شكلت أحداث سبتمبر لحظة تحول كبير في موضوع علاقة العالم الإسلامي بالغرب، سيما وأن عدداً كبيراً من نخب المجتمع الغربي السياسيين منهم في شكل خاص حاولوا رسم صورة قاتمة عن الإسلام والمسلمين بجعله العدو المتوقع الذي سيجتاح العالم الغربي وانه سيشكّل خطراً حقيقياً على سيادته ووجوده، نظراً الى ما يحمله من مقوّمات العنف والإرهاب بنظرهم. ثم جاءت قضية الصور المسيئة للرسول لتخلف هوّة جديدة بين العالمين ولتزيد من بث روح العداء للدين الاسلامي، لتأتي مؤخراً تصريحات البابا بندكتوس السادس عشر لتكون المثار الأكثر خطورة، ولتضيف للمسألة بُعداً دينياً طالما حاول البُعد السياسي تغطيته. فهل صحيح أن الإسلام محرّضاً على العنف ومبعثاً على الإرهاب؟ وهل صحيح أن"الإسلام شرّ"؟ وهل يقبل بأن المخزون التشريعي الإسلامي يشكّل مصدراً ثرياً لكل من يبحث عن غطاء شرعي لممارسة العنف؟ وهل صحيح أن العنف صناعة إسلامية تُصدّر للعالم الغربي؟ يُعد العنف من أعقد وأخطر المشكلات التي شغلت العقل الإنساني في القرون الأخيرة، وقد قدّر على الدين الإسلامي في هذا السياق أن يبقى المتهم الأول في قفص الاتهام، فإذا سمعنا بحدث إرهابي ما وجدنا العالم ممثلاً بوسائل الإعلام سرعان ما يلقي اللوم على الإسلام والمسلمين من دون غيرهم، وهو ما تسعى اليه الدعاية الغربية المسيّسة والمتمثلة بكل من وسائل الإعلام الغربي - التي يتحكم في كثير منها أعضاء اللوبي الصهيوني ورجالات المسيحية المتصهينة -، إضافة الى نشاطات وكتابات عدد من مفكري وسياسيي المجتمع الغربي في شكل عام، والأميركي في شكل خاص أمثال برنارد لويس، وجيري فالوب، وفرانكلين جراهام، وبات روبرتسون ومارتن كريمر. في ظل تلك الهجمة الإعلامية الشرسة بات ينظر الى الدين الإسلامي على أنه دين متطرف وإرهابي لا يمكنه أن يتقبل الآخرين، كما لا يمكنه أن يتعايش معهم من دون أن ينصهروا في بوتقته الدينية معلنين انتاءهم اليه ومتخلين عن كل هوية لا تنتسب الى منظومته الفكرية والعقدية، وكل ذلك من خلال إكراه الآخرين على الاندماج فيه، وإجبارهم على تبني تعاليمه وتطبيق أحكامه، بيد أن هذا التشويه الإعلامي للإسلام ينبغي أن لا ينسينا الدور الذي لعبه بعض المسلمين في تعزيز هذا التصور المظلم والقاتم عن أنفسهم في مخيلة العالم الغربي، وذلك لتبنيهم بعض الفهوم الانتقائية والنمطية، التي تختزل القرآن في بضع آيات مجتزأة من سياقاتها الخاصة داخل النص القرآني، إضافة الى كونها فهوماً مغلقة وبعيدة من سمة هذه الشريعة الخاتمة والملائمة لطبيعة الزمن المتغير، متجاهلة تلك الفهوم للدور الرسالي والإنساني المنوط بهذه الأمة من خلال تبنيها لمنهج الرحمة ولمبدأ الحوار كأداتين محوريتين في عملية تبليغ الدعوة والتعامل مع الآخرين، ومن خلال تأكيدها على مبدأ عدم الإكراه في الدين، وذلك إيماناً منها بتعارضه مع حقيقة التكليف الإلهي للإنسان المخيّر، وهو ما يجسده قوله:"ولو شاء ربك لآمن مَن في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"يونس:99،"ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين"هود: 118، بل أكثر من ذلك إذ نجد النص القرآني يقرر عدم الاعتداد بالايمان المنبعث عن الاكراه،"فلم يك ينفعهم ايمانهم لمّا رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده"سورة غافر: 85. وعلى رغم خطورة النظرة الغربية عن الإسلام والمسلمين، إلا أن المشكلة الأكثر خطورة، والتي يجب الانتباه اليها أننا ساهمنا كمسلمين في تحديد ملامح الصورة السوداوية والعدائية المرتسمة في الذهنية الغربية، والتي صبغت الشريعة الاسلامية بميزة التطرف واللاإنسانية، وسواء تم ذلك عن قصد أم من دون قصد، وعن علم أم من دون علم، فالمهم في ذلك أننا وضعنا في موقع المتهم وبالتالي أصبحنا ندور على هامش الحضارة، وغداً خطابنا يتكون من ردات فعل دفاعية حولتنا من موقع الضحية الى موقع الجاني الذي زج قسراً في صخب الخطابات التنصلية وفي مأزق البحث عن أدلة التزكية للذات، إضافة الى إجهاد الفكر في البحث عن الأسباب والمبررات التي يمكن أن تساهم في تبرئتنا كمتهمين. ويعود السبب في ذلك الى حالة الضبابية وعدم الوضوح الحاصلة لدى بعض المسلمين الإسلاميين، وذلك فيما يتعلق بفهم موقف الشرع من ماهية العنف وتصوراته، إضافة الى الاختزال الحاصل في فهم الآيات التي تحمل دلالات تشير الى بعض صور العنف، وقد ترتب على ذلك نتيجة منطقية مفادها خلق حالة من التذبذب والخلط - سواء على صعيد الممارسة أم على الصعيد المفاهيمي - بين ظاهرة العنف في صورته المشروعة الجهاد، وبين ظاهرة العنف في صورته غير المشروعة الإرهاب، وقد ساعد ذلك على بناء أسس وقناعات فكرية شكلت الخلفية النظرية للممارسات العنيفة لدى بعض المنتمين للإسلام، والتي أخذت طريقها الى المجتمعات الاسلامية بعد أن وجدت من يؤمن بها ويمارسها أحياناً تحت تأثير وسائل التجهيل الاعلامي وما تلعبه من دور كبير في تزييف الوعي الاسلامي، وتمويه ثقافة بعض المسلمين. من نافلة القول الاعتراف بانسانية الإسلام المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن البديهي القول بأن الإسلام يحمل في طبيعته ثقافة السلام والتعارف ولكنه في نفس الوقت يدعو المظلومين والمضطهدين الى العدول عن هذه المسالمة، إن كانت المواجهة بينهم وبين الظالمين، لأن الظلم حرب عدوانية يشنها الظالمون ضد الأمة، ومن ثم لا بد من مواجهتهم بما يردعهم من الأساليب، والتي منها المقاومة الجهاد في بعض صوره، ومعلوم أن هذا حق معترف به في كل الديانات والقوانين، بل حتى في قانون الفطرة البشرية، التي تحتم على الإنسان أن يدافع عن وجوده. صحيح أن صورة الإسلام عند غير المسلمين ليست على ما يرام في عالمنا المعاصر، غير أن مراجعة سريعة لكليات النصوص الشرعية كفيلة للتأكيد على عزو المشكلة الى سطوة الواقع المشحون بعوامل مختلفة كان لها الدور الأكبر في طمس صورة الرحمة والإنسانية لهذه الشريعة العالمية، وإظهار تصورات موهومة من العنف والإرهاب واللاإنسانية. إذ أن حقيقة التعاليم الإسلامية تتميز في قدرتها الكبيرة على خلق الأجواء التي توفر للإنسانية العيش الكريم في ظل من التعايش السلمي"وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم"الأنفال: 61، الذي ينسجم مع رسالة الرحمة ببعدها الكوني ودلالتها العالمية"وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"الأنبياء: 107، ويتنافى مع صور الاعتداء اللاإنساني"وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"البقرة: 190"، وذلك تأكيداً على أن صورة الرحمة والإنسانية هي من الصفات الملازمة لهذه الشريعة في تعاملها مع الأمم المخالفة، من خلال تبنيها للمنظور القرآني الذي يبني تصوره للناس جميعاً انطلاقاً من وحدتهم الإنسانية في الأصل والمصير، والتي لا تتفاوت إلا من خلال قربها وبعدها عن عبادة الله وتقواه، وغاية تلك الوحدة الإنسانية تحقيق مظاهر التعارف والتعاون بين جميع البشر وعلى مختلف تلوناتهم"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عندالله أتقاكم إن الله عليم خبير"الحجرات: 13، ومن خلال دعوتها الى نشر العدل والاعتدال وإعمار الأرض وحماية دم الانسان وتكريمه، والابتعاد عن كل ما ليس من طبائع المسلم من صور الإفساد والتخريب في الأرض والبغي فيها بغير الحق - والتي يعد العنف مظهراً من مظاهرها -، وذلك التزاماً لنهي الله"صلى الله عليه وسلم"الذي يقول:"ولا تبغ الفساد في الارض إن الله لا يحب المفسدين"القصص: 77،"قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق"الأعراف: 33. * كاتب وباحث سوري