ظلت"الطوارق"مئات السنين، مفردة صامدة، ترمز الى الغموض والشراسة والفتك، ومنبعاً ثرياً يدهش الباحثين الأجانب، ممن حاولوا سبر تاريخ الطوارق وعاداتهم وتقاليدهم في مضاربهم المتناثرة على تلال الرمال الصحراوية، في ما يعرف تاريخياً بالصحراء الكبرى أو"أزواد"، التي قسمها الاستعمار الفرنسي بين الجزائروموريتانياوماليوالنيجر. إلا أن الصورة الأسطورية للطوارق سريعاً ما أصبحت مهددة بالاندثار، أمام عتو العوامل الطبيعية الجفاف، وحروب الإبادة الجماعية والعنصرية والتهميش، التي تواطأت عليها الحكومات المسيطرة على مناطقهم، فباتوا أكرادا آخرين في غرب افريقيا. كما يقول أحد قادة الثورة العسكريين هباي أق بن محمد علي. الأمر الذي دفع شبان الطوارق الذين تربوا على أساطير البطولة، وغزوات أجدادهم، ومقاومتهم للمستعمر، إلى النهوض مجدداً لحماية مجدهم الغابر، الذي يراهنون على بقائه مثلاً لتاريخ وأسطورة لا تفنى، فأعلنوا ثورتهم مطلع التسعينات ضد حكومتي ماليوالنيجر، احتجاجاً على"سياسة التهميش والتجهيل التي سلكتاها منذ الاستقلال عام 1963، إذ واجهت احتجاجات بعض معارضي الطوارق، بالانتقام من السكان العزل والمدنيين وإبادتهم وتشريدهم، إلى دول الجوار". وفق مذكرة إعلان الثورة... التي جاء فيها: "نظراً إلى استمرار هذه السياسة لأكثر من 30 عاماً هُمشت فيها المنطقة تماماً، لدرجة منع المساعدات الدولية لمتضرري الجفاف، ونظراً إلى البطش والإهانات التي لم يعرف الطوارق غيرها منذ الاستقلال، ووعياً منا الجبهات المسلحة المعارضة بضرورة تمتع كل إنسان بحقوقه في الحياة طبقاً لمبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المصرح به في 10 كانون الأول ديسمبر 1948. وبعد فشل كل محاولات الطوارق في الاندماج مع مالي . ونظراً إلى حالة انعدام الأمن التي خلقها الجيش المالي. نظراً لكل هذه العوامل، فإن الجبهات الأزوادية تصرح علناً بالتزامها بالنضال من أجل عودة هذا الشعب إلى ترابه، مع ضمان حقوقه الثابتة لتقرير مصيره بنفسه، كما تؤكد التزامها بالمبادئ العالمية لحقوق الإنسان، واحترام جميع الاتفاقات المتعلقة بقوانين الحرب، والاهتمام بسلامة واستقرار البلدان المجاورة، وتقوية علاقات حسن الجوار معها". كانت تلك مقتطفات من الدوافع التي برر بها الشبان الطوارق ثورتهم التي أعلنها طوارق ماليوالنيجر، كل من جانبه، في عام 1991. وبحسب تقدير الصحافي عمر الأنصاري الذي غطى أخبار الثورة من مواقع حدوثها في ذلك الحين، فإن"اسم الطوارق لم يكن معروفاً أو مألوفاً لدى المشارقة العرب، عدا فئة قليلة من المثقفين، حتى قيام ثورة التسعينات، التي نشرت فيها الصحافة العربية تغطيات عن المجازر التي أبيدت فيها أحياء من الطوارق والعرب الرحل بأسرها". التاريخ السياسي لمشكلات الطوارق وإذا ما عدنا إلى الوراء قليلاً فإن مشكلة الطوارق بدأت في التعقيد منذ بدايات التوجه للاستقلال في منطقتهم عام 1958، إذ صعدت احتجاجات قوية من معظم سكان أزواد، ترفض مشروع تقسيم الصحراء، وكان على سكان الشمال أن يصوتوا إما بالبقاء تحت السيادة الفرنسية، أو تقسيمهم إلى شتات بين دول الجوار، ولا يوجد حل ثالث. كما يقول الباحث الطارقي المختار أق عبدالرحمن، المقيم في نواكشوط. ويضيف:"وافق الطوارق على الانضمام إلى مالي، والنيجر، مفضلين السيادة المسلمة، مهما كان لونها أو جنسها على السيادة الاستعمارية، أملاً في أن يتفاهموا مع الأفارقة بعد رحيل الاستعمار، وهو الوعد الذي تحصلوا عليه من الحكام الماليين، إذا ما صوتوا بالبقاء معهم. وفي العام نفسه قام كل من الأمير محمد علي أق الطاهر، والشيخ محمد محمود ولد الشيخ الأرواني أحد القادة والعلماء المبرّزين في الصحراء بعد التفاهم مع الإدارة الفرنسية، بجولات في الصحراء الكبرى، لإقناع القبائل العربية والطوارقية بالتصويت للاستقلال بجمهورية الصحراء، ولكن مبادرات من موديبوكيتا استعان فيها ببعض شيوخ الصحراء، منهم محمد المهدي بن الطاهر شقيق الأمير محمد على، والطاهر أق أيلي، و"تلجات"، حالت دون ذلك، لقناعتهم بأن فرنسا لن تسمح لهم بذلك، وليكسبوا ود الماليين، حتى يكون الانضمام المكره مع مالي عن طيب خاطر، وليس إجبارياً، فتنقلب مالي عليهم بعد رحيل فرنسا. لم يكن كيتا الذي أمسك بزمام الحكم بعد الاستقلال سوى طالب من طلاب المدرسة الشيوعية، الذين تشربوا مبادئها ذلك الحين، سعى سعياً حثيثاً في عهد الفرنسيين لنيل الاستقلال، ليصبح أول رئيس لجمهورية مالي بعد استقلالها عام 1963. وما كادت الأمور تستتب له حتى أخذ في تطبيق مبادئه الشيوعية السائدة حينذاك في المنطقة فكان أول قرار أصدره القضاء على الزوايا، وكل فكر كلاسيكي ورجعي، يحول دون تطبيق المبادئ الاشتراكية. وكان العلماء الطوارق والأفارقة على حد سواء أول من عارض هذا المشروع، الذي يحاول به كيتا القضاء على الهوية الإسلامية للماليين، فكان أن أمر باعتقال كل معترض، وتصفية جميع المناوئين لمشروعه من دون تفريق خشية أن يحولوا دون تنفيذ مخططاته، ومن شدة استعجاله في تطبيق التقدمية قال مرة:"لن يتسنى لنا إقامة الشيوعية إلا عبر عملية تهجين بين الجنسين الأبيض والأسود، يخرج من خلالها جيل شيوعي واحد"! كان موديبو كيتا ? كما تقول المصادر - قد أقنع الطوارق لدى الاستقلال بأن لا داعي للانفصال عن الأفارقة، وعلل ذلك بأنهم إخوان وجيران تجمعهم عقيدة واحدة، وسيتعايشون تحت راية الإسلام، كما كان في السابق تماماً. واطمأن الطوارق والعرب في أول الأمر لتلك الوعود، ولكن سرعان ما انكشف مخطط كيتا، الذي جعل الاحتلال الفرنسي أهون على الطوارق من المصائب التي توالت عليهم بعد الاستقلال على أيدي العسكريين الماليين، الذين تتابعوا على السلطة. فالفرنسيون لم يستخدموا الأساليب التعسفية إلا لدى الاحتلال، واستعملوا بعد ذلك الأساليب السلمية الأخرى في فرض الهيمنة على المنطقة. عهد تراوري من1969 إلى 1991 اتسمت فترة رئاسة موديبو كيتا بأحداث عنيفة ودامية، وأرهق عهده الأسود شعب مالي عموماً، والطوارق خصوصاً، وتعبوا من شيوعيته التي أنكرها الجميع، وإزاء ذلك قاد ضده الجنرال موسى تراوري انقلاباً عسكرياً أطاحه، وعلى رغم ما اتسم به عصر تراوري من مظالم، إلا أن بعض الشر أهون من بعض. فقد نهج تراوري مع الطوارق سياسة القتل البطيء، إذ استعمل معهم سياسة التهجير والتجويع والتجهيل، فضيّق عليهم الخناق، وأقفل في وجههم أبواب التجارة مع إخوانهم في دول الجوار، ومنع عنهم المساعدات التي تدفقت عليهم من الهيئات والدول، إثر تضررهم من الجفاف في السبعينات والثمانينات. كما جاء في كتاب"الرجال الزرق". وظل الطوارق طوال حكم تراوري صابرين، ظناً منهم أنه سينظر إليهم وإلى مشكلاتهم، وظلوا يلحون عليه في النظر إلى مشكلاتهم بعين الجد، فيعدهم ويمنِّيهم حتى كلّوا من ذلك، وعرفوا أن لا مناص لهم من إعلان الثورة عليه، وذلك ما حدث في حزيران يونيو 1990. فاضطرت مالي لإجراء محادثات مع الطوارق، بعد اعترافها بجبهات المعارضة التي تأسست ذلك الحين، وبالتهميش الذي نال الطوارق منذ الاستقلال. اتفاق تامنغست 1991 وقع اتفاق"تمنغست"من الحكومة المالية والحكومة الجزائرية والحركتين الشعبية والإسلامية للأزواد، ومن أبرز بنود هذا الاتفاق الوقف الفوري للأعمال الحربية بين الطرفين، ثم سحب القوات المالية من المنطقتين السادسة والسابعة مناطق الطوارق في الشمال وإعطاء الحكم الذاتي فورًا لهذه المنطقة. وقدم قادة الجبهات الأربع وهي: الجيش الثوري لتحرير أزواد، الجبهة الشعبية لتحرير أزواد، الحركة الشعبية لأزواد والجبهة العربية الإسلامية لأزواد. والشروط الآتية لوقف القتال: أ - الوقف الفوري لأعمال الإبادة الجماعية للمدنيين، وتوفير المقومات الاقتصادية للشعب الأزوادي. ب - تشكيل لجنة دولية نزيهة ومستقلة لتقصي الحقائق حول الإبادات الجماعية والأضرار البشعة التي لحقت بعموم الشعب الأزوادي. ج - إطلاق سراح جميع الطوارق المعتقلين. د - الانسحاب الكلي للجيش المالي من مناطق أزواد لتمكين اللاجئين الفارين من العودة إلى أرضهم. ه - طبقاً لمبدأ دولة القانون فإنه لابد من محاكمة المسؤولين عن المجازر والتجاوزات التي لحقت بالطوارق. و - دفع التعويضات الكاملة لضحايا الإبادة الهوجاء، والمتضررين كافة وذوي الحقوق. يذكر أن حكومة مالي رفضت نشر مضمون الاتفاق على رغم إلحاح بعض أعضاء الوفد الذين قاموا بالتوقيع عليه، ولم ينشر إلا البيان الصحافي من دون اطلاع المواطنين على ما توصلت إليه المحادثات فعلياً، فتصور الشعب المالي أن الحكومة"باعت"جزءًا من التراب الوطني، ما تسبب في تظاهرات ضد الحكومة واضطرابات أدت إلى الإطاحة بالرئيس موسى تراوري على يد المقدم توماني توري الذي خاض الانتخابات في ما بعد، وهو رئيس جمهورية مالي الحالي. حكومة توري الانتقالية من 1991 إلى 1992 بعد انقلابه على تراوري، أعلن توري بزوغ فجر صادق على مالي، ووعد بالديموقراطية في البلاد، فكانت أولى خطاه إلغاء اتفاق تامنغست وإعلان حالة الطوارئ في البلاد. وأمر"بتطهير"الصحراء من العرب والطوارق، الذين أصبحوا هدفاً للقتل أينما وجدوا، من الحكومة والسكان السود على حد سواء. وأظهر توماني توري للطوارق والعرب عداءً شديداً لم يشهدوا مثله قط، كما أظهر عدم الاكتراث بهم، فظلوا طوال فترة حكمه تحت رحمة جيشه الطائش الذي تفنن في إبادتهم، فارتكب ضدهم مجازر لم تشهد البلاد مثلها، وزاده إقداماً على جرمه عدم استنكار أحد"في العالم"لما يفعله، فالجميع اعتبر المشكلة داخلية، وجميع الذين أدلوا بدلوهم في الصلح - وهم الجزائر وليبيا - اتهمهم الطوارق بأنهم مارسوا ضغوطاً ضدهم، لأنهم يقدمون أمنهم الحدودي ومصالحهم على قضيتهم. ووجد المقدم توري نفسه في دوامة من المشكلات، إذ أوقع بالطوارق مجازر مريعة، حوّلتهم إلى لاجئين في الدول المجاورة، ونشرت الصحافة أخبار تلك المجازر الدامية ونزوح الأعداد الهائلة من اللاجئين، فانبرت لحكومة مالي فصائل جبهات أزواد تقاتلها بسلاحها من دون دعم من أية جهة، وبعد أن رأت مالي أن المجتمع الدولي لن يلتفت إلى ممارساتها. عندها فقط رضيت بإجراء محادثات جديدة مع الطوارق. فكان منها الاتفاق الثاني الذي لا يختلف عن ذلك الذي ألغي من قبل، بعد الانقلاب على تراوري. الاتفاق الثاني 1992 وعلى رغم الجديّة التي أظهرتها حكومة مالي تجاه الاتفاق الأخير، إلا أن هاجس الخوف سيطر على عدد كبير من الطوارق، الذين عللوا ذلك بما حصل في اتفاق تامنغست الأول في عهد تراوري. فالشروط هي نفسها التي تم توقيع الاتفاق عليها في البداية، لذلك اتهم كثير منهم المقدم توري بحب الانتقام من الطوارق البيض. ومن أجل ذلك أصر بعض الطوارق على الحصول على ضمانات دولية، غير أن أحد مندوبي حكومة مالي في موريتانيا نفى إمكان ذلك بقوله:"إن مشكلة الطوارق لا ينعكس تأثيرها على الأمن والسلم العالميين، فهي ليست سوى مشكلة داخلية فحسب". وكل ما حصل بعد توقيع الاتفاق الذي يقضي بإعطاء الطوارق حكماً فيديراليا لمنطقتهم مع بعض الامتيازات التي طالبوا بها، هو تشكيل دوريات من الطرفين للإشراف على وقف إطلاق النار، مع ما قام به بعض المسؤولين في الجانبين من زيارة مناطق اللاجئين في الجزائروموريتانيا لشرح بنود الاتفاق وإقناعهم بالعودة إلى الصحراء، من دون تنفيذ أية مشاريع، ناهيك عن دفع تعويضات لهم. الرئيس"الديموقراطي"1992 الديموقراطية هي حلم الشعوب التي عاشت دهراً طويلاً تحت وطأة الاضطهاد، وقد عاش شعب مالي أكثر من سبعة أعوام بعد الاستقلال تحت نير الشيوعية التي حملها موديبو كيتا، وتلاها نظام الرئيس تراوري أكثر من ربع قرن، ثم جاءت المرحلة الانتقالية التي استغلها توري، ففعل فيها ما لم يفعله غيره في 20عاماً، فأزهق آلاف الأرواح، ودمر كل ما يُستفاد منه من زراعة وآبار ومواش. انقشعت سحب تلك العهود، وجاءت الديموقراطية لتبث الحياة في مالي، ولكن هل نجحت الديموقراطية في إقناع الطوارق بأمل جديد في صحرائهم التي بدلاً من أن تقام لهم فيها وسائل الحياة الكريمة، أعدت مقابر جماعية لهم؟ فأكبر المصائب التي عاشها الطوارق والإبادة الجماعية التي تعرضوا لها، كانت في عهد التعددية هذه، فلم يكن الرئيس المنتخب وقتها ألفا كوناري يملك عصا سحرية، بل كان وطنياً صادقاً حاول إنقاذ بلاده وشعبه. لكن الجيش المالي الذي سلمه السلطة حينها لم يعطه صلاحيات الرئيس إلا في ما يتعلق بجلب المساعدات الخارجية لمالي، وتلميع صورتها في الخارج، وظل الحكم في الداخل تحت هيمنة جنرالات مالي العنصريين، الذين وجدوا الفرصة المناسبة تحت عباءة الديموقراطية للانتقام من الطوارق، الذين باعوا آباءهم، وتاجروا بهم في أسواق النخاسة في العالم بحد زعمهم. تلك خلاصة عهود المرارة السياسية التي مرت على قبائل العرب والطوارق في شمال مالي، قبل أن تتمكن الدولة الديموقراطية من القيام على أصولها، التي لا يزال الطوارق ينظرون إليها بعين الشك. الاندماج الهش وإذا ما تجاوزنا قصص الإبادة الجماعية والاغتصاب والنهب والسلب التي تمت في ذلك العهد ما بين 1990 و1995، ولا تزال موضع التناول بين عرب وطوارق المنطقة، فإن رئيس الحكومة الانتقالية أمادوا توماني توري الذي شهد الطوارق في عهده إبادة لم يسمعوا بها في تاريخهم، هو نفسه الذي عاد رئيساً للجمهورية عبر بوابة الديموقراطية. ومع أن الطوارق في الصحراء لا يزالون يشعرون بأنهم مهمشون إلا أنهم يرون بقاء الأمور على النحو الجاري أفضل من واقع القتل والتشريد السابق. هذا ما يقوله الأفراد من العرب والطوارق في كل أنحاء البلاد، أما قادة الجبهة العسكريون الذين عقدوا اتفاقاً محدد البنود مع حكومة مالي، فإنهم يختلفون في تقويم وفاء الحكومة بتعهداتها تجاههم، فبينما ترى طائفة أن رفع شعار"الثورة"هو الحل الأمثل لانتزاع العربي والطارقي حقه، ترى طائفة أخرى أن دور"الثورة"قد انتهى. وقبل الانتقال إلى شواهد حول ذلك، يذكر أن الطوارق أنفسهم يتهمون بعض زعاماتهم بخيانة"الثورة"، بمعنى أن بعض الزعامات باعت نضالها، من أجل مكاسب شخصية محدودة، في إشارة إلى القيادات الثورية التي كممت حكومة مالي أفواهها بإسناد مناصب كبيرة إليها، في مقابل عزلها عن برنامجها السياسي، الذي تعهدت أمام الشعب الطارقي الالتزام به. بيد أن المراقبين يعتقدون أن الثوار الطوارق انتصروا سياسياً وعسكرياً، إلا أن اختلافهم في تقسيم غنائم الثورة دفع الحكومات الماليةوالنيجرية إلى النجاح في تفكيك بنيانهم الذي كان مرصوصاً، فضاعت المكاسب الكبيرة التي أوشكت على التحقق لأمة كانت مهمشة. ويقول أحد القيادات الميدانية للجبهات فضل عدم ذكر اسمه:"على رغم أننا رفضنا الصلح في بداية الأمر إلا أننا عدنا الآن إلى العاصمة باماكوا بعد سنين من البقاء خارج البلاد، لكن الشروط التي ألقينا السلاح بموجبها لم ينفذ منها سوى القليل، لذلك فإن الثورة قد تعود مسلحة كما كانت، خصوصاً بعد اكتشاف النفط في الشمال، فإذا ظل الطوارق والعرب في الشمال يشعرون بالتهميش على رغم ذلك، فإن السلاح يمثل الحل الوحيد أمامهم، إذا لم يدرك رئيس جمهورية مالي الحالي أن تهميش مناطق العرب والطوارق في الشمال طال أمده، والعالم والزمن تغيرا، والمناطق لا تزال كما هي. لا تتطور ولا تتقدم، بسبب عدم العدل في توزيع الثروة، والأدهى من ذلك أن معظم المساعدات الدولية التي تتدفق على حكومة مالي، تأتيها باسم الشمال، ودعم التنمية في الصحراء!" ويرى أن"أي قبيلة طارقية لا تملك من السلاح والقوة ما يخيف الحكومة المالية فإنها لن يُلقى لها أي اعتبار من هذه الأخيرة، وبالتالي فإن الديموقراطية المالية لا تغني الطوارق عن الإعداد للمواجهة أو الثورة المقبلة". الثورة السياسية وعلى رغم الشعور بالتهميش من جانب معظم الطوارق الماليين إلا أنهم لا يكادون يتفقون على ما أشار إليه أحد زعمائهم الميدانيين، الذي تحدث إلى"الحياة"، إذ يعتقدون أن ما ينقصهم من اهتمام الحكومة يمكن إصلاحه بغير الثورة، فمحمدون أق حنتفي، وهو شخصية طارقية مرموقة في وزارة التربية والتعليم المالية، يرى أن"ازدهار الديموقراطية لا يجتمع مع إشهار السلاح"، على عكس الرأي الذي يذهب إليه البعض، فيما تناول رجل الأعمال بويي أق حمد أحماد سلاحه المرخص، وتحدث طويلاً بالفرنسية مع جلسائه، لكن أحد مرافقي أحمدو اختصر حديثهم لي بالقول:"إنهم يتجادلون في ما إن كانت الديموقراطية في دول العالم الثالث تغني عن السلاح أم لا، ولم يتفقوا على شيء". من جانبه، يعتقد الأمين العام لإحدى الجبهات سابقاً، ويعمل مديراً عاماً لمصلحة المياه في باماكوا، ويدعى أغاتام أن"الطوارق لم يعودوا في حاجة إلى ثورة مسلحة. إنهم بحاجة إلى ثورة سلمية من خلال أساليب اللعبة السياسية، والنضال من أجل انتزاع حقوقهم، مثلما تفعل بقية القبائل هنا في مالي". ويضيف:"نحن الطوارق نريد أحداً يجهز لنا الطعام ويؤكّله إيانا، وهذا مستحيل في عالم اليوم. في اعتقادي أن الثورة حققت نتائج مبهرة، أعظم من التي كنا نتوقعها، والحكومة المالية فعلت ما عليها، وبقي الذي علينا نحن معشر الطوارق والعرب". وتابع:"العنصرية التي كانت أشد ما نشتكي منه لم تعد موجودة بتاتاً، بل نحن الطوارق أصبحنا أشد عنصرية. شباننا الذين كانوا ممنوعين من دخول الكليات العسكرية، مفتوحة الأبواب أمامهم اليوم، ولدى العرب والطوارق في مالي حالياً أكثر من 200 ضابط في مختلف المؤسسات العسكرية المالية، من بينهم أشخاص برتبة مقدم وعميد ولواء، عدا العسكريين من دون الضباط، فهم كثيرون. وإذا نظرنا إلى نسبة البيض بين سكان مالي كلهم فإننا سنجد ما تحقق لنا جيداً". 10 في المئة أما حكومة مالي فإن مصدراً مسؤولاً فيها أكد لپ"الحياة"أن"الثورة الأولى للعرب والطوارق شمال مالي كانت بدافع تهميشهم حقاً، وهضم حقوقهم كمواطنين، لهم ما لغيرهم من الحقوق، ولكن الحكومة اجتهدت في مساعدة الطوارق بعد ذلك للنهوض بأنفسهم، وتحققت أشياء كثيرة في تلك الناحية، إلا أن بعض إخواننا العرب والطوارق لا يتفهمون أن مالي دولة فقيرة، وأنهم لا يمثلون 10 في المئة من سكانها، وبالتالي فإن قدر الاهتمام بهم يجب أن يكون متوازياً مع عامل العدد، وإمكانات الحكومة". وزاد:"على سبيل المثال في عهد الرئيس الحالي أمادوا توماني توري، أول عمل قام به بعد فوزه في الانتخابات هو تعيين طارقي رئيساً للوزراء، كبادرة دلل بها على حسن نيته نحو البيض بوجه عام في بلاده، وقدم تسهيلات كثيرة لمناطقهم، إلا أنه يضطر أحياناً إلى عمل ذلك على وجه السرية، خشية احتجاج القبائل الزنجية، التي بدأت تنظر للحكومة على أنها تفضل الطوارق والعرب عليها، خوفاً من بطشهم!". وقال:"أنا أنصح إخواني العرب والطوارق في بلدي بأن ينموا وعيهم السياسي، وأن يدافعوا عن حقوقهم بالأدوات السلمية والعصرية، وهذا ما سيحقق لهم الكثير مما يعتقدون أنه ينقصهم، أما الحرب والإخلال بالأمن فإنهما لا يحققان أي مكاسب، بل العكس تماماً، ونحن نرى ما حدث في ساحل العاج القريبة منا، وما يحدث في العراق الآن بسبب الحرب. السلاح لا يأتي بخير". وفي جانب النيجر من الصحراء لا يختلف واقع العرب والطوارق هنالك عما هو في مالي، كما أن سلوك الدولتين نحوهم واحد، فقبل أسابيع تسابقت وسائل الإعلام العربية والعالمية في نقل مشاهد المجاعة التي اجتاحت النيجر بأكملها، وكان لمناطق العرب والطوارق منها نصيب الأسد، إذ كان جل اعتمادهم على الثروة الحيوانية التي يعتبر الجفاف عدوها اللدود. الطوارق... أصول يتجاذبها البربر والعرب "الطوارق"هو الاسم الذي يطلق حالياً على قبائل الملثمين في الصحراء الكبرى، المتحدرة من قبائل صنهاجة البربرية في المغرب الأقصى، ويطلق الاسم تغليباً كذلك على مواطنيهم من العرب الذين ساكنوهم الصحراء، واختلطوا معهم، فعرف الجميع في الكتابات الحديثة بالطوارق، من باب إطلاق الجزء على الكل، وهم المجموعات القاطنة في منطقة أزَوَاد شمال مالي، وآيِير شمال النيجر، والهجار جنوب شرقي الجزائر، وجنوب غربي ليبيا. أما تسميتهم بهذا الاسم الطوارق فهي - كما يقول الصحافي عمر الأنصاري في كتابه عن الطوارق"الرجال الزرق"- محل اختلاف المؤرخين، فمن قائل إنهم سموا به لأنهم طرقوا الصحراء وتوغلوا فيها، ومن قائل إنه نسبة إلى انتساب بعضهم إلى طارق بن زياد، وقول آخر إنه نسبة إلى الوادي الذي تسكن فيه قبائل الملثمين القريبة من العواصم المغربية في الشمال، وهو وادي درعة جنوبمراكش، الذي يسمى بالطارقية"تاركَا"، وجمعه توارك، فأخذت هذه الكلمة من الكتابات الأوروبية التي نقلتها من المراجع العربية، لتمثل شكلها الحالي"الطوارق"بإبدال التاء طاءً. ويرجح بعض المتأخرين أنهم سموا بالطوارق كونهم أدلاء الصحراء والمتخصصين في طرقها ومسالكها، وكان تجار القوافل يستعينون بهم فسموهم الطوارق، فالواحد طرقي والجمع طوارق. وفي كتابات القدامى يصف ابن عذاري المراكشي الطوارق فيقول:".. وهم قوم يتلثمون، ولا يكشفون وجوههم، ولذلك سموهم بالملثمين، وذلك عادة لهم يتوارثونها خلفاً عن سلف، وسبب ذلك على ما قيل إن حمير كانت تتلثم لشدة الحر والبرد، وتفعله الخواص منهم، فكثر ذلك حتى صارت تفعله عامتهم". ويصف البكري هذه العادة بقوله:"جميع قبائل الصحراء يلتزمون النقاب، وهو فوق اللثام حتى لا يبدو منه إلا محاجر عينية، ولا يفارقون ذلك في حال من الأحوال ولا يميّز رجل منهم حميمه ولا وليّه إلا إذا تنقب، وكذلك في المعارك إذا قتل منهم القتيل وزال قناعه، لا يعلم من هو حتى يعاد عليه القناع، وصار ذلك ألزم لهم من جلودهم". وقول آخر: إنه على عكس الاعتقاد السائد، فإن هذا اللثام الذي يضعونه، ليس بلباس وقائي ضد رياح الصحراء وزوابعها الرملية، ولكنه عادة عريقة في القدم تعود إلى آلاف السنين، حيث كان قدماء الطوارق يضعونه بصفة رمزية لوقاية الأنف والفم، وبالتالي مداخل الجسم من تسرب الأرواح الشريرة. وقد ذكر"رُودْ"في كتابه عنهم أن الرجل منهم"إذا أراد أن يربط لثامه اختفى عن الأنظار حتى عن أهله، وهو مفخرة يتمدّحون بها كما يتمدح العربي بسيفه، ولا يعتبر الفرد كامل الرجولة، ولا عضواً فاعلاً في المجتمع إلا بعد ارتدائه اللّثام عند بلوغه سن الرّشد، وهو ما يقيمون له احتفالاً كبيراً يعلنه فرداً كامل العضوية في المجتمع الملثم". وهذه العادة مقتصرة على الطوارق البربر، ولا تلتزم بها معظم القبائل العربية الأخرى في المنطقة، الذين يقتصرون على التعمم دون التلثم.. ويلاحظ ذلك من يزور بلادهم. كما أن الطارقي اليوم لم يعد يستطيع تمييز نفسه بلثام أزرق كما كان في السابق، للحالة المزرية التي لحقت بهم، وأماطت اللثام عنهم. أما تعداد الطوارق - بحسب الأنصاري أيضاً - فغير معروف بالتحديد، وذلك لأسباب عدة، منها انتشارهم الواسع في الصحراء، وتباعد أماكن إقامتهم، وكثرة تنقلهم، ما يجعل الوصول إلى مناطقهم أمراً في غاية الصعوبة، ولكن عددهم نحو أربعة ملايين نسمة، موزعين على دول الشمال الأفريقي، وجنوب الصحراء الكبرى. ومناطق تكاثرهم هي مالي التي يحتلون ثلثي مساحتها، تليها النيجر، ثم الجزائر وليبيا وبوركينافاسو، إضافة إلى قبائل صغيرة وبيوتات منهم في مصر والسودان وتشاد ونيجيريا.