يلاحظ المتتبع لخريطة الأحداث وتطوراتها في المشهد السياسي العربي، ان ثمة ارهاصات معينة لتغييرات في بعض احداثيات هذه الخريطة، وبخاصة على مستوى علاقة بعض التيارات السياسية، والاسلامية منها بالذات، بپ"الكيان الدولتي العربي"، أو بلغة أكثر تحديداً، وجود مساع معينة لصوغ مقاربة سياسية تستطيع تأمين لقاء الطرفين المؤثرين في الحياة السياسية العربية: السلطات والتيارات الاسلامية. وتمكن ملاحظة بروز هذه الظاهرة عقب احداث 11 أيلول سبتمبر، خصوصاً بعد حال الاستنهاض الكبير التي شهدتها التيارات المتطرفة، وانتشارها الفطري في أربعة أركان الأرض، وتحديها المعلن للحضارة الغربية وقيمها. وكان واضحاً من وقائع المواجهة بين الغرب والنظم السياسية العربية من جهة، والجماعات المتطرفة من جهة أخرى، وحجم التأثير والانتشار الذي تحققه هذه الجماعات في الأوساط الاسلامية، ان شكل المواجهة، الذي اتخذالعنف سبيلاً لتجفيف المنابع الفكرية والمادية لهذه الجماعات، صراع لم يحقق الانتصار الناجز على تلك الجماعات ما دام العدو كما يصفه الأميركيون"شبحاً". وجسد هذا المعطى في الفهم الأميركي تحولاً استراتيجياً خطيراً خبرته القوة الأميركية، وهو وصول الجماعات الاسلامية المتطرفة، على رغم فارق القوة الظاهري، الى نوع من توازن الرعب، بات يميل في وقعات مثيرة لمصلحة هذه الجماعات، واذا كانت أميركا تحارب في نهاية الأمر أشباحاً، فإن هذه الجماعات باتت تضرب قوى حية واقتصادات، وتهز المجتمعات الغربية في أمنها واستقرارها. وانطلاقاً من هذا الفهم، وتلك الوقائع، بدأت أميركا تسعى الى تطوير استراتيجيتها في مواجهة هذه الجماعات من دون التخلي، بالطبع، عن خيار العنف والمواجهة، وذلك بالتوجه الى المجتمعات التي خرجت منها هذه القوة، لصوغ استراتيجية مواجهة، ولكنها أكثر قابلية للتعاطي مع الوضع في المنطقة، وحال القوة الذي وصلت اليه الجماعات اسلامية، ويمكن وصفها بپ"الاستراتيجية الواقعية"، انطلاقاً من تضمينها لمعطيات واقعية، وتمكن ملاحظة تفاصيلها عبر استعراض عدد من المشاهد. - المشهد الأول: أمام تعمق المخاوف الغربية عموماً، الأميركية والأوروبية، من ظاهرة العنف الذي تسميه"الارهاب"وارتباطه ببعض الجماعات الاسلامية"القاعدة"والجماعات المنبثقة من حركات"الاخوان المسلمين"، اضافة الى حركتي"حماس"وپ"الجهاد"في فلسطين، وپ"حزب الله"في لبنان، والمقاومة العراقية ذات السمة الاسلامية، وسعي الدوائر الأميركية والغربية عموماً الى البحث عن مداخل لاحتواء الحركة الاسلامية من خلال انظمة عربية لمواجهة عنف الجماعات بعنف الدولة، أو مواجهة عنف الجماعات الاسلامية المقاتلة، بعنف التحالف الدولي في أفغانستانوالعراق أو مواجهة الجماعات الاسلامية بعنف الأنظمة الاسلامية أندونيسيا، باكستان. أمام هذا المشهد العام، وضمن السياسات المعلنة لأميركا والغرب والتي تراوح بين سياسة المواجهة والاحتواء، يلاحظ في المشاهد الواقعية ما يأتي: أ - حض الأنظمة العربية على الانفتاح على حركة"الاخوان المسلمين"وامتداداتها، بمسمياتها المتعددة، للحوار ضمن اطار سياسات الاحتواء. ب - حض بعض الأنظمة العربية على احتواء حركة"الاخوان المسلمين"، والاعتراف بها في اليمن وموريتانياوالأردن. ج - اتاحة الفرصة أمام الاسلاميين، حتى في ظل عدم الاعتراف بحركة"الاخوان"كحزب قائم، لدخول الانتخابات النيابية حالة مصر. هذه التطورات تضعنا أمام تساؤلات عن ملامح الاحتواء الأميركي للكيانات التنظيمية الاسلامية وفي مقدمها حركة"الاخوان المسلمين"، اذ نلاحظ في المشهد الثاني: أ - تبني ما يسمى"رموز الحركة الاسلامية"المعتدلة، وهي رموز، وان كانت فردية، الا انها تعبر عن توجه جديد للإسلام يمكن ان يطلق عليه تجاوزاً"الاسلام الليبرالي"، ومثال ذلك ظاهرة الدعاة عمرو خالد وخالد الجندي والحبيب علي الجفري. ب - الضغط على دول اسلامية لإعادة تعديل مناهج المعاهد الاسلامية والتشديد في مراقبة المعاهد الدينية. ج - ادماج الحركة الاسلامية في اطار العمل السياسي الليبرالي اليمن، السودان، موريتانيا، مصر، الجزائر. في المشهد الواقعي الثالث لتطور سياسات الاحتواء الأميركي لنمو الظاهرة الاسلامية تمكن ملاحظة صورتين واقعيتين لعلاقة الاسلام في النظم العربية والاسلامية: أ - تتعامل أميركا مع حركة اسلامية ذات جذور شيعية في العراق، ولكنها تعبر في الوقت نفسه عن الاسلام السياسي. ب - يتبنى الغرب تركيا الاسلامية كنموذج للاسلام الليبرالي. ويضعنا كل ذلك أمام سؤال مهم: فهل يعني القبول بالحركة الاسلامية لقيادة الدولة في العراق، والسماح لحركة"الاخوان المسلمين"بخوض الانتخابات في مصر، وادماج الحركة الاسلامية في كل من الأردن واليمن وموريتانياوالجزائر في اطار الحركة السياسية في هذه البلدان، أمام مرحلة تكوين نموذج لنظام عربي يسيّر من جانب الحركة الاسلامية الليبرالية، امتداداً للنموذج التركي في الحكم؟ أي نظام ليبرالي بصبغة اسلامية، يقود مرحلة التحول الديموقراطي في المجتمع العربي في اطار برنامج الشرق الأوسط الكبير؟ كاتب سوري.