كانت تتصبب عرقاً بلل حجابها الأسود الذي يلف وجهها على الطريقة الإماراتية، البهو الكبير جداً لسوق ابو ظبي للأوراق المالية يختنق بآلاف الرجال المتلاصقين كمن ربطوا من أعناقهم، رافعي الرؤوس باتجاه الشاشات الكبيرة التي تعلو رؤوسهم. أنفاس محبوسة، يراقبون أرقاماً تتغير كأنها الغيب الذي لا يمكن التكهن به، يعلو التصفيق فجأة: سهم"أملاك"ارتفع... لا يهمها فقد استثمرت في""إعمار"نحو نصف مليون درهم نحو مئة وستة وثلاثين ألف دولار،"كان سهمه صباحاً ب 23,7 ووصل إلى 24"... ما زالت تنتظر، ما زال لديها القليل من الوقت قبل الإقفال، توسّل دندشي، الإماراتية من أصل سوري لم تكن المرأة الوحيدة هنا، هناك أكثر من عشر نساء واقفات على هامش الحشد الذكوري، إحداهن بلباس إماراتي أيضاً، تسللت من عملها، إنه يومها الأول في عالم الأسهم، تريد ان تدخله بنفسها، بمبالغ قليلة تكتسب بها الخبرة لتغامر بعدها بكل ثروتها، فهناك، كما تقول، من بدأ مثلها بأربعين ألفاً وانتهى بستة ملايين درهم، اذ ارتفعت أسعار سوق الأسهم بنسبة 85 في المئة منذ بداية هذا العام، إنه الربح السريع، الثراء المحقق، الإغراء الذي لا يقاوم... إنها بالأحرى الحمى التي أصابت نحو عشرين في المئة من سكان دولة الإمارات منذ نحو العام أو أقل، فقد بلغ مجموع المستثمرين في الأسهم في سوقي دبي وابو ظبي الماليتين بحسب البيانات الصادرة عنهما، أكثر من سبعمئة ألف من أصل نحو الأربعة ملايين إجمالي عدد سكان الإمارات،أي ثلث سكان البلاد. ولو قيس هذا المجموع الى عدد الإماراتيين لكانت بلغت النسبة أكثر من خمسين في المئة. في أي حال فإن نسبة الإماراتيين من المجموع العام للمستثمرين لم تقل عن خمسة وستين في المئة ولذلك علاقة بعوامل عدة أهمها محدودية الشركات التي تفتح المجال لاستثمار غير الإماراتيين وما يصطلح على تسميته في دولة الإمارات بالوافدين. في المنازل شاشات فضائيات مفتوحة وفي أسفلها شريط بآخر أخبار الأسهم، شاشات كومبيوتر مثبتة على أسواق الأسهم، موظفون لا يردون على المكالمات الهاتفية بسبب انشغالهم بالأسهم، هواتف متنقلة إضافية عدا الشخصية أو العملية، مخصصة فقط للتواصل مع الوسيط المالي في عمليات البيع والشراء. إنها لوثة الأسهم كما يسميها المحرر الاقتصادي ناصر العارف. وهي اللوثة الأشبه بالشائعة التي تدخل كل البيوت من دون استثناء ويشارك فيها كل الناس من حيث لا يدرون. فقلما تجد منزلاً اليوم يخلو من حديث الأسهم، أو لم يفكر واحد على الأقل من أهله في الاستثمار في الأسهم، وقلما يخلو لقاء بين الأصدقاء من هموم الأسهم."فقد باتت كالسباق الخفي بين الناس، لا يكشفون فيه دائماً عن أحجام استثماراتهم ولا عن أرباحهم"، كما قال الداخل حديثاً إلى هذا العالم، عدنان، الإعلامي اللبناني الشاب الذي استدان ما يعادل سبعة وعشرين ألف دولار من أحد المصارف لتوظيفها في الأسهم، متأكداً من أن البلاد هي الضمانة، فشركاتها الاساسية ما زالت على توسع هائل يضمن ارتفاعاً مضطرداً لأسهمها في السنوات القليلة المقبلة، وهي الفترة الكافية لتكسبه ما لا يمكن تحديده اليوم لكنه يأمل في أن تكون الملايين. الملايين هي حلم كل الداخلين اليوم إلى هذا العالم. والحالمون هنا ليسوا فقط تجاراً ورجال أعمال، إنما وببساطة كل الناس، لا استثناءات، إعلاميون، كتاب، مثقفون، تجار صغار، موظفون متوسطو الدخل، نساء عاملات وربات بيوت، حتى أن هناك احياناً أكثر من مستثمر في المنزل الواحد كسناء وزوجها العاملين كليهما، واللذين دخلا كل على حدة في استثمارات الاسهم، وشغل كل منهما كامل رصيده المصرفي. وتقول سناء التي صرفت أخيراً من عملها بأن ما تتوقع جنيه في يوم واحد يعادل راتب شهر في العمل، ولذلك فهي اليوم خصصت كامل وقتها لهذه التجارة، وتداوم يومياً في سوق دبي المالية، ولماذا في السوق، لأن هناك في إمكانها أن ترصد أكثر، كما تقول، حركة السوق وتلتقي كبار المستثمرين الذين يحضرون بانفسهم احياناً وتراقب تفاعلهم مع حركة الأسهم كما يمكنها أن تحصل على نصائح الأكثر خبرة، لكن حضور السوق يحمل أيضاً مخاطر الوقوع في شبك الشائعات التي تربك أحياناً صغار المستثمرين وتدفعهم إلى بيع أو شراء انفعالي. إنها اللعبة المغرية كما تقول، في أي حال،"فأنت تدخلها على أساس أن احتمالات الربح فيها أكبر بكثير من الخسارة، وهذا ما يجعلك كما في لعبة القمار، عالقاً في الداخل، لا تكتفي ولا تتراجع". هذه الحمى اشتعلت منذ بداية هذا العام، إلا أن بيانات السوقين الماليتين في ابو ظبي ودبي بدأت تسجل ارتفاعاً في نسبة المستثمرين الجدد منذ بداية العام الماضي ازدادت سرعته باضطراد خلال الأشهر الأخيرة. أما أكثر المستثمرين، بحسب بيانات سوق ابو ظبي للأوراق المالية، فهم الإماراتيون يليهم العرب الآخرون ثم أصحاب الجنسيات الأخرى. أما العرب فيتصدرهم الأردنيون إلا أن السعوديين سجلوا خلال الشهر الماضي تفوقهم على الاردنيين، كما تكشف البيانات نفسها، يليهم اللبنانيون ثم الفلسطنيون ومن ثم السوريون ثم أصحاب الجنسيات الأخرى العربية والاجنبية والبالغة بمجملها إحدى واربعين جنسية. وكما تكشف البيانات نفسها فإن العدد الأكبر من المستثمرين الجدد هم من صغار المستثمرين. وقد بلغ عدد المستثمرين الجدد في شهر أيار وحده وفي سوق ابو ظبي وحدها نحو ثمانية آلاف، عدد الرجال منهم 5411 وعدد النساء 2650. ولكن ما الذي أشعل هذه الحمى، يقول أحمد، المخرج التلفزيوني الذي لم يفكر يوماً في العمل في مجال اسهم وتداول وهي المصطلحات التي كانت غريبة عليه، أن كل ما في البلاد انخرط في هذه اللعبة، التلفزيونات والصحف والناس والاخبار عن ارباح بالملايين. لذلك كان من الصعب على احد مقاومة فكرة الثراء السهل الموعود. لذلك سحب كل امواله من لبنان التي كانت مخصصة لشراء شقة ووظفها في الأسهم، أما ما دليله في البيع والشراء، إنها نصائح وسيطه المالي، ومتابعته أخبار الشركات ومشاريعها الجديدة، فلعبة الاسهم هي لعبة وهمية، اذ ان شائعة صغيرة قد تؤدي الى سحب جماعي للأسهم ثم إلى هبوط في السعر واخرى في امكانها أن تغير وجهة المستثمرين وترفع السهم. وهذا ما يؤكده المحرر في شؤون الاسهم والعملات سمير حماد، الذي قال"ان الاشاعات هي عامل اساسي في حركة سوق الأسهم، وأحيانا تؤدي الى تراجعات كبيرة في سعر السهم على عكس التقارير عن نسب أرباحها الخيالية. ولكن وعياً كما يقول لدى المستثمرين، أعقب صدمة تصحيح سهم إعمار الذي شغل قبل التصحيح تسعين في المئة من حجم التداول في السوق، هذا التصحيح جعل السوق اكثر توازناً، وجعل المستثمرين أكثر متابعة لتقارير الشركات الربعية والنصفية من أجل استثمار اكثر ضمانة". وبلغة أخرى فإن الأرباح الكبيرة التي جنيت تحديداً مع أسهم"إعمار"التي تسببت بشكل اساسي في حمى الاسهم هذه، أدت إلى حصر التداول تقريباً تسعين في المئة من الاستثمارات بالأسهم بسهم"إعمار"، ولما جرى تصحيح للسعر أي خفض لسعر هذا السهم، ولد ذلك صدمة لدى الكثيرين الذين سارعوا الى بيع أسهمهم، فتراجعت نسبة التداول به، لكنه بقي الأكثر تداولاً، وهذا الارتفاع ثم الخفض ثم العودة التدريجية للارتفاع هي اللعبة التي ورطت الكثيرين وتورط المزيد من المستثمرين في ما يشبه لعبة القمار التي لا يمكن الخروج منها بسهولة. أما ما الذي اتاح لهذا القطاع الاستثماري تحقيق هذا الازدهار فجأة في الامارات، يقول: أنه"اولاً توافر السيولة، سهولة أنظمة الإقراض، حيث أن هناك الكثير من المصارف فعلت برامج قروضها الخاصة بالاستثمار في الاسهم، ثم هناك سهولة دخول هذا العالم، اذ لا يتطلب الأمر سوى توافر السيولة وبضع أوراق بسيطة من قبيل صورة عن جواز السفر والإقامة وبضع أوراق أخرى تخولك في ظرف يوم واحد الحصول على بطاقة مستثمر الضرورية للتداول، كما أن تداول الأجانب هو الذي نشّط السوق ولا تقل نسبته عن الخمسة والثلاثين في المئة، والتي يتوقع ارتفاعها اذ ستفعل الكثير من الشركات قوانينها التي تجيز استثمار الأجانب بنسبة تسعة وأربعين في المئة من قيمة الاسهم"اضافة الى التقارير الربعية ونصف السنوية للشركات التي تكشف فيها عن مشاريعها المستقبلية... إنها اذاً الأرض المناسبة لهذه الحمى، والتي لا يتوقع خفوتها قريباً، على رغم تراجع نسبي في سعر الأسهم فإن رؤوس الاموال الكبيرة تتدخل دائماً لحماية السوق لأنها هي نفسها المالكة لمعظم الاستثمارات في معظم الشركات الكبيرة ويهمها المحافظة على ارتفاع سعر كل الأسهم. ثم انها الإمارات والشركات الكبيرة العملاقة التي لا يبدو أنها ذاهبة إلى تراجع في اعمالها بل إلى مزيد من المشاريع، وقد بدأت تنقل ساحات تنافسها إلى خارج الإمارات الى الولاياتالمتحدة والعالم الغربي. اذاً وعد بارتفاع اكبر للاسهم وبملايين آتية تعزز هذه الحمى، ومن لم يدخل هذه السوق يفكر حتماً بدخولها قريباً. يتدخل سعودي، ويقول لي كمن أملك سلطة تغيير الواقع،"نريد أن يفتح لنا باب الاستثمار الكثير من الشركات تحد استثماراتها بالاماراتيين لو فتحوه لشهدوا منا العجائب". الأرض تغلي في الإمارات، الأسهم تغطي سماءها.