لن أسأل مع السائلين من قتل الرئيس رفيق الحريري، ولن أصر مع المصرّين على ان سورية وراء اغتياله، ولن أنجم مع المنجمين لأحكي ما سيحمل المستقبل، وانما اكتفي بالوضع اللبناني المتأزم المتفجر بعد تلك الجريمة الفظيعة. ثمة جانبان للوضع الذي نشأ بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق: الأول يقظة المؤسسة السياسية اللبنانية، فالقوى المحلية التقليدية تحاول استرجاع دورها التاريخي بحرية من الأجهزة الأمنية أو دولة الأجهزة، والثاني نصيب لبنان من معركة في المنطقة هدفها"حزب الله"وصولاً الى ايران. الآلية الداخلية تقضي بتشكيل حكومة انتقالية للاشراف على الانتخابات، وكم أتمنى شخصياً لو تُكلف السيدة بهية الحريري بتشكيل حكومة الانتخابات هذه، فهي قادرة مجتهدة معتدلة، بمعزل عن دور أخيها الراحل، وكانت قالت لي غير مرة انها لن تخوض الانتخابات مرة أخرى مما يعني انها محايدة أيضاً، الا ان هذا الموقف ربما تغير بعد اغتيال أخيها. اذا لم تكن السيدة بهية الحريري، فربما حكومة اقطاب لها مهمتان: الاشراف على الانتخابات، والتحقيق في عملية الاغتيال. وهنا قد يكون الدكتور سليم الحص رئيس الوزراء ومعه فؤاد بطرس وميشال اده ونصري المعلوف وعدنان قصّار وغيرهم من شيوخ السياسة اللبنانية. في الجو المشحون الحالي افترض ان المعارضة ستفوز في الانتخابات النيابية، وانها ستشكل الحكومة التالية، لتلتقي عند ذلك مصالح القوى السياسية اللبنانية التقليدية مع اللاعبين من الخارج، فحتى لو تجاوزنا من قتل رفيق الحريري وأسبابه، يبقى ان الجريمة أوجدت وضعاً لتفكيك"حزب الله"، تمهيداً لضرب ايران، وهذا كان ضرورة أميركية تبحث عن عذر للتنفيذ وفره لها الاغتيال. لو فرضنا ان حكومة المعارضة تسلمت الحكم غداً فإنه يمكن ان نفترض منطقياً انها ستقول ان اتفاق الطائف نص على تجريد المليشيات اللبنانية من سلاحها، وان"حزب الله"مليشيا لم تبق حاجة الى جناحه العسكري، فمزارع شبعا ليست حجة كافية، أو ليست أرضاً لبنانية أصلاً، وانما هي أرض سورية يملكها لبنانيون. اليوم ايران هي راعية"حزب الله"، وهو في حماية الجيشين اللبناني والسوري، أو تلك الأجهزة الأمنية. وبما ان العنصر الوحيد الأكيد في وسط تأرجح العناصر الأخرى كافة هو ان"حزب الله"سيعلن حرباً مدمرة على اسرائيل اذا ضربت المنشآت النووية الايرانية، ولو كلف ذلك وجوده، أو وجود لبنان، فإن الضربة الأميركية أو الاسرائيلية لن تنفذ الا اذا تم تفكيك الجناح العسكري ل"حزب الله"، بعد اضعاف الجهات التي تحميه. ارجح ان الذين خططوا لاغتيال رفيق الحريري ونفذوا كانوا يدافعون عن مصالحهم، ولم يقدروا ان جريمة بهذا الحجم، لها بعد دولي، وسترتد عليهم، وعلى لبنان وسورية والمنطقة، فقد أطلقوا قوى مكبوتة لن تعود الى حالة الكبت، وقد أسرعت دول أجنبية لتسخّر الوضع لمصلحتها. ومع ان المصلحة الأميركية تختلف في لبنان عن المصلحة الفرنسية، فإن الولاياتالمتحدة وفرنسا وجدتا نفسيهما في صحبة طريق، وهما لم تتفقا على قضية في السنوات الأخيرة سوى لبنان. الوضع الآن ان النظام السوري محاصر ومتهم، وحتى لو ثبت في النهاية انه بريء من اغتيال رفيق الحريري، فالجريمة"ركبته"وهو يدفع الثمن. وإضعاف النظام السوري، ومعه الأجهزة الأمنية اللبنانية والسورية، خطوة لا غنى عنها اذا كانت حكومة المعارضة المقبلة بعد الانتخابات ستسعى الى تجريد"حزب الله"من سلاحه، ليبقى حزباً سياسياً له قاعدة شعبية كبيرة، ومعها دور مهم في الحياة السياسية اللبنانية. وكنت كتبت غير مرة ان انصار اسرائيل في الولاياتالمتحدة يحاولون دفع ادارة بوش لتوجيه ضربة جوية مدمرة للمنشآت النووية الايرانية، فيصيبون عصفورين بحجر واحد هما: تدمير المنشآت، والايقاع بين الولاياتالمتحدة وشعوب المنطقة كلها، فلا يبقى لها حليف أو صديق غير اسرائيل. غير انني قدرت ان تكون الضربة قرب انتخابات مجلسي الكونغرس في منتصف الولاية الثانية لجورج بوش، أي بعد سنتين، غير ان اغتيال الرئيس رفيق الحريري ربما أدى الى تسريع الضربة لإيران. وشخصياً لا أستبعد ان يشن الأميركيون، أو اسرائيل اذا لم يفعلوا، غارات جوية على منشآت ايران هذه السنة، خصوصاً بعد تردد معلومات عن ان ايران على بعد سنة فقط من انتاج قنبلة نووية، وليس على بعد ثلاث سنوات أو خمس كما كان يفترض سابقاً. المعلومات هذه غير مؤكدة، الا ان الولاياتالمتحدة لا تستطيع المجازفة، وقد تصرفت على الشبهة في العراق، وستفعل ذلك في ايران. وحتماً فإسرائيل، في هاجسها الأمني المستمر، لا تستطيع التعايش مع خطر نووي ايراني محتمل مهما كان الاحتمال ضعيفاً، وهي التي لا تستطيع العيش مع بندقية فلسطينية أو رشاش خفيف. كل هذا يعني ان يُضرب"حزب الله"الذي يملك ألوفاً من المقاتلين الأشداء، والمستعدين للموت، ومئات الصواريخ، ان لم يكن الألوف، وهذه صواريخ أشد فتكاً بكثير من صواريخ القسام الفلسطينية المحلية الصنع التي جعلت منها اسرائيل قضية دولية مع انها نادراً ما تصيب هدفها أو توقع اضراراً تُذكر. اغتيال الرئيس رفيق الحريري قلب المعادلة السياسية في لبنان وسورية وربما المنطقة كلها، واستقالة الحكومة اللبنانية ما هي إلا خطوة بسيطة على طريق التغيير المقبل. وكان تسليم سورية مطلوبين عراقيين خطوة أخرى تلمح الى تعاون أفضل من دمشق مع بغداد في مكافحة الارهاب، وسيكون الانسحاب العسكري السوري من لبنان هذه السنة، وربما قبل الصيف، خطوة أخرى. هذه الخطوات يمكن ان تتم بأقل ضرر ممكن، بل بهدوء، الا ان الخطوة التالية وهي وضع آلية تفكيك الجناح العسكري ل"حزب الله"لن تتم من دون معركة وخسائر، غير انني آخر من يزعم انه يرى المستقبل، فانتظر لأرى.