الصورة التي تبرز من مراجعة وضع الشرق الاوسط هي صورة مجتمع مدني تحت الحصار، أي سير الأوضاع في اتجاه معاكس لذلك الذي يُفترض انه يتماشى مع المرحلة التاريخية: الاتجاه نحو الليبرالية السياسية. ولا يعود هذا في اكثره الى صعود "جيل جديد" من الحاكمين بقدر ما يعود الى أن الدول في المرحلة الأخيرة توشك على الانتصار على الانتفاضات المسلحة والارهاب من قبل الحركات الاسلامية المتطرفة. ويمكن القول ان الدول تمكنت الآن من احتواء العنف، رغم انها لم تجتثه بعد. وتعاني تلك الحركات من الانقسام والتناحر فيما بينها، ويستنزف قواها الصراع من أجل البقاء. لقد أحرزت تونس انتصارها في هذا المجال قبل نحو عقد. أما في مصر فقد انطلقت موجة جديدة من الارهاب أوائل العقد الماضي، ووصلت الى ذروتها بمحاولة اغتيال الرئيس مبارك في اديس ابابا في 1995 ثم مجزرة السياح في الأقصر في 1997 التي وجهت ضربة قاسية لقطاع السياحة. لكن بدا ان الحكومة قضت على هذه الموجة تماماً السنة الماضية، وأعلنت "الجماعة الاسلامية"، وهي واحدة من المجموعتين الارهابيتين الأهم، وقف النار من طرف واحد. فيما وجهت قوات الأمن ضربة مدمرة إلى التنظيم الثاني، "الجهاد الاسلامي"، في معاقله في الصعيد، وهرب كثيرون من الاعضاء الى الخارج حيث هاجموا سفارات مصرية. وتسلمت السلطات عدداً من هؤلاء من دول مثل باكستان واوروغواي وجنوب افريقيا والبانيا وغيرها. وأعلن بعض زعماء "الجهاد" اخيراً نبذ العنف، وحاولوا تشكيل حزب مرخص قانونياً باسم "حزب الشريعة". وفي اليمن قضت السلطات على الارهابيين الاسلاميين الذين تعاونوا مع الانفصاليين في عدن، وقاموا بعمليات خطف للاجانب لتحدي الدولة وزعزعتها. أما في الحرب الاهلية الجزائرية، حيث الصراع الأكثر دموية، فإن المعركة لم تنته تماماً بعد، لكن يبدو ان الجيش انجز القسم الاكبر من مهمته بحلول 1998. وأعلن "جيش الانقاذ"، الذراع العسكري ل"جبهة الانقاذ الاسلامي"، القاء السلاح، وتبعه في ذلك قسم مهم من "الجماعة الاسلامية المسلحة"، فيما تواصل بقية الجماعة عملياتها في الارياف. وجرت انتخابات الرئاسة في نيسان ابريل الماضي تحت جو الهدوء والاستقرار النسبي هذا، واصدر البرلمان قانون العفو في تموز يوليو وأقره استفتاء ايلول سبتمبر. ويجري التفاوض حالياً على ادماج عناصر جيش الانقاذ في القوات المسلحة الجزائرية، في ما يعتبر اشارة مهمة الى استمرار عملية المصالحة الوطنية. السؤال عموماً سيكون ما إذا كانت هذه الحكومات ستتخذ بعد انتصارها سياسة "العفو عند المقدرة". انه سؤال جوهري، لا في ما يخص الاسلاميين الذين مارسوا الارهاب فحسب بل المجموعات الاسلامية الراديكالية الأخرى التي لم تتخذ الارهاب طريقاً إلى هدفها في اقامة حكم الشريعة أي أنها اتفقت مع الارهابيين لجهة الغاية واختلفت معهم على الوسيلة. وكانت المجموعات السلمية تلقت ضربات وقائية قوية من السلطات خلال مرحلة الصراع ضد الارهاب، وليس فقط في الدول التي واجهت الارهاب فعلاً، بل في دول غيرها مثل الأردنوالكويت والمغرب حاولت حكوماتها وقف انتشار عدوى العنف. لا يشكل التسامح في هذا السياق فضيلة اخلاقية فحسب، بل سياسية أيضاً. وربما كانت هناك حاجة الى مقدار من الانفتاح في الحياة السياسية لكي تشمل الراديكاليين الرافضين للعنف بل حتى بعض الفئات التي تخلت عن العنف بعدما ادركت استحالة دحر الدولة عندما تدافع بحزم عن احتكارها للقهر، وقررت التزام قواعد اللعبة السياسية. ويمكن القول إن هذا يشكل استثماراً على المدى البعيد في الاستقرار السياسي، عن طريق اعطاء المجموعات والفئات الاجتماعية المهمشة حصة، مهما كانت متواضعة، في النظام. واذا اخذنا في الاعتبار أهمية الحركات الراديكالية الاسلامية، التي تشكل قوة اجتماعية - سياسية كبيرة على الصعيد الشعبي، فإن قضية اشراكها في العملية السياسية، ومدى ذلك الاشراك، أمر جوهري بالنسبة الى مستقبل المسيرة نحو الديموقراطية. اذ مهما كانت نوايا الدولة ووعودها فلن يمكن التحرك نحو ديموقراطية حقيقية في الدول التي تحظر تلك القوى مصر وتونسوالجزائر، او التي تضيق عليها الخناق على رغم سماحها لها بالعمل اليمن والأردن. لكن لا يبدو ان الحكومات تسير في اتجاه التسامح. فهناك من جهة سنوات العنف وما خلفته من مشاعر الانتقام والتوجس، خصوصا لدى قيادات الاجهزة الأمنية، وهي الحليف الرئيسي للحكام والدعامة الأهم لأنظمتهم. ولا شك ان هذه القيادات تدعو الى الحذر تجاه كل هذه العناصر، سواء تجنبت الارهاب ام مارسته سابقاً، وتخشى ان افساح المجال لها قد يعني تغلغلها في اجهزة الدولة توصلاً بالتدريج الى السيطرة واقامة النظام البديل، وان هذه العناصر وقتها لن تتنازل عن السلطة لأنها لا تؤمن بقاعدة "صوت واحد للمواطن الواحد" النظام الحالي في السودان مثال على ذلك. هكذا فإن التعددية تبدو للقيادات الأمنية بمثابة "حصان طروادة". وهي ترى، اذا كان هذا الموقف يعني تقليص الحيز السياسي العام، ان الواجب قبول ذلك، لأن الدولة القوية ضرورية، أما حيز السياسة بهذا المعنى فليس ضرورياً. هذا التوجس والشك يفسر عدداً من التطورات الحالية - مثلاً الحملة على النقابيين الاسلاميين في مصر التي تشابه الحملة عليهم في 1995، على رغم ان الدولة تهيئ لانتخابات النقابات المهنية، بعدما الغى القضاء قرار الحجز على النقابات التي يسيطر عليها الاخوان المسلمون. وربما كان من بين اهداف الحملة ايضاً استباق الانتخابات البرلمانية الربيع المقبل عن طريق حرمان الاخوان المسلمين من عشرين من انشط مرشحيهم لمقاعد البرلمان. ولا تقتصر الشكوك والتوجسات على الأجهزة الأمنية، اذ تشارك فيها الاحزاب المعارضة، خصوصاً الليبرالية منها التي تشكل قوة لا يستهان بها في الطبقة الوسطى الجديدة الصاعدة. وهناك ما يبرر هذا الموقف، لأن الاسلاميين الراديكاليين كانوا رفعوا شعارات الديموقراطية في السبعينات، لكن بنوع من الاستخفاف ومن دون مواجهة مضامينها بالنسبة الى مواقفهم واساليب عملهم. وكان الواضح ان هدفهم الحصول على الشرعية وانهاء حال التهميش التي وضعتهم فيها الانظمة الشعبوية خلال العقدين السابقين، بعدما التزمت الانظمة التعددية السياسية والحزبية وحقوق الانسان الخ. وتم ذلك في وقت لم يكن فيه خيار العنف مطروحاً على الراديكاليين الذين كانوا خرجوا لتوهم من سجون عبدالناصر أي انهم تعلموا الدرس الذي يتعلمه بعد عقدين كثيرون من الجيل الجديد من المتطرفين. استند ذلك الانتهاج السطحي لخط الديموقراطية الى مقولة متداولة في الفكر التبريري التراثي اوائل القرن الماضي، مقولة تماشي الديموقراطية مع "جوهر الدين"، من حيث مماثلتها لمبدأ الشورى: واجب الحاكم في استشارة رعاياه. لكن الشورى، بغض النظر عما اذا كانت حقيقة ذلك "الجوهر"، تعني مشاورة أهل الحل والربط، أي الفقهاء، وليس ممثلي الناخبين. اضافة الى ذلك فإن هذا المبدأ القديم لم يطبق إلا نادراً. ولم يتعامل الاسلاميون، ماضياً أو حالياً، الاّ في شكل نادر مع قضايا مثل حرية التعبير عن الرأي المخالف للتيار الاسلامي السائد، ناهيك عن الالحاد او الشك الديني. ويغطون عليها من خلال وصفات غائمة كالقول إن في امكان الشريعة او الاجتهاد ايجاد الحل لكل هذه المشاكل. وتطبق وصفات عامة كهذه على قضايا صعبة مثل المساواة للمرأة او لغير المسلمين في دولة تقوم على الشريعة مستقبلاً. في الوقت نفسه يميل المتشددون في المعسكر الراديكالي الى اعتبار الديموقراطية مبدأ غربياً مستورداً ملوثاً بسموم الحداثة ولذا يجب رفضه جملة وتفصيلاً. وتنتشر هذه الفكرة في صفوف الجماعات التي تتوسل العنف اضافة الى العديد من المتشددين من رجال الدين والمفكرين. من بين الأمثلة على ذلك الفتوى التي اصدرها الشيخ عمر عبدالرحمن من سجنه في الولاياتالمتحدة، محرماً فيها تشكيل الاحزاب من أي اتجاه، حتى الاسلامي. وتؤكد الفتوى على وجوب حصر كل الآراء والتوجهات "في حزب واحد، هو حزب الله"، وترفض تماماً مبدأ التنافس الحر في سوق الأفكار والوجه السياسي له، أي الانتخابات. وشكلت الفتوى احراجاً للاخوان المسلمين وسارعوا الى التنصل منها، فيما احتضنها تنظيم "الجهاد" بحماسة. يتهم المتطرفون التيار الراديكالي الرئيسي بالتذبذب والانتهازية، وهو رأي لا يخالفه أصحاب السلطة والليبراليون. لكن هذا لا ينفي امكان تطوير مبدأ الشورى ليشمل حقوق الافراد وتداول السلطة والحد من صلاحيات الحكومة الخ، وهي مفاهيم غريبة عن الاطار الذهني للشريعة مع انها قد لا تتناقض مع ذلك الاطار. لكن إذ نجد مفكرين كاثوليكاً مثل جون كورتني مَري الذي طور قبل نصف قرن عدداً من مفاهيم القرون الوسطى ليبرر القبول بالديموقراطية الليبرالية، فان هذا لم يحصل في حال الشريعة ... هناك أصوات قليلة تشذ عن هذه القاعدة، مثل الراديكالي الفلسطيني المستقل منير شفيق، الذي دعا منذ 1992 الى القبول الكامل بمفاهيم حقوق الانسان وتداول السلطة، وإلى تبني التنظيمات الراديكالية نفسها المبادىء الديموقراطية في شؤونها الداخلية وبذل الجهد لجعل قوانين الشريعة، وهي بالتالي نتاج مكانها وزمنها، تتماشى مع هذه المبادئ الليبرالية. ودعا شفيق الحركات الاسلامية الى مواجهة الحقيقة، وهي ان لا خلاص للاسلام من ضعفه الحالي الاّ بوجود مجتمع مدني قوي، وان هذا بدوره لا يتوفر الاّ ضمن وضع ديموقراطي. بل يمكن القول ان الخطر على الاسلام نفسه كطريق للحياة يأتي من التهديد الذي تمثله الانظمة التسلطية وما تحمله من "علمانية الأمر الواقع"، وان هذا يشكل سبباً كافياً لتغيير النمط الفكري السائد. ويؤكد الكاتب الفلسطيني على امكان العثور على سوابق من عصر الصحابة تبرر الكثير من مبادىء الديموقراطية. ويحذر من استحالة اقناع الفئات الحاكمة بفتح مجال السياسة التعددية امام الاسلاميين من دون قبول حقيقي منهم بالديموقراطية الليبرالية. كما لا يمكن، من دون قبول كهذا، اقامة تحالفات مع القوى الطامحة الى توسيع المجال السياسي العام. لكن، لم يكن لآراء شفيق تأثير ملموس. وظهرت من الراديكاليين المسالمين طوال التسعينات مؤشرات الى ميولهم اللاديموقراطية. من الأمثلة موقفهم من الاحداث الثلاثة التي هزت مصر وقتها، وهي اغتيال المفكر العلماني فرج فوده ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ والملاحقة القضائية للباحث نصر حامد أبو زيد، الذي اتهم بالكفر. فقد اتسم موقف الاخوان بالتذبذب. فهم لم يصلوا الى حد تبرير الحدثين الأولين، لكن موقفهم أوحى في كثير من الاحيان بأن فوده ومحفوظ جلبا العنف على نفسيهما عن طريق استفزاز الشبيبة المتطرفة. أما في حال أبو زيد فقد أيدوا علناً موقف الشيخ الذي اقام عليه الدعوى بتهمة انتقاده الحاد للتشريعات الاسلامية المبكرة، ورحبوا بقرار المحكمة فسخ زيجته باعتبار أن الزوجة مسلمة محرم عليها الزواج من كافر. لم تكن هذه الحالات الوحيدة. فقد اجمعت الحركة الراديكالية في مصر، على ما فيها من تشتت وتضارب، على تأييد الحملة الصحافية على "كفّار" آخرين مثل المفكر والباحث الاسلامي الحداثي حسن حنفي وخليل عبدالكريم وسيد القمني. كما حاول الاسلاميون في الأردنوالكويت حظر كتب اعتبروها مخالفة للدين أي التي لا تتماشى كلية مع تيارهم المحافظ في معارض النشر في البلدين. واقام بعض السلفيين الكويتيين اخيراً دعوى على الكاتب الليبرالي أحمد البغدادي، الذي نشر مقالة تناولت ظروف الدعوة في المراحل المبكرة منها. وحكمت عليه المحكمة بالسجن مدة شهر. وشجعهم هذا النجاح على اقامة دعاوى مشابهة ضد اديبتين كويتيتين. فيما قدم نظراؤهم السنة في لبنان قضية الى المحاكم ضد الموسيقار الواسع الشعبية مارسيل خليفة، وهو مسيحي، لأنه غنى قصيدة لمحمود درويش تتضمن جزءا من آية قرآنية. تعيد الدعوى على خليفة، اضافة الى محاولة المسلمين في الناصرة بناء مسجد قرب كنيسة القيامة، طرح الموقف من غير المسلمين. ويبدي الاخوان المسلمون في مصر تحفظا واضحا تجاه القضية، ويغسلون ايديهم تماماً من اعمال العنف ضد الاقباط في الصعيد. الاّ ان مرشدهم العام الجديد مصطفى مشهور أثار ضجة كبيرة قبل سنتين عندما قال ان وضع الاقباط في دولة اسلامية تقوم مستقبلاً سيشابه وضعهم أيام الخلافة، أي انهم سيعتبرون من "أهل الذمة"، ما يعني تمتعهم بالحماية لكن كرعايا من الدرجة الثانية، مع تقييد وصولهم الى مواقع النفوذ وفرض ضريبة خاصة عليهم. ولم يلق موقف مشهور الكثير من الانتقاد في أوساط الاخوان. وكان من أبرز المنتقدين الفقيه المرموق محمد سليم العوا، الذي انتقد أيضاً بعنف الاتهامات بالكفر الى أبو زيد وخليفة ووصفها بانها تقوم على الجهل والبعد عن الواقع. كما قال انه ليس من معنى في عصرنا الحالي لدعوة كثيرين من الراديكاليين الى تطبيق العقوبات التي ينص عليها القرآن، مثل عقوبة الرجم للزاني والزانية، وبتر اليد للسارق. لكن البادي ان آراء العوا او شفيق لا تلقى الكثير من الاهتمام في أوساط الراديكاليين. كما لا يعير هؤلاء اهتماماً الى المأزق الذي يطرحه المفكّران، وهو ان ليس من امكان لاطلاق الدعوة من دون ديموقراطية. ويفاقم في حدة المأزق حالياً الفشل الذي انتهت اليه محاولات نشر الدعوة باستعمال العنف. لا غرابة اذن ان الليبراليين العرب يعتبرون التيار الاسلامي، في أفضل الاحوال، ديموقراطياً لكنه غير ليبرالي حسب تعبير فريد زخريا، ان لم يكن ديكتاتورياً متخفياً. وما يؤكد هذا الرأي وهو ايضا رأي الفئات الحاكمة المشاكل التي واجهها الليبراليون وغيرهم من التيارات المعارضة في تحالفاتهم البرلمانية مع الاخوان المسلمين والحركات المشابهة الوفد وحزب الاحرار المصري في 1984 - 1987، والتحالفات في برلماني الكويتوالأردن في النصف الأول من العقد الماضي. فقد حاول الاسلاميون في كل الحالات احتكار السيطرة، وهو ما برز ايضاً في التحالفات على مستوى النقابات المهنية الاطباء، المحامين، المهندسين، الصحافيين الخ حيث اتضحت التسلطية نفسها مضافاً اليها التسيب المالي. من هنا البرود الذي يبديه الليبراليون تجاه التحرك من أجل الحصول على الشرعية للاخوان المسلمين والحركات المشابهة، أو على الأقل الترخيص لعملهم الاجتماعي الأردن، المغرب، الكويت، أو اخراجهم من وضعهم اللا شرعي الى وضع شبه شرعي مصر، الجزائر، تونس. النتيجة بالطبع هي اضعاف قوى المعارضة في كفاحها من اجل الانفتاح السياسي، حتى اذا لم يزد ذلك على حل يشابه ما حصلت عليه تشيلي بعد بينوشيه ربما هذا هو وضع المغرب الآن منذ السنة الماضية بعد تشكيل حكومة يرأسها سياسي معارض. تشكل حال الجزائر استثناء لهذا المشهد العام، حيث تلخّص الدرس الذي استخلصه الكثير من التنظيمات المعارضة بعد الغاء الانتخابات في 1991 - 1992 ثم الحرب الأهلية باعطاء بعض الأجنحة "التائبة" من جبهة الانقاذ دوراً، مهما كان صغيراً ومقيّداً، في الحياة السياسية. لكن المشكلة هي تحديد الأجنحة المهيأة للمشاركة الأرجح ان ذلك سيشمل الجناح الذي يقوده عباسي مدني ورابح كبير، وربما أيضا جناح "الجزأرة" الذي قاده عبدالقادر حشاني قبل اغتياله السنة الماضية. المؤكد ان الحاكمين لن يكونوا اكثر ليبرالية من الليبراليين، خصوصاً مع الذكريات المريرة ومشاعر الانتقام التي خلفتها الحرب الأهلية، وهو ما يفسر الصعوبة التي يلقاها الرئيس بوتفليقة حالياً، على الرغم من حصوله على التفويض الشعبي وقدرته على المناورة. ان كسر القالب السياسي القديم لا يأتي من القمة وحدها او القاعدة وحدها، بل من توافق بين الحاكم والمحكوم على هذا الهدف. واذا كانت هناك حركة حقيقة في هذا الاتجاه فإنها تتكون من سلسلة من المبادرات الذي اتخذت اخيراً لترجمة أفكار شفيق والعوا الى عمل سياسي. والمبادرة الأكثر اثارة للاهتمام أطلقها قبل نحو ثلاث سنوات لفيف من ناشطي الاخوان المسلمين، غالبيتهم في أواخر الثلاثينات من العمر، من الذين برزوا في الحركة الطالبية في صعيد مصر وتعرض قسم منهم للسجن اوائل الثمانينات. وأعلن هؤلاء تشكيل حزب سياسي باسم "الوسط" وطلبوا الترخيص الرسمي. وعلى رغم التأكيد على استمرار الولاء للحركة، فإن الحزب الذي يقوده أبو العلا ماضي مثّل منذ البداية ثورة الجيل الجديد من الاخوان على القادة التقليديين، وغالبيتهم في السبعينات من العمر. ويحاول الحزب ايجاد مخرج من الأزمة التي تتخبط فيها الحركة بعدما فشلت استراتيجية العنف - ذلك النوع من "الهروب الى الأمام" - وتزايدت القيود على النشاطات التثقيفية والاجتماعية. ويقول زعيم الحزب ان المخرج هو القبول الصريح ومن دون شروط بكل مبادئ السياسية الليبرالية، أي حقوق الفرد والحريات الاساسية وتقييد سلطة الدولة والمنافسة السياسية وتداول السلطة والشفافية على رغم ان الحزب لا يستطيع حتى الآن القبول بشرعية التوجهات العلمانية. ويرى الحزب ان الاصلاحات التدريجية، مهما كانت محدودة، تشكل سبيلاً أفضل الى "الحل الاسلامي" من الطريق المسدود الحالي، وأن الركود الذي تعاني منه الحركة بسبب سيادة النظرة الدفاعية التبريرية يسىء الى قضية الاسلام ويفاقم من ضعفه كقوة اجتماعية فاعلة، وان ليس هناك حل اسلامي دون مشاركة شعبية. ومن جانبها رفضت قيادة الاخوان مواجهة هذا التحدي وطردت مؤسسي حزب "الوسط" من صفوفها. لكن الحزب يستمر كتنظيم غير رسمي رغم ان السلطات لم ترخص له بالعمل بعد الواقع ان الحكومة ترفض منذ عقدين الترخيص لأي حزب جديد. من الواضح ان الحكومة تعتبر تشكيل حزب "الوسط" حيلة من الاخوان المسلمين لتشريع وضعهم بدل ان يكون فرصة لشق صفوف الاسلاميين بين الموافقين على التعددية ورافضيها. ويمكن القول ان بدايات النقاش على التعددية تعود الى حركة النهضة، وهي نظير الاخوان المسلمين في تونس، وهناك نقاش اعنف على القضية بين أجنحة جبهة "الانقاذ" في الجزائر. لكن النقاش في هذه الأوساط وغيرها لم يغير شيئاً في المأزق الذي تواجهه الحركات الاسلامية، أي عدم القدرة على الاستيلاء على السلطة بالقوة من جهة، والفشل في تغيير الموقف ازاء الديموقراطية بما يسمح بالسير نحو اصلاح المجتمع والدولة. وفي غياب اي التزام حقيقي من الأنظمة بالتقدم نحو الليبرالية السياسية، وضعف المعارضة غير الاسلامية المطالبة بذلك التقدم، لا بد لهذا المأزق ان يستمر ويزداد حدة. * كاتب اسرائيلي.