"روسيا اليوم أشبه بدُب وجد نفسه في قفص ضيق بعدما كان الرحب أرضه والسعة تجواله. المشكلة أن إخراج هذا الدب من قفصه ليس بتلك السهولة التي عادة ما يخرج بها الدب من مأزقه في حكايات الأطفال"غارنيت 1997. لأن السياسات الأوروبية تتعلم من خبراتها التاريخية، ولأنها تطبق حكمة التاريخ أكثر مما تستدعيها بأثر رجعي، فإن الأوربيين لا يكررون مع روسيا الخطأ الذي اقترفوه مع ألمانيا في أعقاب خروجها منهزمة من الحرب العالمية الأولى، حين حبسوها في قفص جغرافي فانفجرت منه تنتقم في كل اتجاه. يأتي استيعاب روسيا في مجموعة الدول الصناعية الكبرى كوسيلة ناجحة لترضينها، في وقت يموج فيه العالم بحثاً عن قطب ثان يعيد التوازن في القوى الدولية. وهذا الاستيعاب وتلك الترضية يمثلان إحدى التنويعات التي اتفقت الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية ولكل أهدافه ومبرراته على استخدامها لمد الجسور مع روسيا حتى تشتبك مع العالم"المتحضر"بالتزامات قانونية وأدبية، قبل أن تسترد توازنها وتستحيل قوة كبرى من جديد. هل لنا أن نتخيل روسيا الغد بكل طموحات القوى العظمى - وهو أمر آت لا محال - من دون أن ندرك الحمل الثقيل الذي التزمت به بعد أن باتت عضواً في حلف الناتو، ومشاركاً أساسياً في سياسات الاتحاد الأوروبي، وحاضراً على الدوام في لقاءات القمم العالمية، مع وضع جديد اليوم، هو ترؤسها ? ولسنة كاملة - مجموعة الدول الصناعية الثماني؟ نمو الاقتصاد الروسي تمكنت روسيا بعد الأزمة التي عصفت بنظامها الاقتصادي في آب أغسطس 1998 من قطع خطوات واسعة نحو إعادة البناء، على رغم كل مشكلات الفساد، وتهريب الأموال إلى الخارج، وتفشي اقتصاد الظل. وهي تدخل عامها الجديد الآن بحصاد ست سنوات متواصلة من النمو الاقتصادي الذي بلغ معدله 6.5 في المئة سنوياً. وقد اتفقت دول المجموعة الصناعية على تقديم عدد من المنح والإعانات لروسيا، أقلها ما تقدمت به الولاياتالمتحدة في عام 2004 ببليون دولار، وأعلاها ما رصدته دول المجموعة الصناعية نحو 20 بليون دولار لتتخلص موسكو من الترسانة النووية التي خلفتها الفترة السوفياتية، وتوظيف العلماء السوفياتيين والروس قبل أن يقعوا فريسة الإغراء المادي من قبل"منظمات إرهابية معادية". وتأتي ألمانيا كأهم شريك أوروبي يقدم المنح لروسيا في حدود نصف بليون دولار في شكل غير منتظم كل بضع سنوات، وهي أكبر شريك تجاري لها في القارة الأوروبية في الوقت ذاته. وقد ساعدت سنوات النمو الاقتصادي منذ انهيار 1998، فضلاً عن ارتفاع أسعار النفط منذ غزو العراق في 2003، في تمكين روسيا من سداد أقساط ديونها الخارجية البالغة نحو 170 بليون دولار في شكل منتظم. وبعد أن كان سداد الديون يستهلك 90 في المئة من إجمالي الناتج المحلي خلال تسعينات القرن الماضي، تقلصت هذه النسبة في السنوات الخمس الأخيرة إلى نحو 30 في المئة. وانعكس كل هذا في أن روسيا خطت خطوة مهمة إلى الأمام فزادت من احتياط النقد الأجنبي من نحو 10 بلايين دولار إلى 120 بليوناً. وبينما تبدو الفجوة كبيرة بين جذور النظام الرأسمالي في دول المجموعة الصناعية ونظيرتها في روسيا، فإن السنوات الست الأخيرة تمضي في صالح روسيا. ويتضح من الشكل البياني المرفق - الذي أعددناه بحساب متوسطات بعض المؤشرات الاقتصادية لعام 2005 - عن تفوق روسيا في كل من المعدل السنوي لنمو الناتج المحلي GDP ونمو الناتج الصناعي. غير أن الشكل يوضح بجلاء معاناتها من ارتفاع نسبة السكان الذين هم دون خط الفقر، وارتفاع نسبة البطالة، وتدني مستوى الاستثمار. وفي خصوص القضية الأخيرة، يلاحظ أنه لولا اهتزاز الثقة في مناخ الاستثمار الروسي بعد تصفية شركة يوكوس النفطية واعتقال رئيسها ميخائيل خودركوفسكي في عام 2003 - فيما عُد أوروبياً ردة إلى العهود السوفياتية - لكان الاقتصاد الروسي استمر في استقطاب نسبة متزايدة من الاستثمارات الأوروبية والأميركية لينتعش بدرجة كبيرة. المشكلة الرئيسة في الاقتصاد الروسي أنه عرضة للاهتزاز، وربما للانهيار، بسبب اعتماد الدولة في 80 في المئة من مصادره على تصدير النفط ومشتقاته. ولا ينبع الخوف هنا من تأرجح أسعار النفط في السوق العالمية بين يوم وليلة فحسب، بل من توقعات بنفاد النفط الروسي في غضون فترة تتراوح بين 15 و 40 سنة. المؤهلات الأمنية التحقت روسيا بمجموعة الدول الصناعية الكبرى الولاياتالمتحدة، كندا، فرنسا، المملكة المتحدة، ألمانيا، إيطاليا، واليابان بمؤهلات عسكرية في المقام الأول، ليس فقط لامتلاكها أكبر ترسانة نووية يخشى أن تستغل ضد الغرب، بل كانت الخشية الأكبر أن يساء استخدام هذه الأسلحة من قبل عصابات المافيا أو جماعات فاسدة في السلطة، فتصل إلى أيدي غير المرغوب فيهم من دول ذات جيوش وترسانات أو جماعات إسلامية متطرفة، وخصوصاً أن روسيا تتلامس مع منطقة تشهد فراغاً في القوى الإقليمية، من أفغانستان إلى إيران ومن طاجيكستان إلى الشيشان. كما أن روسيا تشكل للدول الصناعية عنصراً أساسياً في أمن الطاقة العالمي، بقدراتها الإنتاجية الضخمة، كصاحبة أكبر مخزون للغاز في العالم 47 تريليون متر مكعب وثاني مصدر للنفط بعد السعودية بإنتاج يومي مقداره 9.4 مليون برميل وبشبكة تصديرية للنفط والغاز تصل إلى أغلب بقاع الخريطة الأوروبية. ومن المفيد أن نتذكر أن الدور الذي تلعبه روسيا في تأمين الطاقة لمجموعة الدول الصناعية، يتفق تماماً مع جذور نشأة هذه المجموعة التي قامت بعقد أولى اجتماعاتها في فرنسا عام 1975 كرد فعل لارتفاع أسعار النفط مع حرب تشرين الأول أكتوبر 1973. ومن المفيد التذكر أن مع تفكك الاتحاد السوفياتي بدأت المجموعة الصناعية مراحل جس نبض روسيا التي تنازعتها القوى الشيوعية والليبرالية، ووجهت إليها خلال التسعينات من القرن العشرين، دعوة للمشاركة في اللقاءات السياسية وليس الاقتصادية للمجموعة، في خطوة تشجيعية لانتشالها، برئاسة بوريس يلتسين، من الانتكاسة التي بدت وشيكة من عودة الشيوعية، ولدعم الإصلاحات السياسية لنقلها إلى اقتصاد السوق. توقع مراقبو العلاقات الروسية الغربية أن تظل صفة المراقب التي منحت لروسيا في النصف الأول من التسعينات فاعلة حتى يثبت الاقتصاد الروسي أهليته، ويرسخ أقدامه فتتحول روسيا بأمان إلى دولة ديموقراطية ورأسمالية. لكنها انتقلت منذ عام 1998 إلى العضوية شبه الكاملة على رغم عدم تحقيقها إقتصاداً رأسمالياً، وعلى رغم الانتكاسة التي منيت بها في مساحات الحرية السياسية. ومن ثم فقد تحول اسم المجموعة ومنذ مطلع الألفية الجديدة من سبعة زائد واحد أي دول المجموعة السبع إضافة إلى روسيا إلى مجموعة الدول الثمانية. وفي عام 2002 وجه التكليف الرسمي للرئيس فلاديمير بوتين لتترأس بلاده الاجتماع الحادي والثلاثين في يوليو من عام 2006، واختارت روسيا نافذتها على أوروبا - مدينة سان بطرسبرغ - مقراً للاجتماع. لماذا يعترضون؟ لم يعد شيقاً قراءة ما يقارن فيه البعض بين مكانة روسيا في تقرير الشفافية الدولية، وبين ترؤسها مجموعة صناعية من بين أهدافها محاربة الفساد. فقد بات مكرراً صدور عشرات المقالات والدراسات التي ازدحمت بها مراكز الأبحاث الغربية للإجابة عن سؤال طرح نفسه هو: هل لروسيا الأهلية للانضمام إلى مجموعة الدول الصناعية الكبرى؟ وقد أجمعت غالبية المعالجات على النفي، اعتماداً على تدني مستوى الدخل الفردي مقارنة بنظيره لدى دول المجموعة، وتدخل الحكومة الروسية في المشروعات الاقتصادية، وتصفية الشركات الخاصة المنافسة للقطاع الحكومي، وانتهاكات حقوق الإنسان في الشيشان، حتى تحدثت وسائل الإعلام الغربية عن محاكمات لجرائم الحرب وإن كانت القضية الأخيرة غدت من حكايات التاريخ بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر. وعلى رغم الاختلاف الكبير في مستوى المعيشة بين المواطن الروسي ونظيره في الدول الصناعية، لدرجة تجعل هجرة الروسي إلى أي من هذه الدول حلماً جميلاً، وعلى رغم الفرق الشاسع في مستويات الديموقراطية بين روسيا وبقية دول المجموعة، لدرجة يمكننا معها المقارنة بين دولة الحزب الواحد ودول التعددية الحزبية، إلا أن أوجه شبه عدة تجمع روسيا بهذه الدول. فالدول الصناعية السبع تتخذ من ديونها لدى مستعمراتها السابقة في آسيا وأفريقيا موضوعاً للتأكيد على"إنسانية"المجموعة. وروسيا بدورها ليست غريبة عن هذا المناخ، فلها ديون ضخمة لدى كثير من دول الاتحاد السوفياتي السابق، وكثير من دول العالم الثالث، وقد مارست بالفعل دورها"الإنساني"حينما أعلنت عن استعدادها إسقاط غالبية ديون العراق لها، كما أسقطت بالفعل في العام الماضي عن سوريا عشرة بلايين دولار ديوناً سوفياتية سابقة. ومن زاوية أخرى، فإن سعي الدول الصناعية السبع للمساعدة في محاربة الإيدز في أفريقيا، يناظره معاناة روسيا وبعض دول الاتحاد السوفياتي السابق من ارتفاع معدلات الإصابة بهذا المرض، فضلاً عن الآفات المرتبطة بأمراض تعاطي الكحوليات، حتى أن روسيا تصنف كواحدة من اكثر دول العالم إصابة بالإيدز خارج القارة الأفريقية، وواحدة من أعلى دول العالم إصابة بالأمراض المرتبطة بتعاطي الكحوليات والمخدرات. ومثل دول صناعية عدة ، لدى روسيا مشكلات ديموغرافية متفاقمة نجمت عن تناقص عدد السكان بمعدلات خطرة، وتحتاج إلى خبرة الدول الأوربية في مجابهتها. ولتلك الأبعاد الصحية والديموغرافية آثارها على كفاية القوة العاملة في روسيا من ناحية، وارتفاع معدلات الإنفاق على قطاع الرعاية الطبية من ناحية ثانية، وفتح البلاد ? وهو الأهم - أمام هجرات خارجية لسد الفراغ في سوق العمل، ومن ثم اختلال الهرم السكاني من ناحية ثالثة. وإضافة إلى ما سبق، تقدم روسيا خدمة جليلة للدول السبع كونها - بتعبير الرئيس بوتين -"أكثر قدرة على الشعور بمشكلات عشرات الدول في العالم التي تعيش الاقتصاد الانتقالي"ومن ثم فإنها تلعب هنا دور حلقة وصل بين الأغنياء والفقراء. وعلى رغم الدور الاقتصادي لمجموعة الدول الثماني، إلا أن ملف الإرهاب هو المسؤول عن نقل روسيا من دور المراقب في لقاءات القمة إلى عضو كامل الفاعلية، وذلك لأهمية موقعها على خطوط التماس مع مناطق"صناعة"الإرهاب في أوراسيا، ووقوفها في خندق واحد مع دول آسيا الوسطى والقوقاز في محاربة صعود الحركات الإسلامية المسلحة. وفي النهاية، تجب متابعة المشهد الذي تستعد فيه مدينة سان بطرسبرغ لاستقبال زعماء الدول الثماني في تموز يوليو المقبل، وهو مشهد سيزيد من سخونته انطلاق دعوات مناهضي العولمة بحشد الجماهير من أنحاء العالم كافة للاعتراض على سياسات الدول الصناعية التي أصابت مناخ العالم بكوارث التلوث، وتسببت في تغيير درجات حرارته، وتفننت في المتاجرة بأمراض وعوز الدول الفقيرة، وكرست عولمة الأقلية الغنية ضد الغالبية المسلوبة. هل ستسمح روسيا ، ولديها قوانين صارمة ضد التجمهر وقبضة حديد ضد المعارضة، بمشهد يهتف فيه عشرات الآلاف في شوارع بطرسبرغ؟ انتظروا روسيا الجديدة. * أستاذ الجغرافيا المساعد في جامعة القاهرة.