الحرب الإسرائيلية التي شنت على لبنان وسط رعاية ودعم إدارة الرئيس جورج دبليو بوش لا يمكن أن تكون حدثاً عابراً يطويه النسيان باكراً ويدخل صفحات التاريخ برتابة أو ليصبح محطة محنطة في مسلسل على غرار"حدث في مثل هذا اليوم!"بل إننا نعايش الآن مرحلة الإرباكات الارتدادية للبركان الذي تفجر في 12 تموز يوليو ومازال يقذف بحممه على رمايات آنية ومتوسطة وعلى المدى البعيد. وقبل التوغل في التفاصيل العميقة نتوقف عند أمر فيه الكثير من الغرابة ضمن إشكالية كبيرة ومعقدة لن يتم العثور على حل لها في المستقبل المنظور، إذ لا يزال الكثير من مواقف بعض الأطراف اللبنانية يعتريه الكثير من التردد والالتباس وعدم الوضوح في تحديد ما الذي انتهت إليه هذه الحرب فعلياً. ففي الوقائع: السجال على أشده في إسرائيل حول تداعيات الهزيمة في الحرب الأخيرة وهذا تعبير إسرائيلي بالإمكان العثور عليه في الصحف الإسرائيلية كافة. وفي لبنان مازال السجال على أشده حول"النصر الذي تحقق"رغم الاختلاف القائم حول تسمية ما انتهت إليه هذه الحرب. ودعونا نطلق تعبير"الصمود - النصر". رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت استبعد قبل يومين نشوب حرب وشيكة مع لبنان"كالتي حدثت مع حزب الله، لأن الظروف تغيرت وتبدلت". وسواء كان في هذا القول مراوغة إسرائيلية كالعادة أم أن هذا الكلام صدر عن قناعة يبقى أن حرب الثلاثة وثلاثين يوماً أحدثت تغيرات جذرية في التركيبة الإسرائيلية لا يمكن لأحد مهما كابر أن يتجاهلها. وإذا كان المراقب الصحافي يتابع بعين الراصد السجالات الحادة القائمة في لبنان، فعليه أن يلاحظ أيضا حدوث بعض المتغيرات ولو من حيث الشكل على أمل ترجمتها إلى مضمون ومحتوى. ومن ذلك الفتوى السنيورية في مسألة الحرب الإسرائيلية: فتحاشياً لتبني تعبير النصر، وحتى لا يذهب إلى النقيض الآخر سمعناه يقول في الآونة الأخيرة :..."إننا لم نمكن إسرائيل من الانتصار في عدوانها". وطالما أن اللغة العربية رحبة الآفاق والتعابير والمرادفات فهي تشكل مخرجاً لبعض المآزق ونتذكر مثلاً عند نشوب أزمة تجميد الوزراء الشيعة وفق قاموس التداول اللبناني ممارسة مهماتهم الوزارية قبل تحديد مفهومه للمقاومة، عندما انتهز فرصة انعقاد جلسة لمجلس النواب وتلا السنيورة نصاً مكتوباً بعناية عرف بها عندما قال بما معناه ومؤاده بأننا لم نطلق على المقاومة إلا مقاومة. ولن نناديها إلا بهذه الصفة، نازعاً بذلك عن"حزب الله"تصنيف الميليشيا. كذلك شارك السيد سعد الحريري في الاجتهاد، ومن دون الخوض في كل تفاصيل خطابه الأخير في إفطار تكريم رئيس الحكومة نكتفي بالإشارة إلى قوله"إن المسؤول عن الحرب هو إيهود أولمرت"... رغم أنه استطرد متسائلاً ما إذا كان رأس فؤاد السنيورة هو المطلوب. والآن وبعد ما أدلى كل بدلوه في السجالات اللبنانية وتم الكشف عن المستور وعن المحظور أو الذي كان كذلك، فالسؤال يبقى واحداً وهو: إلى أين يتجه الوطن بعد كل ما حدث؟ حول اللغط القائم للمطالبة بتأليف حكومة اتحاد وطني يأتي السؤال: من يأتي بمن؟ يعني: هل أن تأليف حكومة تضم الشركاء في الوطن كافة، ومن شأن هذه الصيغة أن تكرس الوحدة الوطنية؟ أم أن الوحدة الوطنية فعلاًً لا قولاً ولا بيانات وزارية جوفاء، يجب أن تسبق تأليف الحكومة؟ والتجاذب الحاد القائم حالياً في طول لبنان وعرضه يسهم في تأجيج حالة الاحتقان السائدة، وطالماً أن المسألة تطرح من زاوية"شخصنة"الأزمات والحلول فالأزمة مرشحة للبقاء طويلاً. وفي معظم بلاد الناس يتم اللجوء إلى صيغة وزارية وطنية شاملة سواءَ في الفترة التي تسبق الحرب أو تعقبها. ولأن الحكومة الحالية لم تكن على علم بنشوب الحرب! ، فإن التفكير الجدي والمتعالي عن كل الحساسيات المتراكمة لا يمنع باسم الوفاق والتفهم والتفاهم بين الأفرقاء كافة يمكن أن ينتج عنه"توسيع"هذه الحكومة أو إضافة"ملاحق وزارية"، ولا ندري حتى الآن ما الذي يمنع بلوغ هذه التسوية إلا إذا كانت محاكمة هذا الفريق لفريق آخر تقوم على التجريم بالنيات وإضفاء صفة"المؤامرة"، على كل موقف يتخذه أي طرف وطني. ألم يحن الأوان لتخطي كل الإشكاليات والهواجس القائمة والاتفاق على ورشة حكومية وطنية تكون هي الهيئة الدائمة للحوار الوطني، باعتبار أن إحياء الصيغة السابقة ليس وارداً لأكثر من سبب؟... وثمة قضية خلافية أخرى تبرز ملامحها يوماً بعد يوم وتتصل بتحول لبنان إلى جمهورية القوات ذات الجنسيات المتعددة في الانتماءات والصلاحيات... والمصالح! فبعد العاصفة التي أثارتها المستشارة الألمانية انجيلا ميركل من حيث حرصها على الإشارة إلى أن الدور الأساسي لمشاركة بلادها هو الحفاظ على أمن إسرائيل، واستطراداً تأمين الدعم لحكومة الرئيس السنيورة وقد التقى رئيس الوزراء والمستشارة قبل ثلاثة أيام في برلين حيث تم التداول في الكثير من القضايا العالقة وكيفية مواجهة المرحلة الآتية على لبنان مع وجود هذا الحشد من الأساطيل والقوات وتحديد المهمات الفعلية الموكولة إليها، وهناك السيدة الأخرى التي لا تقل سطوة ونفوذاً بل تفوقها وهي الآنسة كوندوليزا رايس. ففي معرض حديثها وتقديم تفسيرات محددة للقرار 1701 أبلغت"النيويورك تايمز": أن أي شخص سيحول دون قيام القوات الدولية في لبنان بتحقيق مسؤولياتها يجب مواجهته، وأن للقوة الحق في استخدام القوة. وتضيف رايس - وهذا هو الجانب المهم:"إن التصريح المتعلق بهذا الشأن تقصد القرار رقم 1701 تمت كتابته بعناية وبلغة وأسلوب قوي، وأن الأمر يتوقف على كيفية ترجمة القرار"! والأمر لا يحتاج إلى الكثير من الذكاء السياسي للتأكيد على ما ترمي إليه وزيرة الخارجية الأميركية من حيث"كيفية ترجمة نص القرار". كذلك قالت كلاماً غاية في الوضوح وفيه:"إن لبنان وصل إلى مرحلة التجميد السياسي حتى قبل هجوم حزب الله، وأعتقد أنه يمكن الجدل إذا كانت الأمور بدأت تتحرك بعد الحرب، بعضها للأمام وبعضها بشكل جانبي، لكنها بالتأكيد تحركت ولست متأكدة أن هناك شيئاً تحرك للخلف". وفي كلام وزيرة الخارجية الأميركية أكثر من موقف لافت، إذ لم يتوقف عرضها للواقع اللبناني كما تراه واشنطن عند هذا الحد بل حرصت على ضرورة استعجال القاضي الدولي سيرج براميرتز بإصدار تقرير نهائي ولذلك فهي تعتبر المعلومات التي أفادت بأن هذا الأمر قد يمتد إلى شهر حزيران يونيو المقبل"فترة طويلة"ومن المهم أن يتحرك براميرتز على أن يكون التقرير جاهزاً نهاية هذا العام. وهذه أوامر وليس تمنيات. وفي سياق الربط بين الأحداث التي تشهدها الساحة اللبنانية وأبعادها الإقليمية والدولية يمكن الإشارة إلى بعض المعلومات الفرنسية الصادرة عن باريس ومؤداها التالي:"إذا تصرفت إيران إيجابياً في لبنان فسوف ينعكس ذلك إيجاباً على محادثات الملف النووي". ومعلوم أن الرئيس جاك شيراك وبعد استقباله موفداً خاصاً من طهران بذل جهوداً واضحة مع الرئيس بوش بضرورة استبعاد إحالة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن والمضي في سياسية الحوار مع طهران، وهذا ما يجري حالياً. أين بدأنا هذا المقال وإلى أين وصلنا ؟ هل هنالك أي خروج عن الموضوع؟ على الإطلاق، فالأمور متشابكة ومترابطة ببعضها البعض لذلك لا يمكن الحديث عن أي اختراق أو عملية فض اشتباك بين ما يجري في لبنان وبين"الخارج"اللبناني الممثل بقوة في"الداخل"، وهذا الارتباط العضوي القائم. وفي بعض الكلام الأخير، الذي لا ينتهي عن لبنان الحاضر واستشراف بعض من المستقبل الآتي إليه أو عليه، العناوين البارزة التالية: - إن الصراع القائم هو بين قيام دولة لبنانية عصرية أم لا؟ وهو الأمر الذي لم يحدث منذ الاستقلال، أو بتعبير آخر: هل يمكن تصور قيام الدولة المقاومة بضم الميم وكسر الواو؟ أم أن المقاومة هي نقيض الدولة على طول الخط؟ - الكل يتحدث عن دولة قوية وعادلة و... و... وكل طرف يحاول استمالة هذا الفريق إلى مفهومه الخاص لها وتحديده لمقوماتها حتى لا نقول إلى..."دولته". - كيف يمكن التوفيق بين المقاومة المسلحة التي ركزت دائما وباستمرار سلاحها باتجاه إسرائيل ولم ولن تستخدم هذه السلاح في الداخل على الإطلاق... وبين المقاومة السياسية والديموقراطية ؟ - قلنا أن نتاج العدوان الإسرائيلي على لبنان يبدو الآن وكأنه"ملف أو قضية قيد الدرس"الحياة 17 ايلول سبتمبر 2006 ولا يجوز أن يبقى هذا"الملف معلقاً دون منحه هوية وطنية. - أنها نقطة ملتبسة وإشكالية كبيرة يجب العثور على صيغة تفاهمية حولها، حتى إذا حدث ذلك أمكن لملمة أطراف الوطن المشلع والمشرذم. - مطلوب إسقاط حملات التخويف المتبادلة بين مختلف الأطراف، ومن كان خارج الحكومة لا يعني أنه"خارج الوطن". وإذا كان الحكم ما زال يحمل مفهوم التشريف لا التكليف فما من أحد يعتبر معصوماً أو مستبعداً أو ممنوعاً عليه المشاركة في تحمل المسؤولية في هذا الظرف المصيري. - في العادة يتم التنصل من الهزيمة ويحدث التهافت على صانعي الانتصار، ولكن... هذه المرة إسرائيل تعترف بهزيمتها، وليس هناك حالة إجماع لبناني على نصر ماً تحقق! فماذا سيكون عليه الحال إذا ما وقعت الهزيمة فعلا؟ واحتراماً لضحايا الحرب من الشهداء الأموات منهم والأحياء، واعترافاً بفداحة دمار العدوان يجب التفاهم على تحديد تسمية واضحة، وربما جامعة في وقت لاحق، حول ما آلت إليه الحرب. ورمضان كريم ولبنان والأمة أفضل حالاً. * اعلامي وكاتب لبناني