على رغم أنه لم يُنجز إلاّ عدداً ضئيلاً من الأعمال السينمائية خمسة أفلام روائية ووثائقيين فإنه عُدّ من كبار أساتذة السينما العالمية. وعلى رغم أنه عاش بعيداًَ من الأضواء وضوضاء عالم السينما، طويلاً فقد اختار أن يخرج من المشهد في يوم احتفال مدينته، روما، بالسينما. جيلّو بونتيكورفو قرر الرحيل بعد يوم واحد من انطلاق مهرجان روما السينمائي الدولي، وبدا بذلك أنه لم يرغب في الرحيل قبل أن يتأكد بأن ما حلمت به العاصمة لسنين طويلة، أي امتلاك مهرجان كبير يحمل اسمها، قد تحقق أخيراً. ولد جيلّو جيلبيرتو بونتيكورفو في مدينة بيزا، مدينة البرج المائل، في التاسع عشر من نوفمبر 1919 وكان مؤملاً له أن يُصبح بطلاً من أبطال التنس أو السباحة العالميين، إلاّ أن السينما سحرته بأضوائها وجذبته إلى روما. وبعد أن شاهد فيلم"بايزا"لروبيرتو روسّلّيني في عام 1964 فلم يبارحها منذ حل فيها. وفيما كان شقيقه، برونو بونتيكورفو منشغلاً في اكتشافاته العلمية في الذرة ويعمل برفقة إنريكو فيرمي في اختبارات فصم الذرّة، قرر الشاب جيلبيرتو الابتعاد عن تلك الأجواء والعمل على لملمة ذرات المخيّلة البصرية وصناعة الأفلام. وبما أن جيلّو نشأ في عائلة شيوعية وانغمس في حياة الالتزام السياسي في روما فقد استوعب ذلك الإلتزام في إطار أممي شامل لا يفصل بين كفاح الإيطاليين من أجل الحرية ومكافحة الحكم الفاشي أو المساهمة في الدفاع عن الجمهورية الإسبانية التي أطاح بها الجنرال الفاشي فرانشيسكو فرانكو. بونتيكورفو اعتبر الدفاع عن حقوق الشعوب من أجل حريتها وانعتاقها من ربقة الاحتلالات من بين مهماته كفنان. وكان طبيعياً، في هذا الإطار، أن يشكّل كفاح الشعب الجزائري مفردة هامة في ضمير هذا المبدع الشاب آنذاك، بالضبط كما كان الأمر للعديد من مثقفي فرنسا وأوروبا بشكل عام. وتعمّد إنجاز بونتيكورفو لرغبته في تحقيق فيلم يروي كفاح الجزائريين من أجل الاستقلال، إلاّ أنه لم يكن راغباً في تحقيق فيلم عن الجزائر خارج الجزائر نفسها وسنحت له فرصة تحقيق ذلك الحلم عندما دُعي من قبل الجزائريين الذين كانوا استقلّوا للتو بعد ثورة المليون شهيد، لإنجاز فيلمه فعمل مع السيناريست فرانكو سوليناس في كتابة النص الذي نتج عنه فيما بعد فيلم"معركة الجزائر"الذي حقق لبونتيكورفو جائزة الأسد الذهبي في دورة العام 1966 لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي وأطلق العنان لمبدع كان يمكن أن يمنح السينما العالمية لمسات رائعة، كما أطلق العنان لشريط تحوّل في الحال إلى واحد من كلاسيكيات السينما العالمية. لم يكتف بونتيكورفو بعمله كمخرج فحسب بل تولّى مهمات إدارية هامة، ففي مرحلة دقيقة من حياة"مهرجان البندقية السينمائي"في عام 1992 أنيطت به مهمة إدارة المهرجان وحفلت جزيرة الليدو في تلك السنوات بحضور عدد كبير من نجوم السينما العالمية الذين لم يكونوا ليرفضوا دعوة وجهها إليهم المايسترو الكبير. لم يكن بونتيكورفو خصب الإنتاج وكان يقول دائماً"لن أنجز فيلماً جديداً ما لم أتمكّن من العثور على الموسيقى المناسبة لذلك الفيلم"وكان يقول أيضاً" لا حاجة لي إلى إنجاز فيلم إذا لم أعثر على القصة التي تحرك فيّ الرغبة للإنجاز...". إلى جانب"معركة الجزائر"أنجز جيلّو بونتيكورفو أفلامه الأخرى"جوفانا"من بطولة إيف مونتان وسيمون سينيوريه و"كابو"، الذي روى فيه تجربته الشخصية كواحد من مقاتلي حرب الأنصار ضد الفاشية و"كيمادا"من بطولة مارلون براندو"و أوغرو"، الذي تناول فيه ملف الإرهاب اليساري. فيلم"معركة الجزائر"مُنع لسنين طويلة في فرنسا، إلاّ أنه رُشّح بعد فوزه بالأسد الذهبي لمهرجان البندقية في عام 1966، لجائزة الأوسكار كأفضل فيلم وأفضل سيناريو. ارتبطت الجزائر بحياة وإبداع وتفكير هذا المخرج الكبير. ارتبطت به إبداعياًُ وروحياً، فهي، أي الجزائر، حاضرة ليس في شريطه"معركة الجزائر"فحسب بل هي مادة احدى وثائقيه، والذي سجّل فيه يوميات زيارة قام بها بعد ثلاثين سنة من إنجازه لپ"معركة الجزائر"، كانت تلك الرحلة تبدو مثل دفتر يوميات كُتب بالدمع الساخن. كان بونتيكورفو حزيناً لما آلت إليه الجزائر في تلك السنوات لكون الدم الجزائري يُسفح بعمى الإرهاب الأصولي. وعلى رغم الحزن والأسى الكبيرين اللذين كانا يبرزان من ذلك الوثائقي كان جيلّو واثقاً من قدرة الجزائر والجزائريين على اجتياز تلك المحنة، وحين حاورته في رييع العام2001 أكد لي ذلك الإحساس وقال لي"عندما عدت إلى الجزائر لم أعثر على ما كنت قد عشته في الفترة التي صوّرنا فيها الفيلم. كان البلد يبدو وكأنه ضُرب بطوفان هائج. إلاّ أنني كنت أجد في عيون الناس وفي أحاديثهم إصراراً على عدم إحناء الرأس أمام هذا الطوفان"وأضاف"كان البعض من الجزائريين يبدو كمن يسبح عكس التيار. أنا سبّاح أصلاً وأعلم ما تعني السباحة ضد التيار من رعب وخوف وجهد، لكني أعلم أيضاً بأنك إذا ما تسلّحت بالقناعة على مواجهة التيار فإنك ستبلغ الشاطئ بالتأكيد...". ربما كان بونتيكورفو على حق في ما رأى من إصرار الجزائريين على اجتياز ليل الظلامية، إلاّ أن ما هو مؤكد هو أن ذلك القلب الذي توقّف ليلة الجمعة الماضية كان ينبض بحب كبير للجزائر وللإنسان بشكل عام. وداعاً جيلّو...