحظ مؤشرات تزيد بعض الأمور غموضاً مثل موضوع انحسار تيار المحافظين الجدد. هناك من يقول إن البيت الأبيض بدأ يتخلص من قيادات هذا التيار وإن روبرت غايتس ينوي عمل الشيء ذاته في البنتاغون. بينما يتردد من ناحية أخرى أن هذا التيار استطاع أن يتوسع خلال السنوات الأخيرة ويتسرب في مختلف قطاعات المجتمع حتى أصبح له متعاطفون داخل الحزب الديموقراطي، وما الانحسار البادي على السطح سوى قرار انتهازي أو مدروس جيداً اتخذته قيادات في هذا التيار للنزوح مؤقتاً بعيداً عن مواقع الفشل المتوقع أو الواقع فعلاً. قيل إنهم ربما تنبأوا بقرب وقوع الخيبة العظمى فتركوا القارب قبل غرقه. يؤيد هذا الرأي التصريح الذي أدلى به منذ أسابيع ريتشارد بيرل الملقب بالملاك الأسود. وقال فيه"لو كنا نعرف أن إدارة بوش ستتصرف على هذا النحو السيئ وغير الكفوء ما كنا دفعناها إلى غزو العراق". ويؤيده آخرون بالقول إن الانتخابات الأخيرة أفرزت عدداً كبيراً من"الصقور"من نواب وشيوخ الحزبين، وأن ريتشارد تشيني مازال الأقدر من كل أعضاء النخبة الحاكمة على الاستفادة من خيبة الإدارة وتجديد عزم تيار المحافظين الجدد وتثبيت دعائمه داخل الكونغرس وغيره من أجهزة الحكومة. لا يوجد عندي شك في أن الدول العربية تستطيع الآن أكثر من أي وقت مضى التأثير - لو شاءت - في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط وتغييرها إن أرادت، لأن أميركا في العراق وفي غير العراق في حاجة ماسة للعرب. إلى جانب هذه الحاجة من جانب أميركا للعرب، أعتقد أن العرب أنفسهم ولأنفسهم في حاجة ماسة لأن يتحركوا وبسرعة ويفعلوا اشياء وليس شيئاً واحداً، هذا إن صدقت الصورة التي رسمها ريتشارد هاس في مقابلته الأخيرة مع مجلة"دير شبيغل"عن طرق مظلمة وحلول مستحيلة. يقول هاس في وصف هذا المستقبل:"لا سلام قابلاً للحياة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ميليشيات مسلحة تقوم وتنتشر في كل أنحاء الشرق الأوسط، إرهاب متطور ومتفاقم، توترات متزايدة بين السنة والشيعة، إيران تملأ الفراغ السياسي والثقافي في المنطقة، والعراق في فوضاه وحروبه الأهلية مستمر وقد يجر إليها دول الجوار". وتزداد الظلمة إذا أضفنا من عندنا إلى الصورة التي يرسمها هاس احتمالات ما يمكن أن تفعله إسرائيل في شرق أوسط على هذه الشاكلة. * كاتب مصري