اهتم مجلس التعاون الخليجي باكراً بالجوانب النقدية لتحقيق متطلبات المادة 22 من الاتفاق الاقتصادي الموحد، الذي ينص على"سعي الدول الأعضاء لتنسيق سياساتها المالية والنقدية والمصرفية، ودعم التعاون بين مؤسسات النقد والبنوك المركزية لديها، بما في ذلك إنشاء عملة موحدة لدعم تكاملها الاقتصادي المنشود". وحقق المجلس إنجازات كثيرة في هذا الشأن، توجت بالاتفاق على إصدار عملة خليجية موحدة في بداية عام 2010. وخطت دول المجلس حتى الآن خطوات مهمة لتحقيق هذا الهدف، حيث تم الاتفاق خلال العام الماضي على معايير مالية ونقدية للاأداء الاقتصادي يتطلبها الاتحاد النقدي الخليجي، وتشتمل على أسعار الفائدة، ومعدلات التضخم، ومدى كفاية احتياطات السلطة النقدية من النقد الاجنبي، ونسبة الدين العام الى الناتج المحلي الاجمالي، ونسبة العجز السنوي في المالية الحكومية العامة الى الناتج المحلي الاجمالي. والجديد في سياق الجهود التي تبذل باتجاه إقامة الاتحاد النقدي الخليجي واصدار العملة الخليجية الموحدة، ما أعلنه في ايلول سبتمبر الماضي الاجتماع ال41 لمحافظي مؤسسات النقد والبنوك المركزية الخليجية، من ان خطوات عملية مهمة اتخذت لإصدار العملة الخليجية الموحدة، شملت تسمية العملة وفئاتها وأسلوب طرحها للتداول، وتحديد نظام صرفها واقامة المؤسسات الخاصة بها. ومما لا شك فيه أن العملة الخليجية الموحدة على جانب كبير من الأهمية لدول المجلس، من شأنها أن تحقق لها أعلى مراحل التكامل الاقتصادي الذي تنشده، إضافة إلى دعم استقرار تبادلها التجاري مع الدول الاخرى، وتعزيز حركة التجارة والنشاط المالي بينها، والمساهمة في قيام سوق إقليمية لرأس المال، نظراً لما ستتمتع به العملة الخليجية الموحدة من قدر كبير من السيولة. كما يرى بعض الاخصائيين أن العملة الخليجية الموحدة ستساعد على خفض تكاليف المعاملات الخارجية، وتنظم عملية عرض النقود الورقية في السوق لضمان سلامة قيمتها، وكذلك تشجيع المصارف في الدول الخليجية على رفع أدائها على أسس مصرفية متطورة تتلاءم مع مستجدات الخدمات المصرفية العالمية. ومعروف أن مشاريع العملات الموحدة من شأنها أن تؤدي إلى تخلي الدول المعنية عن حرية إجراء أي تغيير في أسعار الصرف بمفردها، وكذلك التخلي عن انتهاج سياسات نقدية مستقلة خاصة بها، واللجوء إلى إجراءات طارئة لمواجهة الأزمات المالية والمصرفية. وبينت دراسة لصندوق النقد الدولي أن أي سلبيات محتملة للعملة الموحدة في دول المجلس ستكون أقل شأناً مما هي عليه في التجمعات الإقليمية الأخرى، مثل منطقة اليورو وغيرها، وذلك لأن دول المجلس لم تلجأ في الماضي إلى تعديل ترتيبات أسعار صرف عملاتها، إلا في القليل النادر، ما يعني ضآلة احتمال استخدامها لهذا المخرج في ظل الظروف التضخمية المختلفة أو لأي سبب آخر، إضافة إلى أن التشابه بين الاقتصادات الخليجية بنيوياً، من حيث اعتمادها بصورة كبيرة على الصادرات النفطية، سيجعل من أي صدمة مستقبلية محتملة، تطاول كل دول المجلس وليس دولة معينة. من جانب آخر تشير الدراسة الى أن تشابه أسواق العمل في دول المجلس، واتسامها بالمرونة من حيث حرية التنقل ومستويات الأجور الاسمية، واعتمادها على العمالة الخارجية، ستعطي اقتصاداتها سهولة في التكيف مع أي صدمات محتملة من دون اللجوء إلى إجرء أي تعديل في أسعار الصرف. كذلك تغني ضخامة الأصول الأجنبية المتوافرة لدى دول المجلس، عن احتمال اللجوء إلى معالجة الأزمات المالية إن وقعت بطباعة النقود. لا شك في أن إصدار عملة موحدة في التجمعات الإقليمية تمثل أعلى مراحل التكامل بين الدول الأعضاء، وتسبقها خطوات كثيرة لا بد منها من أهمها إقامة السوق المشتركة، والوحدة الاقتصادية. ويتبين من تجربة الاتحاد الأوروبي أنها احتاجت إلى ما يقارب أربعة عقود للوصول إلى الوحدة النقدية، وإصدار العملة الأوروبية الموحدة، سبقها وضع آليات وتشريعات مشابهة لتحقيق الاندماج والوحدة الاقتصادية الأوروبية. وهذا يعني أن ثمة استحقاقات لا بد منها للوصول الى العملة الخليجية الموحدة، تستدعي تنفيذ كل الخطوات العملية اللازمة لإقامة السوق الخليجية المشتركة مع نهاية عام 2007، كما هو متفق عليه من قبل واليد العالمة والتي تتركز اهدافها على حرية انتقال السلع ورأس المال والعمالة، وإزالة كل المعوقات التي تواجهها، وخصوصاً في مجال نقل السلع براً، إضافة الى إكمال تحرير كافة السلع المتبادلة بين دول المجلس، ومن ثم تحقيق الوحدة الاقتصادية الكاملة، وذلك قبل اعتماد العملة الموحدة عام 2010. إن العملة الخليجية الموحدة تجسد رغبة دول المجلس في زيادة التعاون والتكامل بينها، والسعي الدؤوب لمواصلة العمل نحو استكمال إقامة تكتل اقتصادي أسوة بالتكتلات الاقتصادية العالمية، خصوصاً أن دول المجلس تمتلك كل المقومات التي تؤهلها لتكون قوة اقتصادية مهمة في المنطقة. ولإعطاء الأمور حجمها الحقيقي، ومن منظور واقعي، لا بد لي من القول ان تحقيق هذه الأهداف المرجوة، أو تعزيز مكانة العملة الخليجية الموحدة مستقبلاً، يستدعي دفع عجلة التنمية في دول المجلس، وترسيخ ما يمكن تسميته بالتكامل الاقتصادي الإنمائي بينها بهدف توسيع وتنويع القاعدة الإنتاجية الخليجية بكل أبعادها وفي كل المجالات القادرة على الوفاء بالاحتياجات التنموية المحلية، ورفع مرونة استجابة العرض لتغيرات الطلب في إطار السوق الخليجية المشتركة، إضافة إلى اعطاء أهمية خاصة للاسراع في تنفيذ مشاريع الربط الضرورية لتوثيق الأواصر التكاملية في مجال الكهرباء والاتصالات وخطوط الغاز، لأنها تساعد على إحكام حلقات التكامل بين دول المجلس. كذلك لا بد في هذا السياق من التشديد على حتمية التكامل المالي الخليجي في ظل اندماج أسواق المال العالمية، والذي لا يتوقع له أن يتم بأشكال التعاون الحالية بين المؤسسات المالية الخليجية. وتتمثل الأخيرة بتجميع المعلومات وتنسيق العمليات والاشتراك في التمويل مع بعضها في شكل جماعي. فالحل هو بالاندماج وإنشاء عدد محدود من المؤسسات المالية الضخمة، القادرة على العمل في موقف تنافسي أفضل وسط الأسواق العالمية المندمجة، وأمام التكتلات الاقتصادية والمالية الدولية، لأنها في حدود إمكاناتها الحالية لن تقوى على منافسة المؤسسات المالية الدولية حتى في الأسواق الخليجية نفسها، في ظل تحرير الخدمات ودخول هذه المؤسسات الدولية للعمل في دول مجلس التعاون بحكم اتفاق الغات". من جانب آخر، لا بد في إطار التكامل المالي الخليجي من إعطاء أهمية خاصة لأسواق الاوراق المالية الخليجية، لتطويرها وزيادة حجمها وقدرتها الاستيعابية واستحداث مؤسسات مالية متخصصة لتسهيل انسياب عمليات التبادل في السوق في جو من المنافسة مثل المصارف الاستثمارية، وصانعي الأسواق والوسطاء. أن تحقيق الاتحاد النقدي الخليجي، وإصدار العملة الخليجية الموحدة، وإحكام التكامل بين الدول الخليجية، لا أظنه سيبعد الدول الخليجية عن عمقها العربي في منظوره التكاملي، بل انه سيزيد سعيها الجاد نحو الاستفادة المتبادلة من الموارد والفرص التجارية والاستثمارية المتاحة لدى السوق العربية الواسعة التي يقدر عدد سكانها بنحو 310 ملايين نسمة، على أساس من المنافع الاقتصادية المتبادلة بين كل الدول العربية، وبعيداً من الشعارات العاطفية والمصالح القطرية الضيقة. * خبير اقتصادي في المركز الكندي لدراسات الشرق الأوسط.