في العقود الاربعة المنصرمة، شهد العالم ثورة نسائية بعيداً من الاضواء. ولا تقتصر موجات الهجرة الكبيرة في أيامنا هذه على الرجال. فنسبة المهاجرات بلغت 49،6 في المئة من مجمل المهاجرين في العالم. وتهاجر مئة مليون امرأة سنوياً الى الخارج بحثاً عن زوج أو عمل يؤمن لأسرهن عيشاً كريماً، بحسب دراسة صدرت عن"صندوق الأممالمتحدة للسكان"في أيلول سبتمبر الماضي، وحملت عنوان"نحو غد أفضل، النساء والهجرة العالمية"نص الدراسة الكامل موجود بالانكليزية على الموقع التالي: www. unfpa.org. وتسهم هذه الهجرة في اعتماد النساء على أنفسهن وفي مطالبتهن بحقوقهن الأساسية، وتعزز مكانتهن في بلادهن. وعلى خلاف سفر الزوجات الى الخارج للالتحاق بالبيت الزوجي، وهذه هجرة تقليدية، شاع انتقال النساء من دائرة العلاقات العائلية وأدوارها الى دائرة العمل، وأصبحت النساء العازبات أو المتزوجات يغادرن بلادهن منفردات بحثاً عن لقمة العيش. وغالباً ما يسعى الأهل بالبلدان النامية الى منع ابنتهن من الهجرة بمفردها. وباتت النساء الآسيويات واللاتينيات نسبة الى بلدان اميركا اللاتينية ينجحن في إقناع أسرهن بضرورة العمل في الخارج. والحق أن الأزمات الاقتصادية والمالية تسهم في تغيير العادات الاجتماعية وفي تخفيف القيود عن حركة النساء. وهذا ما حصل في الإكوادور على أثر الأزمة الاقتصادية في 1998، وعلى أثر الأزمة المالية بآسيا في 1997. وتزيد نسبة المهاجرات بآسيا عن نسبة الرجال المهاجرين. وتقصد معظم المهاجرات الآسيويات الشرق الأوسط وبلدان شرق آسيا للعمل. وبلغت نسبة الإندونيسيات المهاجرات 79 في المئة من مجمل عدد المهاجرين بأندونيسا بين العام 2000 وپ2003. وكانت نساء أميركا اللاتينية وجزر الكاريبي سباقات الى الهجرة بإعداد كبيرة، والى الهجرة أكثر من الرجال. وبلغت نسبة الافريقيات المهاجرات نحو خمسين في المئة من مجمل المهاجرين الافارقة في 2005. والحق أن ظاهرة"تأنيث"الهجرة هي من أعراض العولمة، وهي تشمل النساء في جميع أنحاء العالم، باستثناء العالم العربي. ففي هذه البقعة من العالم تحول القيم الاجتماعية والتقاليد الثقافية دون هجرة النساء للعمل في الخارج. وكان عالم السكان فيليب فارغ قد لاحظ في كتابه"أجيال عربية"الصادر عن منشورات"فايارد"الفرنسية، ثبات سمتين في المجتمعات العربية هما: شيوع الزواج وعمومه وضعف مساهمة المرأة في النشاط الاقتصادي . فخمسة وتسعون في المئة من العرب فوق سن الأربعين هم متزوجون أو سبق لهم الزواج. وبحسب دراسة"المرأة والرجل في لبنان"الصادر عن الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية في العام 2000، بلغ متوسط مشاركة النساء في النشاط الاقتصادي الإقليمي العربي 17 في المئة، وبلغ هذا متوسط بلبنان 26 في المئة. فجمع النساء العربيات بين العمل والزواج ضعيف. وعلى خلاف بقية البلدان العربية، يسجل الاردنولبنان معدلات هجرة نسائية مرتفعة. وبحسب إحصاءات قسم الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بالأممالمتحدة، تجاوزت معدلات هجرة النساء بلبنان معدلات هجرة الرجال في العام 2005. وبلغت نسبة الهجرة في أوساط اللبنانيات نحو 11 في المئة 378 مئة الف امرأة مهاجرة من مجمل عدد السكان، نظير نحو ثمانية في المئة في أوساط الرجال. وأما في الاردن فتساوت معدلات الهجرة تقريباً بين الذكور 19،99 في المئة من مجمل السكان والاناث 19،15 في المئة من مجمل السكان. وغالباً ما يهاجر الرجال العرب من البلدان الفقيرة الى بلدان الخليج الغنية بالنفط. وفي حين ترتفع حظوظ الرجال في الحصول على رواتب عالية ومهن لا تطلب جهداً بدنياً وظائف مكتبية، تحظى النساء بأعمال تقليدية على غرار الاعتناء بنظافة المنازل والمستشفيات، وغسل الصحون بالمطاعم. وعلى رغم تدني قيمة رواتب النساء عن قيمة رواتب الرجال، ترسل النساء معظم ما تجنيه من المال الى أسرهن. ففي سيريلانكا، بلغت قيمة حوالات المهاجرين المالية الى بلدهم بليون دولار أميركي، و62 في المئة من هذا المبلغ أرسلته المهاجرات، في 1999. وتنفق النساء اكثر من نصف رواتبهن على تأمين حاجات حياة أولادهن اليومية والعناية الصحية والتعليم. وعلى خلاف النساء، ينفق الرجال رواتبهم على الممتلكات والسيارات والاجهزة الكهربائية أجهزة تلفزيون وفيديو. وتعرض"الحياة"في السطور التالية سيرتي امرأتين مهاجرتين، الاولى أريترية تعمل بلبنان، والثانية لبنانية تعمل بكندا. وتختلف ظروف هجرة الشابة الاريترية عن ظروف هجرة الشابة اللبنانية. فالاولى هاجرت بحثاً عن لقمة العيش، والثانية عن مجتمع بديل. شهادة من أريترية بعد طلاقي من زوجي والد ابنتي البالغة يومها أربعة أعوام، عجزت عن تأمين لقمة العيش بأثيوبيا. وليست أثيوبيامسقط رأسي بل البلد الذي انتقلت اليه عند زواجي. فزوجي السابق كان سائق سيارة أجرة هناك. وجارة عمي المقيم بأثيوبيا تعمل في مكتب يؤمن الخادمات لمكتب توظيف لبناني. وطلبت مني مقابل خدماتها خمسين دولاراً أميركياً، أي مؤجل صداقي، أخذت هذه السيدة مهر طلاقي، وهو كل ما ملكته في ذلك الحين، وأمّنت سفري الى لبنان. وكنت في حاجة ماسة الى مورد عيش أعيل به نفسي وابنتي وأعين أهلي على التغلب على شظف العيش. وأنا طلبت الطلاق من زوجي لأنه يعاقر الخمرة، ويضربني يومياً. وبعد طلاقي وجب علي العمل لتأمين لقمة العيش. وعزفت عن الزواج من بعده، ورغبت في السفر الى لبنان. وهذا قرار اتخذته بنفسي ولم أستشر فيه والديّ. فالحرب بين أثيوبيا وأريتريا كانت محتدمة وخطوط الهاتف مقطوعة بين البلدين. ولم أرد البقاء في بيت عمي، وهو استقبلني بعد طلاقي. فابنه سعى الى منعي من الخروج من المنزل وضربني ذات مرة. ولا أعرف في أي سنة تركت أثيوبيا، فأنا من عائلة مزارعين، ونحن نؤرخ الوقت بالاستناد الى المحاصيل الزراعية. وكان عمري يومها نحو تسعة عشر عاماً، على ما قالت لي لبنانية أطلعتها على جواز سفري. ووصلت الى بيروت، واستقبلني في المطار موظف في مكتب التوظيف. ومكثت في منزله يومين قبل مباشرتي العمل خادمة في منزل بمحلة الروشة مقابل مئة دولار شهرياً، أي خمسة أضعاف الرواتب في بلادي. وفي هذا المنزل تعلمت العربية. والحق أن هذه اللغة ليست غريبة عني كلياً. فالعربية لغة سائدة بأرتيريا. ولكني لم أكن أتكلمها بطلاقة. وكنت أخجل من جهلي أسماء الفاكهة والطعام. وبعد ثلاثة أعوام على عملي في منزله، طالبت صاحب البيت والعمل بيوم عطلة أسبوعياً. فقال لي انه لم يسجلني في وزارة العمل، وأنني خارجة على القانون واستحق السجن. فخرجت من منزله. وصادفت في الشارع رجلاً أفريقياً أسود البشرة واتضح انه سوداني متزوج من أثيوبية. أخبرته عن وضعي، وعرض علي الإقامة في منزل صديقه السوداني لأنه"آدمي"الى حين تدبير أموري. وبعد شهرين من إيوائه لي، تزوجني الشاب السوداني. وهو كل شيء بالنسبة لي، هو أهلي. وبعد خروجي من بيت مستخدمي، أي بعد أعوام على مغادرتي أثيوبيا، باشرت البحث عن وسيلة للاتصال بأهلي ولإرسال المال اليهم. فقصدت سفارة بلادي، ولكنهم أعطوني رقم هاتف لا يمت أصحابه بصلة الى أهلي. وكنت أبكي يومياً لانقطاع صلتي بأهلي. وذات يوم صادفت شابة من بنات قريتي بالشارع، وكانت في طريق العودة الى ديارنا. وأعطتني رقم هاتف بيت أهلها الذين أبلغوا أهلي بدورهم عن موعد اتصالي التالي. وشأن أولاد عمي العاملين بالخليج، أرسل معظم ما أجنيه الى والديّ. وشأن جميع أبناء بلادي، أتحدر من أسرة كبيرة. وأنا الابنة البكر ولي سبع شقيقات وشقيق. وأرسل تحويلات مالية الى أهلي بواسطة المصرف أو بواسطة أشخاص عاملين بلبنان ومسافرين الى بلدي. وغالباً ما أقدم الوسيلة الثانية على الأولى. فالدولة تقتطع ضريبة مرتفعة نسبياً، وتبلغ قيمة هذه الضريبة نحو خمسة دولارات أميركية، أي ما يساوي ربع راتب شهري ببلادي. وتكاليف العيش مرتفعة جداً في بلدي، والعمل قليل المردود، والمحاصيل الزراعية ترتبط بالجفاف وانهمار المطر، ويقطن والديّ في الانفاق، فشبح القلة والإفلاس يلاحقهم. وعلى سبيل المثال، لا يبتاع أهلي البن أو الملابس الجديدة أو الأدوات الكهربائية لا كهرباء في قريتنا. ... وأخرى من لبنانية لم أكن مرتاحة في عملي، وكنت منزعجة من غياب فرص التقدم في مسيرتي المهنية في العقود المقبلة، على رغم تخرجي من الجامعة الأميركية في بيروت قبل تسعة أعوام. وكنت أعمل في مصرف، ولا يتعدى راتبي الخمسمئة دولار أميركي. ولم أملك صلاحيات في عملي، فكنت أحتاج الى إذن المدير قبل إرسال فاكس أو المبادرة الى خطوة ما. كنت تعيسة وأشعر ان حياتي انقضت من دون أن أحقق شيئاً. وأتحدر من أسرة بيروتية تتنازعها التقاليد والحداثة. فوالدي كان، رحمه الله، رجلاً"منفتحاً" فهو سافر أيام فتوته الى البرازيل، وتركت هذه الرحلة أثرها فيه، فلم يقسَ والدي على أولاده الأربعة 3 شباب وأنا، ولم يفرض قيوداً على خروجنا مع الأصدقاء الى المقاهي والمطاعم والسينما. وكان والدي يحثني على الخروج من المنزل للترفيه، ولكنني كنت"بيتوتية"بطبعي. ووالدي مهندس تزوج أمي المدرِسة بعد مصادفتها في منزل صديقتها المتزوجة، وكانت هي في الثانية والعشرين من العمر وهو في الخامسة والعشرين. وأما والدتي فتميل الى المحافظة، وهي تتأثر بآراء القريبات والجارات في الزواج والإنجاب ونمط الحياة. وأمي مهذبة، وتفضل التسلح بالصمت وتتجاهل سؤال القريبات لها عن تأخري بالزواج وتفويت ابنتها الوحيدة قطار الحياة الزوجية. وكنت أشعر بحزن والدتي، وأضيق ذرعاً بسؤال طرحه عليّ معظم من التقيت بهم في لبنان، ألا وهو"أنت ابنة عائلة معروفة، ومتعلمة وحلوة، لماذا لم تتزوجي؟". واليوم، أنا في الرابعة والثلاثين من العمر، ومضى على هجرتي أكثر من ثلاثة أعوام، ولم تكن الهجرة فكرتي، فصديقتي على مقاعد الدراسة والمقيمة في أميركا، شجعتني على السفر ومتابعة دراستي الجامعية بالخارج، وعرضت عليّ الإقامة في منزلها الى حين استقراري هناك، وكان صديق شقيقي ورب عملي يتكلمان على فرص العمل بكندا والحياة المريحة هناك، وساندني أشقائي في قراري الهجرة الى كندا منفردة، وأسهموا في اقناع والدتي بتركي البلاد، وكانوا يقولون لأمي:"في كندا يسع شقيقتنا أن"تعمل تبني أو تؤسس حياة"وأن تتابع دراستها. هاجرت، وأنا لا أزال مقتنعة بصواب قراري. ففي كندا، وجدت مجتمعاً لا تستسلم فيه المرأة الى مصائب لحياة ومصاعبها، فإذا أساء زوجها معاملتها وضربها، تأخذ حقها بيدها بواسطة الشرطة والقضاء، واذا تطلقت المرأة، لا تمضي حياتها بالبكاء وندب حظها، والتقوقع في منزل أهلها. بل تعتبر ما حصل معها تجربة تغني شخصيتها، وتستقي منها العبر لتفادي تكرار ما حصل. ولا يتدخل الكنديون بحياة الناس الشخصية، والأهم أنهم نبهوني ان المرأة في الثلاثين هي في مقتبل العمر وأن الزواج شأن غيره من الخيارات، وليس واجباً على المرأة. وفي كندا، جمعتُ بين متابعة دراستي الجامعية والعمل.