دأبت التفسيرات التقليدية لأسباب انتشار الإسلام بين الأفارقة الأميركيين على الإشارة الى ظواهر مثل وجود الاسلام بين الأفارقة الذين استقدموا الى أميركا قسراً ضمن موجات تجارة العبيد، وارتباط المسيحية في عقليات بعض الأفارقة الأميركيين بالعنصرية البيضاء، باعتبارها عوامل رئيسة ساعدت على رواج الاسلام في شكل سريع وكبير في أوساط الأفارقة الأميركيين خلال النصف الثاني من القرن العشرين. شرمان جاكسون - الناشط المسلم الأميركي المعروف وأستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة ميشيغان الأميركية - له رأي آخر بهذا الخصوص، في كتابه"الإسلام والأميركي الأسود: نظرة في الإحياء الثالث"الصادر عن مطابع جامعة أوكسفورد الأميركية 2005، والذي يتوقع له أن يصبح - في المستقبل القريب - احدى الدراسات الكلاسيكية الضرورية في مجال دراسات الإسلام في أميركا. جاكسون يرى أن التفسيرات السابقة غير ديناميكية، بمعنى انها لا ترصد التطور التاريخي لعملية اعتناق الأفارقة الأميركيين للإسلام، ومراحل هذا التطور وعلاقاتها بعضها ببعض، وكيف أعدت هذه التطورات الأفارقة الأميركيين تدريجاً لاعتناق الاسلام بنسب مرتفعة في النصف الثاني من القرن العشرين. يرى جاكسون ان تتبع هذه التطورات بدقة يكشف عن تفسير مختلف لأسباب انتشار الإسلام بين الأفارقة الأميركيين، وهم محور اهتمام كتاب جاكسون الجديد كونهم أحد أهم أسباب انتشار الاسلام وترسخه في أميركا، فهم يمثلون نسبة كبيرة من المسلمين الأميركيين 30 - 40 في المئة وفقاً لمختلف الاحصاءات المتعلقة بالتوزيع العرقي لمسلمي أميركا، كما ان انضمامهم للاسلام بهذه الكثافة وحقيقة كونهم من أهل البلاد الأصليين جعلا منهم سنداً قوياً للاسلام بأميركا. في البداية يرفض جاكسون النظريات القائلة بأن أحد أسباب انتشار الاسلام في أوساط الأفارقة الأميركيين يرجع الى انتشار الاسلام وسط العبيد الأفارقة، حيث يشير جاكسون الى ان عدد الأفارقة المسلمين الذين استقدموا خلال موجات تجارة العبيد لم يتعد 40 ألفاً من بين 11 مليون أفريقي استعبدتهم تلك التجارة الشنيعة، ومن دون شك لم يتمكن هؤلاء العبيد من الحفاظ على هويتهم الإسلامية بحكم الضغوط الرهيبة التي تعرضوا لها. كما يرى جاكسون ان القول بأن الأفارقة الأميركيين اعتنقوا الاسلام لرسالته المعادية للعنصرية يمثل تفسيراً ناقصاً للظاهرة بحكم عدم تكرارها في مجتمعات عنصرية أخرى كجنوب افريقيا. في المقابل يرى جاكسون ان نظام العبودية ذاته والأسلوب الذي تعامل به المجتمع الأميركي مع الأفارقة الأميركيين والخبرات التي مروا بها تشكل معاً عوامل صنعت الشخصية الأفريقية الأميركية في شكل خاص وأعدتها تدريجاً لاعتناق الاسلام. ويشير جاكسون الى أن إعداد الأفارقة الأميركيين لاعتناق الإسلام تم على مراحل أو محطات تاريخية وثقافية فارقة، نلخصها هنا في مراحل ثلاث رئيسة. المرحلة الأولى هي مرحلة"الدين الأسود"، وهنا يرى جاكسون ان"الدين الأسود"هو أول دين اعتنقه الأفارقة في أميركا وأكثر النزعات الدينية انتشاراً في أوساط الأفارقة الأميركيين حتى يومنا هذا. الدين الأسود - في حقيقته - ليس ديناً بالمعنى المتعارف عليه، فهو دين بلا كتب سماوية أو مؤسسات أو رجال دين أو تعاليم بعينها، إذ يعد الدين الأسود - في جوهره - نزعة للتدين تلخص تجربة الأفارقة الأميركيين تحت نظام العبودية الأميركي وتبحث عن علاج ديني لمحنة العبودية الرهيبة ذات الآثار الراسخة في الشخصية الأفريقية الأميركية حتى يومنا هذا. بمعنى آخر"الدين الأسود"هو بمثابة نزعة للتدين راسخة في الشخصية الأفريقية الأميركية يعود اليها الأفارقة الأميركيون في شكل طبيعي وتلقائي في حالة عدم انتمائهم لدين محدد - كالمسيحية أو الاسلام - كما انه يمثل الاطار الفلسفي الذي يرتدون اليه لفهم الأديان المختلفة ومقارنتها. وهنا يصف جاكسون"الدين الأسود"بأنه يركز في جوهره على إيمانه بالعدالة الإلهية، ورفض الاضطهاد العنصري، وعلى وجود له يفهم معاناة الأفارقة الأميركيين ويقف في صفهم، كما يمد"الدين الأسود"الأفارقة الأميركيين بطاقة ورغبة دائمتين لمكافحة العنصرية والتمييز. ويرى جاكسون ان البيئة الأميركية ساعدت على ظهور"الدين الأسود"لأسباب مختلفة من بينها نظام العبودية القاسي الذي أدى الى انقطاع الأفارقة الأميركيين عن تراثهم الديني والثقافي الأفريقي، كما أشعر المجتمع الأميركي المتدين العبيد الأفارقة بحاجتهم لدين ولإله يحميهم وهم المستضعفون، ولما كانت البروتستانتية هي الدين الأكثر انتشاراً في أميركا، ولما كانت البروتستانتية ذات نزعة عقلانية ترفض الوساطة الدينية - كما هو الحال في الاسلام السنّي - تبنى"الدين الأسود"نزعات مشابهة، إذ رفض"الدين الأسود"الوثنية ومال الى البحث عن إله. كما ساعدت البروتستانتية - التي اعتنقها الأفارقة الأميركيين في شكل متزايد في النصف الأول من القرن التاسع عشر - على تقوية نزعة الأفارقة الأميركيين للمعارضة والتحدي والبحث عن دين خاص بهم وهي نزعة تمثل ركيزة اساسية ل"الدين الأسود"، وذلك بحكم ان البروتستانتية هي بطبيعتها حركة قامت لمعارضة التيار الديني السائد داخل المسيحية. المرحلة الثانية هي مرحلة المسيحية، والتي أقبل عليها الأفارقة الأميركيين في شكل متزايد في القرن التاسع عشر، وهنا يرى جاكسون ان اعتناق الأفارقة الأميركيين للمسيحية أعدهم لدرجة ما لاعتناق الإسلام، وذلك بسبب سيطرة الدين الأسود على الأفارقة الأميركيين خلال الفترة ذاتها. وهنا يرى جاكسون ان علاقة"الدين الأسود"بالمسيحية ظلت علاقة"زواج"لا علاقة"ذوبان"الأول في الثاني، وان هذه العلاقة أثرت في علاقة الأفارقة الأميركيين بالمسيحية على مستويات عدة مهمة. إذ أضفى الدين الأسود على بروتستانتية الأفارقة الأميركيين طابعاً ثورياً واضحاً ضد العنصرية الأميركية حافظ على استقلال الكنائس السود عن الكنائس البيض داخل البروتستانتية الأميركية ذاتها، كما أضفى"الدين الأسود"على البروتستانتية السود نزعة غير فقهية، مالت فيها الكنائس السود الى تفسير المسيحية على هواها في شكل يدعم مواقفها ضد العنصرية ويبتعد الى حد كبير عن التراث الفقهي المسيحي في شكل أزعج الكنائس الأميركية البيض. على مستوى آخر، حافظ الدين الأسود على طبيعة الأفارقة الأميركيين المحافظة اجتماعياً، كما دفعهم في شكل دائم للبحث عن تراث حضاري خارج التراث الحضاري الأوروبي المسيطر على المسيحية الأميركية، وهو ما ظهر في اهتمام الحركات الثقافية الافريقية الأميركية بقارة افريقيا على اساس انها مهدهم الحضاري. أما المرحلة الثالثة، فيسميها جاكسون مرحلة"المؤسلمون الأوائل"، فقد شهدت نشأة الجماعات الأفريقية الأميركية التي وصفت نفسها بأنها مسلمة، وعلى رأس هذه الجماعات جماعة"أمة الإسلام"برئاسة آلاجيا محمد. ويقول جاكسون ان هذه الجماعات لم تعتنق الإسلام ولكنها سطت عليه لرغبتها في البحث عن دين خاص بها يميزها عن المسيحية الأميركية التي يسيطر عليها البيض، لذا لم تهتم هذه الجماعات بفهم الاسلام بقدر ما اهتمت بالسطو على رموزه الخارجية ونسبتها لنفسها. ويشير جاكسون الى ان هذه الجماعات بدأت في الظهور في أوائل القرن العشرين وفي الولايات الشمالية الأميركية خصوصاً في المدن الكبرى وبين أبناء الطبقة السفلى من الأفارقة الأميركيين، بسبب شعور هذه الطبقات بالاغتراب في مدن الشمال الأميركي. إذ قدر التعداد السكاني الأميركي لعام 1900 ان 90 في المئة من الأفارقة الأميركيين يعيشون في ولايات الجنوب، ولكن مع اندلاع الحرب العالمية الأولى هاجرت أعداد كبيرة من الأفارقة الأميركيين لولايات الشمال بحثاً عن وظائف وفرص معيشة أفضل. وبمرور الوقت سيطر على هذه الجماعات المهاجرة وخصوصاً الطبقات الفقيرة منها شعور قوي بالاغتراب عن سود الجنوب وعن الكنائس المسيحية التي زادت من تقاربها مع الكنائس البيض، كما شعروا بالاغتراب - ولو بدرجة أقل - عن الدين الأسود. وهنا يرى جاكسون ان العوامل السابقة مجتمعة أوجدت حالة فراغ ديني وسط سود مدن الشمال الأميركي، وهي فجوة أسرع الى شغلها"المؤسلمون الأوائل"من خلال عملية سطو فكري تاريخية على الاسلام. وهنا يصف جاكسون كيف أهلت الخبرات السابقة معتنقي الاسلام"الأوائل"معللاً ذلك بأسباب عدة لا تخلو من تميز وإبداع، حيث يرى جاكسون ان"المؤسلمين الأوائل"وجدوا ان الاسلام يتضمن عدداً كبيراً من الخصائص التي يمكن أن تشبع حاجات الأفارقة الأميركيين الدينية والتي كونوها خلال المراحل السابقة. فالمؤسلمون الأوائل كانوا يبحثون عن دين أفريقي، فوجدوا الاسلام افريقيا، كما كانوا يبحثون عن دين غير أبيض أو غير أوروبي على الأقل، فوجدوا الاسلام كذلك، كما بحثوا عن دين له تاريخ في المقاومة، فوجدوا الدول المسلمة مستعمرة تقاوم الغرب، فأعجبوا بدينها، كما بحثوا عن دين له تاريخ حضاري كبير مستقل عن الحضارة الأوروبية، ولم يخيب الإسلام ظنهم في هذا الشرط المهم. كما بحثوا عن دين محافظ اجتماعياً، والاسلام كذلك، وبحثوا عن دين يؤمن بفكرة الأخوية بين أبنائه وهي فكرة منتشرة بين الأفارقة الأميركيين، فوجدوا الاسلام كذلك، كما بحثوا عن دين له اهتمام خاص بقضايا العدالة الاجتماعية، فأعجبوا بحديث القرآن المتواصل عن قصة موسى عليه السلام، كما بحثوا عن دين بلا هيراركية ومؤسسات دينية، فوجدوا السلطة في الإسلام لا مركزية، مما قد يحقق حلمهم في امتلاك دين خاص بهم يسيطرون عليه، ومع توافر كل هذه الشروط لم يتردد هؤلاء في الاقبال على الإسلام. ويتابع جاكسون ان"المؤسلمين الأوائل"- على رغم ما قد يوجه لهم من نقد ديني - ساهموا إسهاماً كبيراً في نشر الإسلام والمعرفة به في أوساط الأفارقة الأميركيين مما سهل عملية اعتناق الإسلام السنّي بنسب مرتفعة في عقد الستينات من القرن الماضي والذي شهد زيادة أعداد المسلمين المهاجرين في العالم الإسلامي، وتحول بعض قادة الجماعات الافريقية الأميركية المتأسلمة - مثل الزعيم الأفريقي الأميركي المعروف مالكوم إكس - الى تيار الإسلام السنّي. بناء على الفهم السابق لأسباب انتشار الإسلام في أوساط الأفارقة الأميركيين يطالب شرمان جاكسون المسلمين الأميركيين خصوصاً والمعنيين بنشر الإسلام في أميركا عموماً بثلاثة مطالب اساسية، أولها فهم العلاقة بين الثقافة الأفريقية الأميركية والإسلام وكيف اثرت هذه العلاقة في انتشار الاسلام في أميركا، وثانيها فهم التأثيرات السلبية والايجابية لهذه العلاقة في الاسلام في أميركا، وهنا يرى جاكسون ان انتشار"الدين الأسود"في أوساط الأفارقة الأميركيين له تأثيرات سلبية في الاسلام في أميركا مثل المبالغة في التركيز على قضايا العرق والعنصرية بين الأفارقة الأميركيين المسلمين ونشر المشاعر الانعزالية والانهزامية في أوساطهم. على الجانب الايجابي يمد"الدين الأسود"الأفارقة الأميركيين بنزعة استقلال قوية تساعدهم على الحفاظ على استقلال هويتهم داخل المجتمع الأميركي مما قد يساعدهم على الحفاظ على استقلالية هويتهم المسلمة الأميركية في مواجهة قوى الصهر داخل الثقافة الأميركية، كما ان الدين الأسود يمثل جسراً قوياً يربط الأفارقة المسلمين بجموع الأفارقة الأميركيين غير المسلمين. أما المطلب الثالث والأهم فهو ضرورة ان يحرص المسلمون الأميركيون على فهم الأبعاد الثقافية للهوية الأفريقية الأميركية المسلمة في شكل يمكنهم من مشاركة الأفارقة الأميركيين همومهم ومشكلاتهم الداخلية والتعاون معهم في إيجاد حلول لتلك المشكلات - وخصوصاً تحدي تحقيق العدالة الاجتماعية - في شكل يضمن تقوية الصف المسلم الأميركي والحفاظ على معدلات انتشار الإسلام في أميركا. * باحث عربي مقيم في واشنطن