عيون العرب والعالم على شيعة العراق في الفترة الحالية الحرجة وفي ما بعد الضربة الأميركية اذا حدثت، والتركيز هو على طبيعة علاقتهم بإيران التي ستحدد مواقف اقليمية ودولية من العراق الجديد. هذا المقال يوضح سجالات القطاع الديني في هذه الطائفة ولدى شيعة عرب آخرين، خصوصاً "حزب الله" اللبناني. هناك ميل بطيء لا ينقطع او يتعطل، وتزداد سرعة نموه بهدوء مع كل إرباك يصيب مسيرة الإسلام السياسي الشيعي، الذي قفز قفزته النوعية بنجاح الثورة الإسلامية في ايران، بعدما بقي اكثر من عقدين من الزمان يراوح مكانه، مهدداً بين فترة وأخرى بالانحسار بسبب عدم تمكنه من تحقيق انجاز ملموس على الأرض، الى ان اخذ النظام البعثي العراقي اواخر الستينات قراره بإجراءات وقائية ضد حزب الدعوة الشيعي وغيره من التشكيلات الأقل منه حجماً وشأناً، فضرب النظام ضربته من خلال محاصرة المرجعية الشيعية في النجف السيد محسن الحكيم وامتداداتها الشعبية في المحافظاتالعراقية، بعدما كان حزب الدعوة قدم نفسه على نمط من العلاقة الإشكالية بهذه المرجعية وبالحوزة العلمية في النجف، تداخلت فيه إرادتا الاستيعاب والتجاوز في الوقت نفسه، ما مكن النظام وقواه الأمنية من الدخول شبه الآمن من هذا الشق، خصوصاً بعدما توجه الشهيد السيد محمد باقر الصدر نحو ملء الفراغ المرجعي النسبي بغياب السيد الحكيم وبقاء المراجع بعده الخوئي وآخرون على حالهم التقليدية والابتعاد من الشأن السياسي إلا في حدود الضرورة، وعلى هذا الأساس حصل التمايز بين السيد الصدر الشريك في تأسيس حزب الدعوة والمرشد الفكري الأول له، وبين الحزب، ما ادى الى ضعف ملحوظ في كلا الطرفين امام النظام وأجهزته. ولم تعوض عن هذا الفصال النسبي عودة السيد الصدر بعد نجاح الثورة الإسلامية في ايران، الى محضها الولاء والدعوة للإسلاميين الى الذوبان في قائدها الإمام الخميني، لأن هذه المحطة اتسمت بأمرين هما تردد حزب الدعوة او عدم اندفاعه نحو الثورة، لأنها في الأساس كانت تأسست على تحليل سياسي مغاير للتحليل الذي تأسس عليه حزب الدعوة متأثراً بالإخوان المسلمين الذين كانوا، أسوة بعدد من الأنظمة العربية، اعطوا الأولوية في جهادهم لمحاربة الشيوعية، ما جعل مشكلة حزب الدعوة تقريباً محصورة في مناهضة الحركة القومية التي قرر انها مدخل الى النفوذ السوفياتي في المنطقة، ولم يكن في برنامج الحزب كما الإخوان المسلمون مثالهم المحتذى على فارق مخفف بين سنية الإخوان وشيعية الدعوة، ان يناهضوا انظمة كالنظام الشاهنشاهي او في الأقل ان يعطوا الأولوية لمناهضته. هذا الميل الذي بدأنا به الكلام من دون ان نحدده، هو سلوك شيعي موروث، تلاقت فيه حالات واسعة من الجمهور الشيعي في فترات تاريخية مختلفة، مع مسلكيات مرجعية عدة، اساسه اليأس من جدوى الحراك السياسي التغييري على اساس جور الحاكم الفعلي، او جوره المطلق باعتباره واحداً في سلسلة مغتصبين لحق اهل البيت في الخلافة، حتى لو كان شيعياً اثني عشرياً. واعتبار ان كل راية ترفع قبل ظهور الحجة المهدي المنتظر هي راية ضلال. قد تكون المرحلة الراهنة في محطتيها الأساسيتين، الحادي عشر من ايلول، وسجال الحرب على العراق، اضافة الى اشكالية الدولة الإسلامية في ايران وانقساماتها الى اصلاحيين مستقطبين بإغراءات ليبرالية شديدة التأثير، ومحافظين تضعهم محافظتهم في موقع قلق بين مشروع الدولة ومستلزماته السياسية والإدارية ذات المنحى الغربي الذي يفرض نفسه فرضاً حتى على اعدى اعدائه - نظرياً - لكونه منحى حصرياً يمكن تعديله من دون إلغائه، خصوصاً انه لا إجماع ولا اتفاق على شكل الدولة التي وصفها الإسلام، إن يكن قد وصفها فعلاً، ولم يتعاط معها إلا كضرورة اجتماع تقدر بظروفها، كما تبلور في مساهمات فقهية عدة، اهمها في هذا المجال فقه المشروطية اوائل القرن، وأهمه فقه الميرزا النائيني في كتابه "تنبيه الأمة وتنزيه الملة"... إذاً، فالمحافظون في موقع قلق كما أسلفنا بين مشروع الدولة ومشروع اللادولة، اي مشروع الانتظار او الإرجاء الى ظهور الحجة، كما كان مطروحاً في بعض حوزة قم وبعض اعماقها الشيعية قبل الثورة، وزاد طرحاً بعدها، واستحكم الآن، وإن كان في اوائل الثمانينات قد سمي بالحجتية، فإن التسمية الآن غير متداولة، لأسباب تعود الى رغبة هذا المسلك او الميل في عدم ارباك المحافظين في معركتهم ضد الإصلاحيين، وإن كان هناك من يعتقد بأنه في النهاية، وساعة الحسم، إن كان هناك حسم في ايران، وهو مستبعد لأن المساكنة بين التيارين هي الحل الأقل خسارة والأقل ربحاً معاً، هناك من يعتقد بأن الحجتية هم اقرب منهجياً الى التيار الإصلاحي او الى القبول به، خصوصاً إذا ما انتهى الى تعديل المشروع وإقامة دولة غير دينية، اي ديموقراطية، وهي غير دينية من نظر فقهي واسع، لأنها ديموقراطية، وعندئذ لا تعود راية الدولة بديلاً حقيقياً لراية الحجة المنتظر او قطعاً للطريق عليها. وما فيها من تدين وفكر ديني وسلوك ديني وثقافة دينية عامة، يجعلها اقرب الى الحجتية وأكثر قبولاً او اقل رفضاً من قبلهم، قياساً على انظمة ودول اخرى لا دينية يسوّغ المسلك الحجتي التعامل معها من باب ارتكاب اقل المحظورات والمحاذير ضرراً بالجماعة وأفرادها. ولنعد الى المحطتين اللتين ذكرناهما، وهما الحادي عشر من ايلول وسقوط برجي مانهاتن في نيويورك ومبنى البنتاغون في واشنطن بطائرات قال الأميركيون ان قادتها كانوا إرهابيين من تنظيم القاعدة بقيادة اسامة بن لادن الذي اكد ذلك، من دون ان يقدم هو او الإدارة الأميركية دليلاً ملموساً او قانونياً الى هذا الادعاء. ولكن الأمر استقر دولياً على ترتيب آثار هذه الدعوى على مقتضاها المناسب، اي اعلان حرب اميركا على "الإرهاب الإسلامي"، والبدء باحتلال افغانستان، وتشتيت القاعدة وإنهاء حكم طالبان حامية القاعدة، وإحلال تحالف الشمال بدعم اميركي ودولي مباشر محل طالبان، وبرضى ومشاركة ايرانية غير مخفية، كان من اثمانها اخراج حكمتيار من ايران الذي لم ينتبه الى حساسية ايران من طالبان وعداوة طالبان لإيران ومحاولتهم الدائبة زعزعة الأمن على الحدود الإيرانية - الأفغانية، بانين في ذلك على معتقدهم وفقههم الحزبي العصبي المخالف لميولها الحنفية، في تكفير الشيعة ووجوب محاربة نفوذهم ووجودهم اينما كانوا وكيفما كانوا. وعلى الطريق الى المشاركة في افغانستان الجديدة، بعد انزياح طالبان عن صدرها وعن اطراف ايران، تنازل الهزارة الشيعة في افغانستان عن شيء من نصيبهم في فرص الدولة الجديدة حكومة كارزاي ايثاراً للوحدة وسلامة الجميع... وشاركت ايران في لقاء طوكيو الدول الصناعية في دعم اعادة اعمار افغانستان بما يزيد على 500 مليون دولار اميركي. وانحلت العقدة، حلها الحلال... ولكن ما هي العقدة؟ كانت طالبان المجاهرة في عدائها لايران الثورة والدولة والمذهب، تشكل مصدر قلق ايراني عام، ولكن هذا لم يمنع جماعات من داخل الدولة ومن حولها ومن خارجها من الاعجاب والإشادة بأداء دولة طالبان في أفغانستان والتزامها الدقيق بأحكام الشريعة، من فرض الحجاب بالقوة، الى منع النساء من التعليم، الى منع الفنون والتلفزيون والسينما والإلتزام بإطلاق اللحى، الى تحطيم التماثيل البوذية الخ... وعندما حدثت أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر كفت هذه الجماعات عن التعبير عن إعجابها لأنها استشعرت الخطر المقبل اذا أتيح ل"طالبان" والقاعدة" ان تستمرا وتتمددا وتستحكما في باكستان التي تزايدت فيها احداث الصراع المذهبي الى حد مخيف تحت تأثير الاغراء الأفغاني، وأخذت الدولة الايرانية تتحرك من دون تمايز بين الاصلاحيين والمحافظين على قاعدة ان الخلاص من طالبان والقاعدة أولى لايران ومستقبلها ومستقبل علاقاتها بالمجتمع الدولي عموماً. هذا في ايران، فماذا كانت الصورة في عمق ايران الشيعي؟ من الصعب تعقب هذه الصورة بكل تفاصيلها لأن عنوان الشيعة اذا نقل الى المستوى السياسي يصبح عنواناً تعددياً الى أبعد مدى، اذ لا بد من حصر الكلام في الموقع الأقرب الى النهج الايراني أو المرتبط عضوياً بايران، لأنه هو الأدل على ما أحدثه الحادي عشر من أيلول على شاشة الإسلام السياسي الشيعي وأعني "حزب الله" في لبنان. كان "حزب الله" قبل الحادي عشر من ايلول أنجز تحرير لبنان وحده في آخر المراحل وأصعبها، ما جعل صورته أخاذة لدى الجميع، جميع العرب والمسلمين على اختلاف مذاهبهم وسياساتهم ومعتقداتهم وحساسياتهم، لأنهم في النهاية يجمعون على الحساسية التكوينية ضد اسرائيل والصهيونية والاحتلال، وإن كان بينهم من يشتغلون على تسوية بما تعني من تنازلات نسبية صغيرة أو كبيرة، فإنهم لا يقلون حساسية عن غيرهم من الرافضين للتسوية التي يعتبرونها - ان حصلت - موقتة ويبقى حلمهم التاريخي دولة فلسطينية على كامل التراب الفلسطيني. وكان "حزب الله" دائماً، خصوصاً بعد الانتفاضة، يدرك هذا الامر ويقيم علاقات عضوية مع الفصائل الفلسطينية المعادية للتسوية، من دون ان يقطع مع الفصائل الاخرى، أو مع المحاور الاكثر ثورية فيها بحسب تقويمه. وتعدى "حزب الله" بالتحرير إعجاب الشعوب به الى إعجاب الانظمة من دون فارق بين نظام عربي أو إسلامي ونظام آخر على أساس التقدمية والرجعية، أو الليبرالية والتقليدية، أو المدنية والدينية أو القومية والقطرية، أو القومية الاسلامية... على قلة الفوارق الجوهرية بين الجميع. ما أدركه "حزب الله" وتعامل معه بانفتاح هادف الى طرح نفسه نموذجاً إسلامياً تحررياً يؤجل المؤجل ويعجل المعجل، ويؤخر الخلاف ويقدم الاتفاق متفقاً مع الجميع على الأولويات الاستراتيجية، متأثراً بذلك الى حد كبير بالنهج الايراني العام، محرزاً اعجاب الايرانيين على اختلافهم بأدائه وحسن تنفيذه ميدانياً لرغباتهم بعد تنقيحها وتوطينها وتحليتها بالمعطيات الوطنية والاقليمية المناسبة. وفي ذروة تألقه بالتحرير، سقط البرجان واهتز البرج الأميركي الذي ظن بعد سقوط الاتحاد السوفياتي انه لن يهتز ابداً. واستوطنت صورة بن لادن عيون الشباب في كل الأقطار بعيداً عن الحساسيات المذهبية، ونشرت الاشعاع الى عيون وعقول شباب وكوادر "حزب الله"، وأخذوا يُطرقون صامتين على وقع الاخبار، وان اضطر بعضهم للتصريح اقتصر على أقل الكلام وتلفت حوله، لا خوفاً من أمن الحزب وقمعه، بل مخافة ان يظن السامع ان به وهناً. وكانت مثيرة جداً صورة بن لادن التي احتلت المشهد، وكاد "حزب الله" والتحرير ان يصبحا تفصيلاً فيها وعليها. ولم يبخل البعض في الحزب ان يتوقعوا ان تغرق اميركا في أوحال أفغانستان وتتمزق حملاتها في تضاريسها الصعبة، قياساً على ما فعلته بالحملة الانكليزية التي لم يعد منها سالماً سوى طبيبها الهندي. وإذا سأل أحد اذا كان استمرار طالبان والقاعدة وانتصارهما في أفغانستان لا يشكلان خطراً على ايران والشيعة و"حزب الله" في المحصلة، كان الجواب: ان الأولوية لخسارة أميركا وكسر شوكتها، اما ايران وغيرها فإن للبيت رباً وشعباً يحميانه. الى ذلك فإن "حزب الله" طوال فترة الأزمة في مرحلتها الأولى - على أساس انها ما زالت قائمة حتى الآن - كان حريصاً على ألا يجرح المشاعر السنية الحركية المتعاطفة مع القاعدة وطالبان وبن لادن، نظراً للرمزية السنية من جهة، ومن جهة أخرى فإن المقاومة والتحرير حققت للحزب رصيداً سنياً لا يجوز التفريط به. وكان كل ما وصفناه أقرب الى الحكمة والسلامة، خصوصاً ان هذا المسلك الذرائعي غير المبتذل، لم يكن له أثر سلبي معوق لحركة ايران على خريطة الصراع، فاتخذت موقفها المرن من أفغانستان الجديدة مغطاة بكثير من المسلكيات التي يدخل في ضمنها وفي اساسها مسلك "حزب الله" وموقعه في الوجدان الحركي السني ونمط علاقته مع الحركات السنية عموماً، ومع الجانب الفلسطيني منها خصوصاً، ومع حركة "الجهاد الاسلامي" بصورة أخص. وخرج الحزب من امتحان الحادي عشر من ايلول بخسائر لا تذكر تقابلها أرباح لا يستهان بها. لكن السؤال الذي استدعته هذه المسلكية المرنة والحذرة، كان قد قام في الوسط الشيعي خصوصاً والإسلامي عموماً، وهو السؤال عن النهاية المنطقية لهذا المسلك الذي تدخل الولاياتالمتحدة في محدداته من دون مكابرة، خصوصاً ان الولاياتالمتحدة منحازة الى اسرائيل وأمنها، وإن كانت رضيت بالتحرير ولم تعاقب عليه، مرغمة أو مختارة، فإنها تريد في المقابل من "حزب الله" جائزة تتركز في مطالب عدة أهمها: ذهاب الجيش اللبناني الى الحدود في الجنوب لتحويل الخط الأزرق الى خط حدود آمنة لا خط توتر، مع إشاحة النظر عن مزارع شبعا. اما الباقي فتفاصيل، ومنها سلاح "حزب الله" وحركته السياسية، ومياه الوزاني وغير ذلك... فما العمل اذاً؟ كان إعلان الحرب الأميركية على العراق هو الجواب وهو المخرج. وسلفاً ذهب الجيش اللبناني الى الجنوب رسمياً على أساس ما هو متوقع من عملية ترانسفير اسرائىلية للفلسطينيين تحت مظلة الحرب الأميركية على العراق، فانتزع اللبنانيون بالتفاهم مع الحزب فتيلاً من فتائل التفجير على الحدود لتتفرّغ الدولة اللبنانية لانجاز التزامها القومي من دون ضغط في الجنوب، ويتفرغ الحزب لانجاز توجهه وصدقيته العربية والإسلامية - السنية بخاصة، من دون ضغط في الجنوب ايضاً. فماذا صنع "حزب الله" المقاوم لاسرائىل رأس الحربة الأميركية في المنطقة؟ لقد استفاد من السماح الايراني له بتعريض هامشه العربي والإسلامي والوطني اللبناني، على صفحة الموقف الايراني الذي عاد ليؤثر سلامة ايران ومصالحها وأمنها القومي على كل شيء، فقال نصف نعم ونصف لا الطرف الايراني وتعاطى بايجابية لم تخل من مظاهر السلبية مع النظام العراقي، وبايجابية كبيرة لا تخلو من سلبية مع المعارضة العراقية بما فيها المعارضة التي تأسست على معارضة ايران وتشاركت مع المعارضة التي تأسست في ايران، في حلقة التفاهم المرشح بقوة لنهاية فاجعة، مع الطرف الأميركي على مستقبل الشيعة في العراق بعد صدام. وتعاطى الحزب بايجابية مع هذه المعارضة مع حفاظه بحدود مقبولة على عدم الاصطدام بحزب الدعوة المقاطع لأميركا والمتحفظ على التفاهم معها والمسموح له ان يعبر عن رأيه جهراً في ايران وخارجها. وإن كان الأمر لم يخل من توترات مع الطرف الاكثر حساسية او أكثر إظهاراً للحساسية الشيعية ضد الولاياتالمتحدة، مثل السيد محمد حسين فضل الله ذي العلاقة الوطيدة مع حزب الدعوة والذي رد بفتح دورة جديدة من دورات السجال مع ايران حول مرجعية الاطراف الشيعية في مقابل المرجعية المركزية في قم، على أبواب عودة النجف أو العودة اليها، بما يعني ذلك من عودة حيويتها مقابل قم. ما اضطر "حزب الله" ان يستضيف رئىس المجلس الأعلى للثورة العراقية وأحد أهم البارزين من اهل اللقاء مع الاميركيين السيد محمد باقر الحكيم في حلقة على تلفزيون المنار سجلت في طهران. وبقي "حزب الله" يعتمد الحكمة والغموض في خطبه عن الحرب باعلان رفضه وادانته للقرار والتوجه الاميركي، من دون ان يجد نفسه مضطراً لكلام سلبي او ايجابي تجاه النظام العراقي، الذي كان في ما مضى يقوّم الشيعة على اساس رضاهم بهذا النظام او مجرد سكوتهم عنه، ويدين هذا السلوك باعتباره خيانة للنجف والشيعة والعراق والشهداء وعلى رأسهم المراجع الذين اغتالهم النظام العراقي امام اعين العالم اجمع. وبقيت محطة المنار تتابع اخبار السجال الاميركي - العراقي بانحياز شديد ضد اميركا وسكوت عن النظام. ولم يدر في خلد الحزب ان يقول كلمة سلبية واحدة عن زيارات المسؤولين العراقيين الى لبنان ونشاطهم العلني فيه بين الدولة والمجتمع الاهلي والقوى السياسية. حتى استطاع علي حسن المجيد الملقب بعلي الكيماوي لدوره في حلبجة وفي الكويت وفي النجف وكربلاء ايام الانتفاضة عام 1991، ان يزور بيروت من دون ان يزعج احد خاطره بكلمة واحدة. عجل "حزب الله" بمبادرته بالدعوة الى طائف عراقي تحت مظلة عربية او اسلامية يشترك فيها النظام والمعارضة معاً، بعدما دعا بعض الشيعة قبل ذلك الى طائف للمعارضة العراقية ليخرج قسماً منها من تحت الجناح الاميركي، ويبقى القسم الاميركي المحض معزولاً ومن دون اعماق او آفاق. لقد احسن "حزب الله" اختيار اللحظة. فالموقف الايراني أشبه بالموقف الاوروبي، والموقف الرسمي العربي الذي حاول ان يلحق حاله بعدما اعلن يأسه من التأثير على مجريات الامور، والموقف الشعبي العربي الذي يعبر في حدود محدودة جداً عن رفضه للحرب الاميركية على العراق من دون ان يمتد في رؤيته وموقفه الى الدفاع عن النظام العراقي، مع الالتفات الجزئي الى الشعب العراقي الذي ربما كان لا يستأهل الالتفات الكلي، لأن غالبيته وخصوصاً في النطاق العربي هي شيعية، مع العلم ان اوهام الشيعة عادت الى درجة الصفر، بامكان ان يوضع العراق تحت ايديهم، وعادوا الى يقينهم التاريخي بأن الحكم العراقي مفصل على سنته من دون اعتبار للعدد، وان اي تغيير في عمق هذه المعادلة من شأنه ان يضع العراق على طريق النهاية الفعلية بشيعته وسنته وأكراده وعربه. غاية الامر ان المطلوب هذه المرة ان تكون السنية السياسية مطابقة لتوجهات السنّة في العراق، غير مفصولة عنها او مختزلة ومشوهة لها. ليحسن السنة في الحكم ان يؤدوا امانة المواطنة والشراكة في الايمان والاسلام للشيعة الذين لم يقصروا في افتداء العراق في أحلك الظروف بالغالي والنفيس مما يملكون من مال وأرواح. وضرب "حزب الله" ضربته الموفقة والتي قد لا تخلو من مخاطر وألغام. ذلك ان حرصه على تعاطف العرب والمسلمين عموماً والسنّة منهم خصوصاً حرص مفهوم، ومن هنا مراعاته للحساسية السنية والعربية عموماً في عدم التعرض للنظام العراقي وسعيه لتليين مواقف المعارضة العراقية في لحظة حرجة من لحظاتها. ولكن ذلك يرتب عليه اسئلة محرجة تجاه جمهوره الشيعي في لبنان وخارجه. وربما لادراكه هذا الحرج لم يشارك الحزب إلا رمزياً في كل التظاهرات والندوات التي نظمت في لبنان للدفاع عن العراق، عن نظامه اولاً وشعبه ثالثاً، بدليل رفع صور الرئيس العراقي والمرور لماماً وبحياء ملحوظ على مظلومية الشعب العراقي والاخطار المحدقة به على تقدير انتصار الاميركيين او انتصار النظام، لأنه سيترجم انتصاره مزيداً من القمع على قاعدة الغرور المرضي بالعظمة المبتلى به رئيسه الدائم. غير ان مساعي الحزب الى هذا المستوى المنشود من الوحدة حول العراق وضد اميركا، ليس بالضرورة ان يكون النجاح في انتظارها، خصوصاً ان الجميع يلاحظون قلة حماسة الشيعة في لبنان للتعبير الجاد عن موقفهم الفعلي حتى لا تصب في مصلحة النظام. ما يعني اننا قادمون على رغم كل الاحتياطات العظيمة، على انقسام شيعي - سني على اساس عراقي، يعيد الى ذاكرتنا بدايات الانقسام على بن لادن في الحادي عشر من ايلول وعلى الطالبان قبلها بسنوات... هذه البدايات التي تم تجاوزها بلطف من الله. اصبح تجاوز مثيلاتها الآن اشد صعوبة وأعقد. هنا تختلط اوراق الشيعة مع اوراق "حزب الله" وفي كل صقع ومكان. وهنا يعود الميل الذي بدأنا حديثنا به الى التعاظم والتبلور، ليطرح السؤال القديم: ما هو الأجدى للشيعة؟ ان يتحركوا سياسياً ليربحوا نفوذاً هنا ودولة هناك على حساب تاريخهم، او ان يربحوا انفسهم وموروثهم وسلامهم بعيداً من الصراع؟ وهنا تتسع الفسحة والفرصة للمنكفئين وللمعتزلين تاريخياً ليتفقوا على مسلك فكري وعملي مضمونة الاساس والالحاح على استدعاء التمايزات الشيعية والاستمرار في انتاجها بعيداً من السياسة وفي مقابلها، حفظاً للجماعة الشيعية من الذوبان في الغير، ما يعني في المحصلة نهاية مأسوية للشيعة تقوم على اساس التمايز الذي يلغي الحضور ليلغي الوجود. في حين ان الدعوة الى الاندماج، على غير نصاب سياسي خاص، كانت الاجدى والأضمن والأكثر حفظاً للشيعة في اوطانهم وأقوامهم وحفظ الاوطان والاقوام بالشيعة على نهج اهل البيت الذين آثروا العام على الخاص من دون ان يتنازلوا عن حقهم نظرياً. والسؤال الاخير والمحرج في طرحه والجواب عليه من دون حساب لنسب الحقيقة المتبدلة طبقاً للمتغيرات وأداء "حزب الله" والموقف العربي والدولي من التعددية الدينية والمذهبية والقومية في المنطقة. فهل - مثلاً - ما زال الغرب عموماً والاميركيون خصوصاً عند نتائج مطالعتهم للخريطة المذهبية في الوطن العربي والعالم الاسلامي والتي اقنعتهم في شكل غير نهائي بأن هناك ضرورة لاطلاق ودعم حالات اسلامية اكثر اعتدالاً وميلاً للتفاهم مع الغرب والتصالح مع التنوعات السياسية والثقافية في اوطانها، خصوصاً بعد قصور وتقصير التيارات العلمانية في اداء دورها؟ النموذج التركي الموضوع الآن تحت الاختبار. واذا كان هذا المسار مؤهلاً للاستمرار فلا بد من دفع التيارات الشيعية المتطرفة والجاهزة للاعتدال من خلال قراءتها المعمقة والسياسية المحترفة للمتغيرات، الى مزيد من الاعتدال من دون تشويه ادائها باجبارها ولو بالقوة على الاذعان للاملاءات المكشوفة، خصوصاً ان هناك صمام امان في الحال الشيعية تأتي من استمرارهم على نهج الاجتهاد الفقهي الذي امن لهم سقفاً مرجعياً تعددياً يتيح الاختيار بين مسلك ومسلك من دون حرج ومن دون قطيعة مع الجمهور الشيعي الذي يستظل بالمرجعية المشتركة. * كاتب ورجل دين لبناني.