بات تعرف الشابة في سن الزواج إلى شاب لا تربطها به صلة قرابة في المرافق العامة المدارس، والجامعات، والمقاهي، وصالات السينما، والمباني السكنية، والدفاع المدني، والكشافة البيروتية، شائعاً. وغالباً ما تفضي هذه اللقاءات الى الزواج. وعلى رغم أن هذه العلاقات تجري في معزل عن رقابة الأهل المباشرة، تراعي الشابات في اختيار قرينها المستقبلي معايير الاهل التقليدية، ألا وهي الزواج في الوسط السنّي البيروتي إذا كانت مسلمة سنية من شاب من عائلة معروفة. ويعود الاهل عن"الحرية"، وهي حرية الخروج منفردة من المنزل وارتياد مرافق عامة وبيوت الصديقات، التي منحوها لابنتهم في حال خالفت مبادئهم. فعلى سبيل المثال، تعرفت وداد.ي 19 عاماً على شاب مسيحي في المقهى، ورغبت الزواج به. فاستعاد أهلها رقابتهم المباشرة عليها ووصايتهم الكاملة عليها، ومنعوها من الخروج من المنزل ومن استعمال الهاتف، ودبروا زواجها برجل من أبناء طائفتها ومدينتها. ولا ريب في أن هذه المعايير تقليدية، فهي تحتكم في اختيار الزوج الى معايير أهلية ودينية غير شخصية. وعلى رغم اتسامها بالتقليدية، تخرج هذه المعايير على أصول الزواج العربي التقليدي، وهذه تفضل زواج الاقارب، وخصوصاً زواج أبناء العم، على زواج"الغرباء". ولكن المجتمع اللبناني شهد، في العقود الماضية، تغيرات سكانية واجتماعية كبيرة. فعلى خلاف غيره من المجتمعات العربية، بلغت نسبة الزيجات المعقودة في لبنان بين أقارب من الدرجة الأولى، بمن فيهم أبناء العم وأبناء العمة وأبناء الخالة وأبناء الخال، 18.2 في المئة المسح اللبناني لصحة الام والطفل، وزارة الصحة العامة وجامعة الدول العربية، المشروع العربي للنهوض بالطفولة، بيروت 1996. وبحسب دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية في 1996، بلغت نسبة الزيجات المبرمة بين أقارب من الدرجة الأولى والأقارب من الدرجة الثانية أو الثالثة، 88 في المئة في العراق، و86 في المئة في السعودية، و84 في المئة في الكويت، و82 في المئة في الأردن. والى انخفاض نسبة الزيجات بين أولاد العمّ والأقارب، ارتفعت نسبة العزوبية النهائية، أي بلوغ المرأة أو الرجل العقد السادس من العمر من دون زواج، عند الإناث في بيروت من 6.9 في 1970، إلى 11.4 في 1996 الخصائص السكانية والواقع الاقتصادي والاجتماعي: أقضية لبنان، وزارة الشؤون الاجتماعية - برنامج الأممالمتحدة الإنمائي، بيروت 2001. وفاقت نسبة العزوبية النهائية عند النساء نظيرتها في صفوف الذكور 6.3 في 1996. وبلغت نسبة العزوبية النهائية عند الإناث في القاهرة 1 1.3 في المئة، وپ1.2 عند الذكور. والحق أن ارتفاع نسبة العزوبية في المجتمع اللبناني يخالف سمة أساسية وثابتة في المجتمعات العربية ألا وهي شيوع الزواج وعمومه. ف 95 في المئة من العرب فوق سن الأربعين هم متزوجون أو سبق لهم الزواج، بحسب عالم السكان فيليب فارغ في كتابه"أجيال عربية"الصادر عن منشورات"فايارد"الفرنسية. وارتفاع معدلات العزوبية النهائية في المجتمع اللبناني وانخفاض معدلات الزواج من الاقارب هما خير دليل على انتساب اللبنانيين الى مجتمع انتقالي ضعفت فيه دالة التقاليد. جمع الشابات بين معايير الاهل ومعاييرهن الشخصية إلى مراعاة الفتيات عند اختيار قرينهن المعيارين اللذين يشترط الأهل توافرهما في القرين، تولي الشابات الجانب الشخصي من العلاقة بالقرين أهمية خاصة. ففي حين يختص الأهل بپ"الأصل والفصل"والمستوى المادي للشاب، يشكل الإعجاب والاستلطاف والحب والمودة والاتفاق بالرأي والاحترام سمات أساسية تحرص الشابة على توافرها في الشريك. فرانيا م. 23 عاماً أحبت الشاب الذي التقت به في الجامعة، وأرادته زوجاً لها لأنه"مهضوم"وپ"قمّور"، ولأنهما يتفقان بالرأي ويشكلان"زوجاً couple"جميلاً. وكذلك أحبت نوال م. 20 عاماً الرجل الذي التقت به في الدفاع المدني لأنه"مهضوم"، وتقول بشيء من الفخر وحنين إلى الماضي أن أصدقاءهما في الدفاع المدني اعتبروها وحبيبها مثال الزوجين couple الناجح. واستلطفت سلاّمة أ. 28 عاماً زميلها في العمل، وواعدته خارج المكتب في المطاعم والمقاهي، ووجدت أنه"لذيذ وآدمي"، وأنه يحترم آراءها لأن"لا أحد من أهله يدير تصرفاته". وأعجبت نادين غ. 24 عاماً بالشاب الذي التقت به في منزل زميلتها في العمل وأحبته لأنه"يمزح كثيراً"ويضحكها، ورغبت الزواج به. وكذلك فإن الإعجاب والحب كانا دافع فريال ف. إلى الارتباط بالرجل الذي صادفته في جوار مكان عملها. وبعد أشهر من مغازلتها وملاطفتها، وجدت ريما ض. 19 عاماً أن الشاب الذي ينتظرها يومياً في ملعب المدرسة"مهضوم"فخرجت معه إلى المقاهي، وأحبته، وتزوجته. والحق أن الزواج من غير الاقارب يفترض وجود وسائط اجتماعية بديلة تجمع بين القرينين. وبعض هذه الوسائط مديني ومختلط المرافق العامة، وبعضها الآخر تقليدي منزل الوالدين. وأبرز وسائط التعرف على القرين التقليدية هي"الدلالة". إذ يدل رجل تربط بينه وبين عائلة"العروس"قرابة أو معرفة أو علاقة عمل، أحد معارفه الى عروس قد تناسبه في المنزل الفلاني. ويفترض أن تزور والدة العريس منزل أهل العروس، وتلتقي بها وبأهلها. وإذا أعجبت الشابة والدة العريس، رافق العريس والدته في زيارتها المقبلة الى منزل العروس. وبحسب دارسة جامعية تحت عنوان"الميول الفردية في طلب المرأة الطلاق"، ينخفض متوسط سن المرأة عند الزواج إلى تسعة عشر عاماً 19.11عاماً وعندما يكون الأهل واسطة الزواج، ويرتفع متوسط فرق السن بين الزوجين ويبلغ اثني عشر عاماً 11.7 عاماً، بينما يرتفع المتوسط نفسه في صفوف اللواتي يخترن قرينهن إلى ستة وعشرين عاماً 25.6، وينخفض متوسط فرق السن بين الزوجين إلى ثلاثة أعوام 3.4 عاماً. وتظهر الملاحظة الآنفة الذكر اختلاف المعايير التي تضبط اختيار الأهل للقرين حين يكونون واسطة الزواج عن تلك التي تضبط معايير خيار الابنة. فالأهل حين يختارون زوج الابنة يحذون وفقاً للمثال التقليدي، ويحرصون على وجود فرق سن مرتفع بين الزوجين، ويعولون على الفرق هذا كمؤشر إلى"نضوج الشاب"، على ما تنقل وداد.ي عن والدها. وغالباً ما يكون القرين من معارف الأهل، أي في سن ومرتبة اجتماعية تخولانه الاختلاط بهم. وذلك في حين تلتقي الشابة قرينها في أماكن المدرسة، والدفاع المدني، ومنزل الأصدقاء، والجامعة يغلب عليها الجمع بين أشخاص من فئات عمرية متقاربة. ويشير جمع جيل الأهل بين التدين والحرص على تزويج ابنائهم وبناتهم في الدائرة البيروتية السنّية، وبين تراخي امتثالهم للقيم التقليدية والدينية في عدم حجب المرأة الزوجة والابنة، وحصر وجودها في دائرة البيتي الخاص، إلى انتسابهم إلى مجتمع انتقالي ضعفت فيه دالة التقاليد ولم تعد قيمها مطلقة وفي منأى عن رأي الأفراد فيها ويؤدي انتقال المجتمعات من التقليد إلى الفردية، أي من مجتمعات يقدم فيها الأشخاص معيار الجماعة التقليدي والغالب على معيار العمل الفردي إلى مجتمعات يقدم فيه الافراد معيار العمل الفردي على معايير الجماعة، إلى ازدواج في القيم التي يمتثل لها الافراد. ويزيد أثر المرحلة الانتقالية في جيل الأبناء والبنات عما هو عليه في جيل الآباء، وتترتب على هذه الزيادة نزاعات ناتجة من ميل جيل الابناء إلى ترك ما تمسك الآباء به من عادات وتقاليد. ويميل أهل هذه النساء إلى تذليل هذه النزاعات، ويستبعدون القطيعة مع رغبات الابناء والبنات ومعاييرهم. ويتخففون من الأخذ بالعادات ومعاييرها في شكل"حرفي"، ويسمحون لبناتهم باختيار القرين. فالأهل يتكيفون مع جديد المدينة ويقبلون بإناطة شطر متزايد من تنشئة أولادهم وبناتهم بمؤسسات تربوية، ويسمحون للابنة بمزاولة عمل، وبشبك صداقات مع ناس لا يمتون إليهم بقرابة، وبمجاراة الموضة وترك معايير الجماعة في اللباس، ويجارون جيل الابناء والبنات في اعتبار المشاعر الفردية والشخصية الاستحسان والإعجاب والاستلطاف من العوامل التي تحكم اختيار الابنة للرجل الذي يصبح زوجها. لكن جيل الأهل لا يترك المشاعر الفردية ودواعيها"على غاربها"، أو يترك وصايته عليها، بل يعمد إلى ضبط خيار الابنة الفردي ومشاعرها بالمعايير التقليدية، وتقييدها بقيد الجماعة وتقاليدها في الزواج والاختلاط. ويدخل هذا"التقسيم للعمل الاجتماعي"بين جيل الآباء الذين يسألون عن أسرة القرين ونسبه والأبناء، والبنات اللواتي يسألن عن"الهضمنة"والمساواة في العلاقة مع القرين، والمناسبة بين"مزاج"الزوج والزوجة، والمتعة، في النزاعات التي أدت إلى الطلاق. * مقتطفات من دراسة بعنوان"الميول الفردية في طلب المرأة طلاقي الخلع والتفريق"أعدتها منال نحاس لنيل شهادة ديبلوم الدراسات العليا في علم الاجتماع، بإشراف د. وضاح شرارة