حسن جدا أن تُبذل جهود عربية سعياً إلى وقف التأزم السوري - اللبناني المتزايد. هذه الجهود تأتي متأخرة بعد أن نقل اغتيال الصحافي والنائب جبران تويني التأزم إلى مرحلة أخطر. لكن أن تأتي متأخرا خير من ألاّ تأتي على الإطلاق. وبات هذا القول المأثور شعارا ضمنيا للنظام العربي الرسمي يحاول التمسك به بمقدار ما يستطيع لأنه، مرات كثيرة، لا يتحرك أصلاً، سواء مبكرا أو متأخرا. وقد أخذ الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى المبادرة في هذا التحرك غداة اغتيال تويني، عبر زيارة قام بها إلى دمشق وبيروت من دون انتظار إجراء مشاورات مع القادة العرب. وأعقبت ذلك زيارة الرئيس بشار الأسد إلى مصر، فيما أعلنت الخرطوم، بعد اتصالات مع القاهرة، ما أسمته مبادرة للمصالحة بين سورية ولبنان انطلاقا من مسؤوليتها في الإعداد للقمة العربية المقبلة في آذار مارس المقبل. وبغض النظر عن فرص نجاح هذه الجهود، فهي أفضل من الاكتفاء بالكلام وأجدى من الإغراق في الخوف على سورية. فالواضح أن معظم الخائفين إنما يخافون من أميركا أكثر مما يخافون على سورية. ولو أن الخوف هو على سورية، وليس من قوى خارجية في المقام الأول، لوجدنا علامات تدل على قلق - مثلا - من عدم وجود أي أفق لإصلاح سياسي. فالأزمة الراهنة نتاج بيئة داخلية سورية تأخر الإصلاح الضروري لها كثيرا. فالمؤسسة الأمنية الطاغية في سورية قد تكون هي المصدر الأول للأزمة، والعامل الأول أيضا وراء ضعف موقف نظام الحكم في دمشق. فقد اتجهت أصابع الاتهام فور اغتيال رفيق الحريري إلى هذه المؤسسة بسبب سجلها المعروف عنها في سورية، وفي لبنان. وهي قد تكون بريئة من هذا الاتهام الذي لم يثبت قطعيا بعد. لكن القليلين في لبنان، وفي العالم، هم الذين يرون ذلك. غير أن الكثيرين الذين لا يتصورون إمكان براءة سورية تتباين تقديراتهم في شأن تورطها. هناك من يعتقدون في أن قرارا في حجم اغتيال الحريري لا يمكن إلا أن يصدر من قمة نظام الحكم. لكن هناك من يرجحون عدم مسؤولية رأس النظام وكثيرين من أركانه، على أساس أن المؤسسة الأمنية ذات النفوذ القوي في هذا النوع من نظم الحكم تكتسب استقلالا في حركتها في بعض المجالات التي تنشأ لها فيها مصالح خاصة. وهناك شواهد على ذلك في نظم شمولية وأخرى تسلطية من الاتحاد السوفياتي السابق في عهد ستالين إلى مصر في عصر عبد الناصر، مع الفرق الكبير في نوع الجرائم وحجم الانتهاكات الأمنية لحياة الناس وحرياتهم. ويعرف المطلعون على ملابسات الوجود السوري الطويل في لبنان، ما ظهر منه وما خفي، أن قوى أساسية في المؤسسة الأمنية السورية راكمت مكاسب خاصة هائلة. هذه المكاسب تدعم فكرة الاستقلال النسبي لهذه القوى الأمنية عن نظام الحكم في ظروف معينة. وبغض النظر عن مطابقة هذه الفكرة للواقع في حال سورية ومؤسستها الأمنية إزاء لبنان، كان من شأن الشروع في إصلاح سياسي يقلص - بطابعه - دور هذه المؤسسة أن يحدث تغييرا في التفاعلات الدولية المتعلقة بالأزمة. وأحد الاتجاهات المحتملة لهذا التغيير هو تعزيز مركز نظام الحكم السوري، ليس فقط لأنه سيبتعد أكثر عن دائرة الاتهام في قضية اغتيال الحريري، وفي سلسلة الاغتيالات ومحاولات الاغتيال وصولا إلى جبران تويني، ولكن أيضا لأن الإصلاح يوجه رسالة ضمنية تفيد بأن هذا النظام مستعد لمحاسبة أي مسؤول سوري يثبت تورطه، وقادر على ذلك. فأيا يكن ما يقوله رأس النظام السوري وأركانه في هذا المجال، يعرف الجميع أن المسؤولين الكبار المشتبه في تورطهم وفق مسار التحقيق الدولي حتى الآن هم بعض أعمدة المؤسسة الأمنية السورية. كما يعرف الجميع أن هذه المؤسسة هي الآن عماد نظام الحكم في دمشق، وأنها تهيمن على ما عداها من مؤسسات مدنية حزبية وبرلمانية وحكومية. ومؤسسة أمنية بهذه القوة يصعب تصور أن يقدر النظام على التضحية ببعض أهم أركانها. لذلك يظل حديث الاستعداد لمعاقبة أي مسؤول يثبت تورطه فاقدا الصدقية ما لم يحدث إصلاح في أفق تحويل سورية من دولة أمنية إلى دولة لمواطنيها. ولذلك يبدو هذا الإصلاح سبيلا لإنقاذ سورية من ضغوط يمكن أن تتصاعد ضدها في الفترة المقبلة. ولا يستطيع أحد في العالم العربي مساعدة سورية في تجنب هذه الضغوط ما لم تساعد نفسها عبر الشروع في إصلاح تشتد حاجتها إليه. ولا يملك العرب الخائفون على سورية، أو من القوى التي تهدد بفرض عقوبات عليها، شيئا يفعلونه والحال هكذا. ويعرف أركان نظام الحكم في دمشق ذلك. ولهذا لم يتحمسوا لعقد قمة عربية، سواء موسعة أو مصغرة، لا طائل من ورائها. لكن غياب العون العربي على صعيد عملي لا يعني أن سورية لن تجد عونا. فقد يأتيها هذا العون، ويا للمفارقة، من إسرائيل، أي من حيث لم تتوقع. فهناك قلق شديد في معظم الدوائر السياسية والأمنية الإسرائيلية من عمل عسكري ضد سورية لأن الاحتمالات التي يرونها ممكنة في حال انهيار نظام الحكم الحالي في دمشق تبدو سيئة في مجملها. وكانت هذه الاحتمالات موضع نقاش مكثف، حسب تقارير صحافية إسرائيلية وأميركية، خلال جولة الحوار الاستراتيجي بين الطرفين في واشنطن في مطلع الشهر الماضي. وأول هذه الاحتمالات التي تُقلق إسرائيل أن يستولى"الإخوان"وقوى أصولية أخرى على السلطة في دمشق باعتبارهم القوة الأكبر في أوساط المعارضة السورية. والاحتمال الثاني هو حدوث فوضى على النمط العراقي قد تنشب في ظلها حرب أهلية أو تنشأ مقاومة من نوع ما يحدث في العراق تنال إسرائيل نصيبا من ضرباتها. أما الاحتمال الثالث فهو وصول قيادي متشدد من الطائفة العلوية إلى السلطة في ظروف قد تدفعه إلى المغامرة على الصعيد الإقليمي. وفي كل الأحوال ستفقد إسرائيل الهدوء الذي تنعم به على حدودها مع سورية. هذا الهدوء المعرض للانحسار في حال حدوث تغيير غير محسوب في سورية يجعل إسرائيل في موقف يختلف كثيرا، بل ربما جذريا، عما كانت عليه قبل الحرب على العراق. لذلك فهي، الآن، تحث الأميركيين على التحلي بالحكمة في إدارتهم للأزمة السورية، وهي التي لعبت دورا يعتد به في دفعهم إلى حرب على العراق من دون حكمة كافية. اختلف موقف إسرائيل، لأن الأمر مختلف هذه المرة بالنسبة إلى أمنها ومصالحها. مختلف لأن أي اضطراب في سورية يؤثر على إسرائيل، ولأن تجربة الأميركيين في العراق لا تشجع على الثقة في أدائهم. تخشى إسرائيل عملا عسكريا يضع سورية بين يدي قوى أصولية حليفة لحركة"حماس"تحكمها أو تقيم على أرضها قواعد انطلاق في حال نشوب فوضى. وإذا كانت إسرائيل لا تخشى فرض عقوبات مشددة على سورية، فهي تحسب حسابا لهشاشة وضعها الاقتصادي وتخاف أن تتفاقم مشكلاتها الداخلية فتقود إلى تغيير في إطار النظام يؤدي إلى وضع أسوأ بالنسبة إليها الاحتمال الثالث. فهل وصلت مفارقات الشرق الأوسط المضطرب إلى حد أن تضطر إسرائيل إلى توفير مظلة تنقذ سورية من تصعيد أميركي ينتظرها؟! حازم الأمين بينما كان محدثي العراقي يروي لي تفاصيل التجاذبات التي ترافق الكثير من الوقائع السياسية العراقية اليوم، من كتابة الدستور الى قانون الانتخابات الى الفيديرالية وتوزيع الثروة النفطية، انقشع أمامي فجأة مشهد موازٍ على نحو مقلق... انه المشهد الللبناني. الفيتو الأقلي الكردي في العراق الذي استُعمل في نقاش قضايا الفيديرالية وتوزيع الثروة، يشبه الى حد كبير الفيتو الشيعي اللبناني الذي يُستعمل اليوم في قضايا المحكمة الدولية ومزارع شبعا وغيرها. والوضع الميليشوي المحصن ب"شرعية انتخابية"يشترك فيه البلدان. وسبق ان ظهرت تشابهات اخرى قد تصيب مجتمعات ودولاً مختلفة في المنطقة، كإفضاء الانتخابات الى مآزق بدل تبديدها، علماً ان الحالة الفلسطينية لا تقل شبهاً بهذه المعادلة، وفوز"حماس"في الانتخابات سيعني بالضرورة تشريعاً للسلاح الفالت من عقال الدولة والقانون. انها مجتمعات ما قبل الدولة الحديثة. أن يفوز"حزب الله"في الانتخابات اللبنانية بمقاعد الشيعة اللبنانيين، فهذا يعني ان سلاح الحزب هو الذي انتخب ايضاً. حقيقة ان الانتخاب يحصل في مجتمع ما بعد السلاح وما بعد احتكار السلطة للعنف، ما زالت خارج وعينا الاقتراعي. الأمر نفسه يحصل في جنوبالعراق، حيث تعتبر الميليشيات الشيعية ان إمساكها بالشارع يستمد شرعيته من فوزها في الانتخابات. اذاً، من الممكن لتقنية الانتخاب الغريبة عن تاريخنا الثقافي ان تشكل عبئاً وسبباً بديلاً للحروب الأهلية. ما يجري في لبنان ساطع لجهة تأكيده هذه الحقيقة. مأزق اللبنانيين اليوم هو ان الشيعة انتخبوا"حزب الله". ومأزقهم ايضاً اننا في ظل الوعي المتخلف لمعنى الدولة يمكننا ان نفهم هذا الانتخاب بصفته تفويضاً يتعدى ما تفوض الانتخابات به عادةً القوى المنتخبة. السلاح امر لا يُقترع له، بل على العكس من ذلك: فوظيفة الاقتراع تعني، بين ما تعنيه، قوننة العنف واخضاعه لمعايير الدولة وضبطه في حدودها. ربما شكل هذا الكلام هذياناً في الحالة اللبنانية، فاللبنانيون اليوم ليسوا في نقاشات من هذا النوع، والنقاش دائر حول نقطة الوظيفة الوطنية او الإقليمية لسلاح"حزب الله". لكن يجب ان ننتبه الى ان هذا النقاش هو نفسه الذي يدور في الأراضي الفلسطينية. اي الفارق بين الوظيفة الوطنية والوظيفة الإقليمية لسلاح حماس والجهاد الإسلامي. فثمة اجندات وطنية لا تعتبر هذه التشكيلات الإسلامية نفسها جزءاً منها. تشكل ايران عنصراً ثابتاً في حالات تصدع الوطنيات الثلاث اللبنانية والفلسطينية والعراقية، وكذلك سورية وإن على نحو مختلف ومتفاوت. فأن يعلن مصدر فلسطيني رسمي ان لدى السلطة الوطنية دلائل وتسجيلات تؤكد تورط ايران في التحريض على العنف في الأراضي الفلسطينية، فهذا امر يستدعي التوقف عنده، خصوصاً ان من كشفه مصدر في السلطة الفلسطينية وليس اسرائيل. وحقيقة النفوذ الأمني والسياسي الإيراني في جنوبالعراق وفي بغداد ايضاً أمر مثبت يؤكده اعتقال المئات من عناصر الحرس الثوري الإيراني في بغداد وغيرها من المدن العراقية. اما علاقة حزب الله اللبناني بإيران فهي ما لا ينفيه الحزب اصلاً. ومن السهل جداً، ومن نافل القول، ترديد قرائن اخرى تثبت علاقة السوريين بتصدع الوطنيات الثلاث هذه. لكن تقاطع الدورين السوري والإيراني عند نقطة تصديع هذه الوطنيات يفرز احياناً مفارقات من المفترض ان تفضي الى مناعة حيال هذه الأدوار، الا انها لا تفعل ذلك! في العراق مثلاً الدعم الإيراني واضح للجماعات الشيعية. وهذه الجماعات نفسها سبق ان اعلنت ان هناك دوراً سورياً في إمداد التنظيمات الزرقاوية بالمقاتلين والانتحاريين، علماً ان التنظيمات الشيعية المدعومة ايرانياً وجمهورها العريض تشكل اهدافاً معلنة للجماعات الزرقاوية. غير أن هذا لم يمنع تقاطع الدورين السوري والإيراني في العراق، او تكاملهما. على المستوى اللبناني تلوح مفارقة مشابهة. فقد اعلن تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين في بيان له انه هو من اقدم على اطلاق صواريخ الكاتيوشا من جنوبلبنان الى شمال اسرائيل بداية الأسبوع الجاري. ترجيح عدم صحة هذا الكلام لا يلغي حقيقة ان ثمة من يريد اقحام القاعدة في المعادلة اللبنانية. لكن أن تصل القاعدة الى منطقة نفوذ حزب الله وأن تعمل فيها، فهذا ما يطرح الكثير من التساؤلات. فالحزب الذي سعى ونجح في الكثير من الأحيان في إبعاد شبهة الإرهاب عن نشاطه في جنوبلبنان سيكتشف ان حلفاءه"الإقليميين"يسعون من جديد لإقحامه في هذه الشبهة من طريق تحويل جبهته الى منطقة نشاط للزرقاويين تختلط فيها"المقاومة"بالإرهاب وتتعزز فيها حجج الداعين الى إدراجه في لوائحه. التساؤل الثاني مرتبط في جوهرٍ داخلي لا يمكن الا ان يطرحه الحزب على نفسه. فالشيعة هدف معلن للقاعدة، سواء في العراق او في باكستان وغيرهما من الدول، فهل يقبل حزب الله بإدخال القاعدة الى لبنان من النافذة السياسية التي يعمل هو على ترسيخها في هذا البلد. او بكلام آخر، هل يمكن ان يستثمر الحزب داخلياً على قاعدة الفوضى الناجمة عن نشاط مستجد للقاعدة في لبنان قد يتحول الشيعة لاحقاً الى هدف له؟ لا يبدو ان تجربة العراق مطمئنة للبنانيين على هذا الصعيد، اذ لم يسبق ان طرح تنظيم عراقي حليف لإيران على نفسه تساؤلاً يتعلق بتناقض الدورين السوري والإيراني في العراق وتكاملهما. وفي لبنان قد لا يجد الحزب مشقة في اقناع من انتخبوه بأن القاعدة في لبنان هي غيرها في العراق... الى ان تنهي القاعدة معركتها مع اسرائيل من دون ان تهزمها طبعاً وتبدأها مع الشيعة.