يحمل زوّادة في سبت من "سمار"، ماضياً من طريق التراب، حتى إسفلت المدينة اللاهب، وأنا أعرف أنه فتح عينيه قبل لمعة الصبح، وأصغى بانتباه للاصوات التي يميزها في الجوار كل يوم، ونادى على أمي: "خلاص يا ولاد". وعندما يضغط جرس بابي، و يصدح البلبل بالنشيد، أفتح، تفعم روحي الرائحة التي أميزها من قديم، حفظ الله زمان الكدح، وفيض الخير في الصوامع، والجرار، وبراني الخزين بخزف الحريق، فطير صابح، وبرطمان عسل نحل بشمعه، وجبن قريش، الرز المعمّر بنار الفرن، وخبز قمح طازج، والدجاجات المذبوحة على وش السبت، وبرنية السمن البلدي في لون الشهد، وأنا يمنعني خجلي، والقليل من سعيرات بيضاء أن أدس أصابعي خلسة وأملأ فمي بخير الزيارة. تأمله بالباب، على فمه بسمة، وعلى وجهه سمرة من كدح طوال عمره تحت الشمس، فوق كتفه عباءة من الصوف الامبريال المعتبر، زرقاء غامقة، ويكبس في رأسه لبدة من وبر بني، وفي عينه نظرة سوق مثل من يتأمل لون أيامه. ابتهج مثل طفل، وأنا أتأمل جلبابه الكمثري المخطط، تطل من فتحته زراير الصدف للصديرية القصب. "حمد اللى على السلامة يابه.. نوّرت مصر، طيب قول! أقابلك". "بلاش تعب ووجع دماغ... جبت تاكسي، رماني هنا وتوكل". ويخطو العتبة داخلاً. لم يسلم عليّ مرة... لا أذكر أنني خلال عمري كله رأيته يبدي ناحيتي مودة، أو يأخذني في حضنه مثل الآباء في البلد، ولا سمعت منه كلمة شكر على فعل فعلته، وكانت أمي تعاتبه فيقاطعها منهياً الحديث، ده شُغل نسوان، وأفعال ناس مايصة، ورضيت بأحواله طوال عمري. يدرج ابني الصغير خارجاً من حجرة بالشقة، يزيط مثل كتكوت بالمشمس، رافعاً ذراعيه"جدو... جدو"في اللحظة يفارقه وقاره، فاتحاً برجل رجليه وقد انقلب عيّل صغير، يركع على ركبتيه خاطفاً الولد، ثم ينهض رافعاً إياه على طول ذراعيه، مهللاً كأنه في مولد، وقد شع وجهه بالفرح: "مرحب ابو السباع". تضحك زوجتي وتقبله، وأنا في شدة العجب، وامرأتي تلحظ الأمر فتغرق في الضحك، وأنا أتأمل عينيه البنيتين العميقتين، تأخذني بهجة روحه التي لم تفارقه، وقدرته على توليد الكلام، ومخزونه من حكايات لا تنفد مثل بئر. أبي ساتر بيتي، ومكمن الطهارة في عائلتي. "معانا اجازة طويلة؟... هي... الزيارة دي اجازة طويلة... حسب وعدك؟"... اسأله. "بإذن ربك... لغاية ما تزهقوا". ترد زوجتي: "انت تنوّر يا عمي". تنقضي الليلة الأولى، والنهار التالي، تشع فيهما روحه بالنور، ويجلجل صوته في الشقة بالمسامرة، وحكايات الأهل والأقارب، ونوادر الناس في البلد: "با ابني الناس اتغيرت .. مابقوش ناس... بقوا حاجة تانية". "يابه طبيعة الأمور، والوقت غير زمان". "طبيعة الامور ان الواحد معدش لاقي راجل يقعد معاه..م مش دي مصيبة؟!". في الصالة يشيح بيده، وتحتشد لغته بالرمز والدلالة، وبرائحة الفضول، وتغوص كلماته في ارواح الناس، وأنا كأنني اكتشفه اليوم. "حتى الارازل في البلد بقوا أسياد، ومحدش في البلد مالي عينيهم". ابتسم وأنا أنهض لأعد الشاي، فيما صوته يأتيني هادراً بتغير الأحوال. يمضي اليوم الأول والثاني... الثالث اصحبه لمزارات أهل الله، نصلي العصر في حضرة السيدة"نفيسة"، والمغرب في مقام الطاهرة، يصمت لحظة ويرفع يده بالدعاء ثم يوجه لي الحديث:"أم هاشم"أخت سيد الشهداء تنفك على عتبتها كل العقد. يصمت مرة أخرى واسمعه يحادث نفسه"مصر عايشة من بركتهم"في المساء نكون في ميدان الحسين، نتعشى عند الحاتي في زقاق جانبي، ونخرج للميدان حيث الأضواء، وصوت التواشيح والأذكار، واسمعه يرق صوته، وأرى فتنة المكان على وجهه. صباح اليوم الثالث اسمعه ينهض في الفجر، يتوضأ ويصلي، ويقضي ما عليه من دين لله تعالى ثم يجلس متواحداً على الكنبة، يشغل الراديو على إذاعة القرآن، وأكون قد نهضت وخطوت ناحيته، القي عليه تحية الصباح فيرد بعد برهة صمت. اشعر بانشغال باله وشروده، أسأله: ان كان فيه شيء؟ يجيبني: أبداً، ثم يعدل مساند الكنبة ويضع شاله على وجهه وينام. الظهر ألمح بدايات الضجر على وجهه، وأراه يدور في الشقة، من حجرة لصالة، ومن صالة لشرفة، ينحني على السور ويطل على البستان الصغير أمام العمارة، تستهويه الخضرة، وأرضه المكسوة بالعشب، وبعض الطيور تروي عطشها من نقر الماء بجوار الرصيف. يعود من الشرفة الى الكنبة، ومن الكنبة الى دورة المياه، ثم الى الكنبة، اسأله: "شاي يابه؟". "شاي ايه بس! ما شربنا ألف شاي.. هي شُغلانة". بداية عدوان يطل ناحيتي، وأنا أرى الضجر يطل من عينيه، اصمت واستسلم لأحواله، يجلس على الكنبة مشيحاً بيده: "أنا عاوز اعرف انتم متحملين البلد دي ازاي؟". في اليوم الرابع يصمت تماماً، وارى عينيه تدور في فراغ، شارداً يكون مثل من فقد شيئاً عزيزاً، الصبح بدري توقظه صلصلة الجرس، يفتح الباب ويرى على بسطة السلم اللبان وبيده فنطازه، وكوز عياره، فلاح شاب، صغير السن وحسن الحديث، مؤدب وحامد ربه، ونعرفه من زمان، يسأله أبي:"انت مين يا بني؟". "أنا بجيب للجماعة اللبن". يتفرس فيه بنظرة من حنية، وشعور قربى ينسال صاعداً من قلبه ناحية الشاب الذي يطرق الابواب في بواكير النهار.. يسأله: "انت منين يا بني؟". "من الغربية". "منين من الغربية؟". "من الراهبين". "أجدع ناس... انتون جيران لنا يا ابني... إحنا من الكفر... تعرف عمك سيد اسماعين؟". "آني شغال عنده". "كده... ده حبيبنا... طيب ادخل". يدخل الشاب مندهشاً.. يمسح الشقة بعينيه، وأنا يأتيني ما يحدث فيما أضع رأسي على الوسادة، وأشعر بانتباه زوجتي. يسأله: "انت فطرت، وشربت الشاي؟". لا يرد.. يعاجله: "تلاقيك على لحم بطنك". يقوم بنفسه، يجهز المطلوب، واشعر من مكاني بمسرى نفس من حياة يشيح بالشقة، وأبى استعاد لياقته، وتبدأ المسامرة، وتتقاطع الطرق عن الجيرة وجيرة الجيرة، وترن في الأركان تواريخ العوايل والانساب، وأنا اشعر به وقد استرد لياقته الروحية، ودردبة الكلام مثل سرسوب اللبن يفتح طريقاً الآن على حقلنا القديم، وأنا في اول العمر اطل وحدي في الليل على مكامن الأسرار، وأعدو في الحارة عند النهر لأسمع استغاثة الغريب، وصوت الطائر، وآهة أنثى منتشية بين ذراعي رجل في عتمة القاعة القبلية لبيت الطين، وخوار ثور طليق بين القنطرة وجرف النهر خالعاً حكمته يهرول بهبل نحو بقرة مربوطة في ساق سنطة. في العصر يرتب احواله عازما على العودة.. اقبض على ذراعه، أرجوه:"بدري يابه... أنت مش قايل عشرة أيام". "بدري من عمرك... ما انت عارف... عمك لوحده... وستك كبيرة في السن، وحلابة البهايم بقت هم عليها.. مواشل وارض وداخل محصول". أفهمه، ويعرف انني كاشف سره، لا ينظر نحوي، ويحاول اقناعي: "ثم يا أخي شقتكم ضيقة، ومصر بتاعتكم دي بلد تخنق". تضحك زوجتي، ويقبل الولد، وتقول هي ضاحكة: "وغلاوتك يابا أنا مرهناه على تلات أيام". يهبط درجات العمارة على عجل، وأنا أراه من الشرفة في زحمة الشارع يطوح يديه، موسعاً من خطوه، وكأنما ثمة صوت هناك خفي، يناديه!