توحي مؤشرات الى أن الأسابيع القليلة المقبلة قد تحمل تطورات غير عادية، وبعضها قد يكون خطيراً. حديث الوزير ريدج عن احتمالات وقوع عدوان إرهابي جديد ضد الولاياتالمتحدة على أرضها، وإن لا يبدو في ظاهره جديداً، إلا أنه يأتي في ظرف دقيق. فقد اقتربت الحملة الانتخابية في الولاياتالمتحدة من ذروتها. ثم أن الاهتمام بهذا الحديث من كثير من المحللين قد لا يكون فقط بسبب خطورة ما يحذر منه، ولكن أيضاً بسبب خطورة ما قد يكون يهدف إليه. ليس خافياً على أحد أن حملة الانتخابات الرئاسية في الولاياتالمتحدة تتطور في اتجاه لا يناسب إدارة الرئيس بوش، ولئن كان لا يوجد في أجواء الحملة الانتخابية ما يوحي بأنها وصلت إلى درجة الحسم لمصلحة مرشح ضد آخر إلا أن الانخفاض التدريجي في شعبية الرئيس بوش مطرد، وأسبابه واضحة. السبب الأول، والأهم، هو انكشاف سلسلة من حلقات متتالية من الكذب وسوء الأداء في ما يتعلق بالسياسة الخارجية الأميركية، وبخاصة في موضوع العراق. صحيح أن الرأي العام الأميركي ، وبخاصة في وقت الانتخابات، لا يهتم كثيراً بالسياسة الخارجية، إلا أن تراجع مصداقية الولاياتالمتحدة كدولة قائدة في المجتمع الدولي مس هذه المرة بشكل مباشر المواطن الأميركي العادي وجعل السياسة الخارجية تحتل موقع الصدارة مع أمور أخرى. ويتحمل مسؤولية هذا"التوطين"للسياسة الخارجية بعض كبار المسؤولين في إدارة الرئيس بوش الذين سعوا إلى تعبئة الرأي العام الأميركي ضد فرنسا وألمانيا ودول أخرى، وانشغلوا بإدارة معارك وهمية عبر أجهزة الإعلام مع الأممالمتحدة والقانون الدولي. ورغم أن الانحسار في شعبية بوش مازال متدرجاً وغير حاسم ،إلا أن القلق يسود دوائر متعددة في الولاياتالمتحدة، وبخاصة الدائرة المحيطة بالبيت الأبيض وعلى رأسها كارل روف مخطط استراتيجية انتخابات جورج بوش الابن منذ أن أوحى إليه بالترشح الى منصب حاكم ولاية تكساس. وأعتقد بأن كارل روف، وغيره من القيادات في الحزب الجمهوري، يأمل في حدوث أمرين ضروريين لإنقاذ الرئيس الأميركي في هذه الانتخابات. أولهما أن تتحسن المؤشرات الاقتصادية الشهرية بشكل ملموس خلال الفترة المتبقية حتى تشرين الثاني نوفمبر المقبل . والملاحظ أنها بالفعل تتحسن ولكن بوتيرة لا تدعم كثيراً احتمال وقوع انفراج قريب في الأوضاع الاقتصادية الأميركية. الأمر الآخر الذي يمكن أن يساعد بوش في وقف تدهور شعبيته هو أن يحدث تطور خطير، أو على الأقل هام، متعلق بالإرهاب. ولعل أول ما يطرأ على الذهن انتصار تحققه القوات العسكرية الأميركية في الخارج بمساعدة مباشرة من دول عربية وإسلامية أو منفردة في معركة بوش ضد الإرهاب، مثل اعتقال رمز أو أكثر من رموز الإرهاب كالظواهري أو الزرقاوي. لا أتوقع، وأعتقد أن واشنطن لا تنتظر، القضاء الكامل على الإرهاب خلال الأسابيع الخمسة عشر القادمة. بل وقد أذهب إلى أبعد بدون الوقوع في حبائل المؤامرة، فأقول إن واشنطن لا تخطط الآن لسياسة دفاعية أمريكية للمستقبل لا يكون الإرهاب ركيزتها وهدفها. بمعنى آخر توجد صعوبة في تخيل استمرار هذا الطاقم المهيمن على واشنطن من دون استمرار الإرهاب كصديق أو عدو. وهو الأمر الذي يدفع إلى الظن بأن اعتقال بن لادن الآن قد لا يكون بالضرورة مفيداً لأهداف المحافظين الجدد. لا يخفى أن العامل الذي أثبت نجاحاً فائقاً في زيادة لحمة الطبقة الحاكمة، وحقق شعبية كبيرة للرئيس جورج بوش كان خوف الرأي العام، وبدقة أكثر تخوفه. وفي اعتقادي بان الجهد الأكبر لحكومة الرئيس بوش خلال الأسابيع المقبلة سيتركز على تصعيد حملة تخويف الرأي العام الأميركي وتكثيف اللعب على هذا الوتر إلى أقصى حد ممكن. سيبذل مخططو استراتيجية التجديد للرئيس بوش في الانتخابات أقصى جهودهم للمحافظة على حالة الخوف التي يعيش فيها المواطن الأميركي بل والعمل على تصعيده بالتدريج . لقد أدرك أعضاء الطاقم الذي يشترك مع الرئيس بوش أو يوجهه في مهمة حكم الولاياتالمتحدة أهمية هيمنة الخوف على المواطن لتحقيق أهدافهم. معظمهم يعلم أنه في نظام ديموقراطي يصعب الحصول على تأييد المواطن العادي لسياسات خارجية عدوانية تميل إلى التوسع الإمبراطوري والمغامرات العسكرية والسياسية. وبالفعل لم يجد أعضاء هذا الطاقم سبيلاً لإقناع المواطن الأميركي بأهدافهم التوسعية إلا بإثارة خوفه، أي بترهيبه، إن صح التعبير. بدأ التخويف قبل أحداث 11/9 ضمن حملة سياسية وإعلامية ضد الإسلام والعرب، والإرهاب في الشرق الأوسط . وعندما جاء 11/9 أسرعت جماعة"المحافظون الجدد"باستخدامه كبرهان على أن الإرهاب الاسلامي المصدر عالمي الساحة، ويهدد الأميركيين والمصالح الأميركية في الخارج. ولذلك وجبت مواجهته حيث يكون، بالغزو العسكري ثم بالاحتلال . ولا ننسى أن الخوف لم يكن ضمن الاعتبارات والحسابات الداخلة في الخطط الموضوعة سلفاً لغزو العراق واحتلاله. ادعوا بعد 11/9 وجود علاقة بين الإرهاب والعراق وترسانة أسلحة الدمار الشامل وقصص عما يمثله صدام حسين ونظامه من تهديد مباشر للشعب الأميركي. بمعنى آخر دخل الخوف عنصراً أساسياً في خطة غزو العراق بعد 11/9، ولولاه ما كان الغزو. لقد صنعت هذه الجماعة المتطرفة دائرة من الخوف يقيم في داخلها المواطنون الأميركيون وحكومات الدول العربية والعالم الإسلامي وإسرائيل. بثت الخوف في داخل الولايات، ونشرته مستخدمة كافة وسائل الإقناع، في دول شتى. رأينا كيف أن هذا البث أدى إلى حالات عدم استقرار، وهو ما أدى إلى تكثيف أنشطة إرهابية في دول كان الإرهاب يمارس فيها فعلاً، وممارسته في دول لم تعرفه، وأدى إلى تشجيع حكومات متعددة على استخدام أساليب قمع وإرهاب دولي أشد مما كانت تفعل من قبل. ورأينا كيف استحكمت دائرة الخوف، فصار المطمئنون خائفين والخائفون أشد خوفاً. وارتد كل هذا الخوف المتزايد في الخارج إلى المواطن الأميركي يدعم الخوف لديه ولدى المجتمع الأميركي . وجاءت الاستجابة من جانب واشنطن سريعة في شكل قوانين وإجراءات استثنائية غيرت شكل الحياة في الولاياتالمتحدة . كانت البداية في غزو أفغانستان ثم غزو العراق. الغزوان كانا كافيين لبث الخوف في حكومات الدول العربية والإسلامية وفي إثارة غضب واستفزاز ديني وقومي ووطني وعدم استقرار سياسي تصاعدت على أثره الكراهية للسياسات الأميركية وزاد التعاطف مع المقاومة أينما كانت ضد الوجود الأميركي. الغالب أن كارل روف سيكون مطمئناً إلى إعادة انتخاب الرئيس بوش إذا وقع بالفعل اعتداء آخر على أرض الولاياتالمتحدة وشعبها. إن مثل هذا الاعتداء، إن تم، سيحقق درجة أعلى من الخوف في الولاياتالمتحدة، الأمر الذي سيدفع بالناخب الأميركي إلى التصويت بكل ثقة لاستمرار الوضع القائم. لكن وقوع هذا الاعتداء، قد يتسبب في تداعيات أكثر خطورة من تلك التي أعقبت أحداث 11/9. عندئذ سيكون الرأي العام الأميركي مستعداً لتأييد حكومته إن اختارت تسيير جيوشها لغزو أي دولة في العالم الإسلامي. تصادف في ذلك الحين أن جماعة الرئيس جاءت إلى الحكم ومعها خطة جاهزة اختارت العراق بعد أفغانستان هدفاً أساسياً. هنا يصح التساؤل عما إذا كان لدى الجماعة نفسها هدف آخر، إيران مثلاً، في حال وقع عدوان"إرهابي"آخر على أرض أمريكا أو شعبها. الواضح للمراقب من بعيد، ان الرغبة في التصعيد متوافرة لدى الجانبين: الجانب الذي يريد إلحاق الأذى بالأميركيين، والجانب الذي يريد تحقيق أهداف مبيتة تحت عنوان رد العدوان بأشد منه ، وهو ما لن يتحقق إلا بحالة غضب عارم وخوف أشد عند شعب أميركا. كتب زبغنينو بريجنسكي في تشرين الثاني نوفمبر الماضي يقول إن أميركا احتضنت على أعلى المستويات رؤية للعالم مفعمة بغضب مرضي. تجسد هذه الرؤية عبارة تكررت على لسان الرئيس بوش تقول من ليس معنا فهو ضدنا. يتساءل بريجنسكي إذا كان يمكن لدولة عظمى أن تقود وهي واقعة تحت تأثير الخوف. إن الإرهاب لم يكن أبداً عدواً إنما وسيلة يستخدمها عدو. ويرى بريجنسكي أن الخلط في السياسة الأميركية متعمد بين الإرهاب والعدو. تذكرت مقالاً آخر لنعوم تشومسكي وكان يهاجم فيه الجماعة التي تحيط بالرئيس بوش، فقال إن أعضاءها لا تشغلهم كثيراً الكراهية لأميركا لأنهم يعتبرون هذه الكراهية حافزاً قوياً لإثارة الخوف لدى المواطن الأميركي،"هؤلاء يريدون أمريكا مرهوبة وليست محبوبة". أتمنى أن يكون مجرد مصادفة هذا التصعيد في حملة إثارة الخوف لدى المواطن الأميركي من احتمال وقوع اعتداء إرهابي إسلامي وصدور الأطروحة الجديدة لصمويل هانتنغتون بعنوان"من نحن"؟. في الأطروحة الجديدة يثير هانتنغتون خوف الفرد الأميركي لسبب آخر غير الاعتداء الإرهابي، وهو الهجرة المكثفة القادمة من المكسيك ودول أخرى في أميركا اللاتينية. يطلق هانتنغتون على هذا التهديد الجديد غزو الحضارة الكاثوليكية والثقافة الأسبانية لأميركا، ويحذر من أن التهديد إن استمر سيؤدي إلى تدمير الحضارة البروتستانتية والأنغلوسكسونية أي الحضارة الأميركية. لعلنا نذكر أن مصادفة أخرى وقعت منذ أقل من عشرة أعوام، ومن وقتها ونحن في العالم العربي والإسلامي، نتعرض لكارثة بعد الأخرى . وقعت المصادفة حين أصدر صامويل هانتنغتون أطروحة صدام الحضارات، في وقت كانت نذر الحملة ضد العقيدة الإسلامية والحقوق الفلسطينية والعراقوأفغانستان تتجمع قبل أن تنفجر كقنبلة عنقودية، مازالت شظاياها تتطاير في أنحاء شتى من العالم. كاتب مصري