سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"الحياة" في صحراء الطوارق تتقصى الحقائق . أشرس مقاتلي الصحراء ينهزم أمام "التبليغ" ... ويعتزل السياسة والنساء!پ. الصحراء تعيش رعب اعتناق أسطورتها "إياد أق غالي" للسلفية الجهادية... بعد "التبليغ" 4 من 5
كأي عربي أو طارقي في صحراء أزواد غرب افريقيا، نشأ في ظروف بائسة. بعد إحدى عواصف الجفاف العاتية، قذفت به الأقدار فيمن قذفت إلى ليبيا حافياً جائعاً. سريعاً التحق بإحدى الكتائب التي تلقت بالأحضان شبان الصحراء الطوارق، الذين اشتهروا في الأساطير ببسالتهم الحربية. تفوق سريعاً وأتقن المهارات القتالية، حتى عدّه منافسون لهپ"جنرالاً"برتبة عريف! إنها بداية تاريخ أسطورة كيدال إياد أق بن غالي 47 عاماً، المنحدر من إفوغاس إحدى قبائل الطوارق في شمال شرقي مالي، بالقرب من الحدود الجزائرية، والوسيط الغامض في عملية تحرير الرهائن الألمان قبل عامين. لا يعرف أحد كثيراً عن قصة تحرير الرهائن الألمان في صحراء العرب والطوارق قوم إياد، في آب أغسطس من العام 2003، إذ لم تنقل وسائل الإعلام حتى الجزائرية، التي كانت بالقرب من الحدود، أكثر من أن"المجموعة الأخيرة من الرهائن أطلق سراحها بوساطة حكومة مالي، بفدية بلغت خمسة ملايين دولار، تسلمتها الجماعة السلفية للدعوة والقتال من وسيط مجهول في الصحراء، على الحدود المالية - الجزائرية". حتى الصحافيون الألمان الذين اهتموا بكل صغيرة وكبيرة تتعلق باحتجاز مواطنيهم في صحراء الطوارق، حيث تنشط منظماتهم الإغاثية والتبشيرية هناك، حاولوا فك اللغز، الى درجة انهم أبدوا استعداداً لدفع أي مبلغ من المال في مقابل لقاء الشخص الذي توسط مع محتجزي الرهائن. غير أنهم لم يظفروا بشيء، سوى أن أحد زعماء القبائل توسط في القضية بدافع إنساني محض. كدت أعود من الرحلة الطويلة التي استمرت 11 ساعة جوية بين الرياض وباماكو عاصمة جمهورية مالي، بخفي حنين، لولا أن أحد المقربين من أماني أق حميا - صديق إياد الحميم - حمّلني إليه توصية خاصة، بعد أن فشلت كل محاولات الاتصال بالهاتف النقال للسيد إياد، وبدلاً من الرسالة الاعتيادية حال خروج الموبايل عن التغطية، يهتف إمام الحرم المدني الشيخ عبدالرحمن الحذيفي بالآية الكريمة من هاتف بن غالي..."إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير"! وبعد أن طمأنني أماني بأن ملاقاة صديقه ستكون مهمة غير صعبة تنفست الصعداء، إلا أن النفس ارتد إلي مرة أخرى عندما أضاف أن صديقه لا يتحدث إلى وسائل الإعلام بتاتاً،"قد يوافق على مقابلتك كأخ في الله وصديق قادم من السعودية، وربما يسترسل معك في أمور الدين، والهمّ الإسلامي، سوى ذلك لا أنصحك بإجهاد نفسك"! رب فرصة خير من ألف ميعاد مضت اللحظات تترى سريعة، وتداعت قبائل العرب والطوارق في باماكو إلى اجتماع تحضيري، لبعث مندوبيها إلى الزعيم الليبي معمر القذافي الذي تعهد بدعم مشاريع التنمية في الصحراء، من أجل إرساء الأمن والاستقرار فيها، ضمن مشروع اشرنا إليه في الحلقة السابقة. حضر إياد الاجتماع الذي لم يكن سرياً متنكراً في زيه الطارقي، بلثامه الذي لم يُبق شيئاً غير عينيه! أثناء الاجتماع أدلى برأيه عندما سئل عن جزئية محددة، وبدا غير مفضل للاسترسال. بعد الفراغ من الاجتماع سلمت عليه ضمن الحاضرين، وتحدث إليه مرافقي، الذي لم يكن يعلم أن لي به أي صلة، وقال: إن هذا الأخ قادم من السعودية يريد أن يراك بمفردك. ومع أنه لم يرفض العرض تماماً، إلا أن اللقاء به لم يتم. بعد ذلك طلبنا تدخل أطراف أخرى، كان جل ما توصلت إليه أن استطعت الحصول على الرقم الخاص ل"الأسطورة". اتصلت به، وكان علم أنني صحافي من جريدة عربية، وقال:"أنا لا أتحدث إلى أي وسيلة إعلامية عربية أو أجنبية أو عجمية، لأن أهدافها جميعاً واحدة". وبعربية مكسرة فصيحة، أضاف:"إن كنت تريد رأيي في ما يجري على الساحة الصحراوية، فأنا شبه منفي منذ عام 1993، لم أعد أهتم بشيء مما يدور هنا أو هناك". ولمّا ناقشته بأنني لا أرغب منه أن يتحدث عن شيء غير نفسه، أجاب:پ"الأشخاص الذين أعطوك رقم هاتفي الخاص يعرفون عني كل شيء، وبإمكانهم أن يزودوك بكل المعلومات التي تهمك". وأضاف بتواضع:"أنا لست مهمّاً كما تتصور، أنا مجرد شخص عادي، أخاف كثيراً من المتآمرين، وأخشى أن يكون جوالي مراقباً". لم يكن إياد رجلاً عادياً يقابله من يشاء ذلك، بحسب اعتقاد المقربين منه، فإنهپ"مراقب من أطراف عدة، ويتحرك بترتيبات شديدة الدقة، ويستخدم وسائل الاتصال بحذر شديد". ماذا حدث لإياد؟ في واقع الأمر لم يكن اهتمامي بلقاء"الأسطورة"، بعد كسب ثقة المحيطين به من أصدقائه وأقربائه على حد سواء، إلا من أجل محاولة إقناعه بجدوى التقاط صورة له بعد أن أعفى لحيته، وأصبح مثل أي واحد من جماعة التبليغ الباكستانيين والبنغلادشيين، الذين تمكنوا من كسبه تابعاً ومؤيداً لهم في منطقة كيدال وفي كل البلاد. أما في ما يتعلق بسيرة حياته، فهي مجموعة ألغاز سرها كلمة واحدة هي: كسب ثقة استخباراته الخاصة. كان إياد أق غالي أسطورة بين قبائل الزنوج في دولة مالي كلها، ولدى الجزائريين الذين كانوا وسطاء بينه وبين حكومة دولته مالي التي قاد الثورة ضدها، كما هو كذلك عند الموريتانيين الذين احتضنوا إحدى مفاوضات الصلح بين الحكومة و قادة الجبهات، ثم بعد ذلك أسطورة لدى حكومة مالي نفسها التي قيل إنها"لا تخشى من أي عربي أو طارقي خشيتها من إياد"، إلا أنه في تلك المراحل كلها، لم يكن أسطورة عند الطوارق عموماً، وقبيلته خصوصاً، بل كان زعيماً حربياً مطاعاً وحسب، بيد أنه أضحى اليوم أسطورة حتى بين أولئك كلهم. إن الذين يمتلكون ثقافة عربية بين الفتيان الطوارق، يحاولون تقريب شخصية إياد الغامضة للبعيد بمقارنته بپ"الملا محمد عمر" زعيم حركة طالبان الذي بدأت حياته عادية حتى انكب فجأة على طلب العلوم الشرعية، وقاد حرباً ضروساً لتطهير المجتمع الأفغاني من كل السلوكيات الدخيلة على الإسلام، حتى رأى البعض أنه جنح إلى التطرف في محاولته إقامة مجتمع صحابي في كابول وقندهار. ومع أن أي حديث عن هذه المقارنة يرفضه المقربون من إياد، إلا أنهم يقرّون بأن التغيير الذي طرأ عليه في المرحلة الأخيرة بات مقلقاً لهم. ولدى سؤال أماني عن بدايات التحول الجديد في حياة صديقه يقول:"قصة إياد ليست طويلة، لكنها عجيبة. عشت معه كل أيام شبابه منذ بدايات الثورة قبل بداية التسعينات الميلادية. نمنا وأكلنا معاً سهرنا سوياً. عشقنا سوياً. كما لو أننا شخص واحد. له اهتمامات متعددة، فهو كان شخصية حربية، وأنا بطبعي سلمي. كذلك كانت حياتنا حتى نزل عليه التدين نزولاً مفاجئاً، والغريب في الأمر أن تدينه لم يكن بالصورة التي عهدناها في منطقتنا في الصحراء، فأهلنا مسلمون، يصلون ويصومون ويحجون، وإن كنت أنا وإياد لا نقوم بذلك، أما هو فاتجه إلى ناحية التصوف، والزهد والورع". صديق رئيس الجمهورية ينام في المساجد ويمضي بتعجب يحكي سلوكيات صديقه المفاجئة:"إياد هو الطارقي الوحيد الذي لو يشاء لتعشى كل ليلة مع رئيس الجمهورية، وهو الوحيد الذي لو أراد لكان جلساؤه السفراء والوزراء من كل الدول العربية والأوروبية، الجميع يعرف مكانته، والكل يقدر ثقله الثوري والأخلاقي والقبلي والعرقي، ولكن مع ذلك، في مرات كثيرة أبحث عنه فلا أجده إلا بصعوبة في مكان متواضع. ذات مرة أبكتني حاله، فقد كان أعز أصدقائي، إذ ذهبت أتفقده فوجدته نائماً في المسجد في ليلة شديدة الحرارة، كثيرة البعوض، وعليه ثياب بالية". ويتوقف أماني قليلاً ثم يضيف:"ما حدث لإياد لا يزال تفسيره غامضاً، اعتزل الجميع. قبل أشهر كنت في طريقي إلى المنزل عائداً من العمل، فإذا بشخص شبيه به يدخل أحد المراكز التجارية في حي فقير شمال العاصمة. عدت بالسيارة إلى الوراء فوجدته صاحبي، ووقفت مندهشاً: يا إلهي: هذا أنت؟ أجاب: نعم. ماذا تصنع هنا؟ أشتري تمراً وأخلطه بالزبادي، وأوزعه على أبناء الزنوج، أعلمهم بعض توجيهات الإسلام"! ويزيد:پ"أحياناً يخرج مع جماعة التبليغ التي أصبح عضواً فيها، ويبدو أنها التي استقطبته 40 يوماً إلى مدن وقرى نائية، ومع ذلك لا يزال يحتفظ لي بعهد الصداقة، ويتواصل معي باستمرار. قبل أيام أرسل إلي قرآناً مترجماً بالفرنسية، وكتاباً عنوانه"منهاج المسلم"باللغة الفرنسية، وكتب في إهدائه:"أرجو أن تقرأ هذا الكتاب جيداً، وأن تفهمه وتعلمه أبناءك وزوجتك، ثم بعد ذلك تبلغه إلى من تستطيع". أما أحد أبناء قبيلته ويدعى إسماعيل، فيرى أن"التغيير الذي طرأ على إياد منذ نحو عامين بدأ عندما نشطت جماعة التبليغ في غرب افريقيا، ولما عرفوا مكانته وزعامته العشائرية اجتهدوا في إقناعه بالالتزام دينياً على طريقتهم، وساعدهم في ذلك أنه كان في الأصل رجلاً طيباً، على رغم تفريطه في القيام بالواجبات وارتكاب المحرمات، بما فيها قتل الأنفس، إلا أنه كان يحب الدين وأهله، وتزامنت دعوة التبليغيين له مع ملله من حياته السابقة". تدين أسطورة كيدال... هل يصدق؟ ويختلف المراقبون عن بعدٍ في تفسير تنسك أسطورة كيدال الجديدة، فترى طائفة أن إياداً جرب الزعامة القبلية والحربية، وهو الآن يحاول أن يضيف إليها الزعامة الدينية، خصوصاً أن فكره بدأ في الانتشار سريعاً بين أبناء قبيلته، بعد اعتناقه الفكر الصوفي المهجن بالتبليغي، بينما ترى طائفة أخرى أنه أراد باتجاهه الجديد أن يلعب دوراً مزدوجاً بين حكومة مالي، التي رفض الصلح معها، والجماعات الجهادية المسلحة التي بدأت تنتشر في الصحراء المشتركة بين الجزائر والنيجر وموريتانيا ومالي، إذ يحظى بثقة الجميع في تلك المناطق، ويتخذ هذا الفريق قضية توسط إياد في تحرير الرهائن الألمان واحداً من الأدلة على زعمهم هذا. فيما يحتار فريق آخر في السلوك الطارئ على شخصية إياد، إلا أنه - بحسب اعتقادهم - من المستحيل أن يكون التدين الخالص هو الذي تنزَّل على إياد، الذي يعتبرونه في الماضي أبعد الناس عن الاستقامة التقليدية، فضلاً عن التصوف، ناهيك عن الدعوة والتبليغ! ويخشى هذا الفريق أن تكون المساعدات الآتية من الخليج وآسيا لعبت دوراً أساسياً في تدين إياد المحير لهم، ويزعمون أن المنظمات العاملة في هذا الاتجاه استثمرت أموالاً طائلة في منطقة قبيلة إياد كيدال، بإشراف منه. أما صديقه الخاص أماني الذي ينحدر من قبيلة"كل انتصر"ذات الأصول العربية، فيستبعد كل التكهنات التي سبقت، ويعتبرها"تخرصات، بدليل أن إياداً وكل الناصحين له يخافون على حياته الآن بسبب استقامته الدينية، فهناك من يرى أن علاقاته المضطربة دائماً مع الحكومة المالية قد تدفعهم إلى تصفيته، بالتعاون مع الاستخبارات الأميركية، على رغم أنه ليست له علاقة بجماعات العنف". وما إذا كان طرح هذا التساؤل على إياد نفسه من قبل، يقول أماني:"قلت له ذات مرة إننا نخشى على حياتك، فسخر مني بابتسامة لطيفة، وقال: الخطب الذي ينزل علي بسبب التزامي بديني، أنا مستعد له، والله غالب على أمره"! ويستطرد:"الذين يشككون في صدق التزام إياد لا يعرفونه حق المعرفة، إنه إنسان جاد حتى في حياته الأولى. الذي أخشى عليه أن يجرفه التيار المتشدد إلى صفوفه، وكنت صارحته بذلك، وطمأنني قائلاً: لا تخش علي. أما دلائل صدقه في دينه الجديد = على حد تعبيره = فيكفيك منها، إصراره على أداء كل صلاة في وقتها مرتين. يريد بذلك أن يقضي كل الصلوات التي لم يؤدها طوال حياته السابقة! لقد أصبح شخصاً مختلفاً تماماً، صار متواضعاً ولطيفاً، ولم يعد متعالياً". وهنا سألت أماني قائلاً:"كأنك أعجبت بطريقته"؟ فقال:"أنا معجب به كثيراً، لأنني كنت أعرفه على حال، والآن رأيته على حال أخرى، وحاول معي كثيراً الانضمام إليه، ولكنني ما زلت أفكر"! وحول تناقض أدوار إياد السياسية وعزلته الدينية لا ينكر أحد المقربين إليه ويدعى عبدالسلام أن"قبيلته إفوغاس هي التي تقحمه في السياسة إقحاماً، لأنها لا تملك شخصية بارزة محلياً وعالمياً في مثل قامته، فحين طلب الليبيون من الطوارق إرسال مبعوثيهم إليهم كان هو الشخص الأبرز، ومثل ذلك حكومة مالي التي تطلب تدخله في أي قضايا لها علاقة بالطوارق في منطقته، بصفته صاحب الكلمة المسموعة، أما هو إياد فلم يعد يلتفت لشيء من ذلك برغبة منه. فكل وقته يقضيه في العبادة والدعوة إلى الله". تحول محير ومع أن التغير الذي طرأ على حياة إياد أق غالي، كان قبل ذلك، إلا أن علامات التعجب بدأت تزداد في حصاره منذ ذلك الحين، فالذين رأوا في ثقة الجماعة السلفية به مؤشراً على أنه يتقاطع معهم فكرياً، لا ينكرون مخاوفهم من انضمامه إلى صفوفهم، الأمر الذي لو تم سيزيد من عقدة الإرهاب الصحراوي، الذي أتت الحكومة الأميركية لمكافحته - على حد زعمها - خصوصاً أن العرب والطوارق الصحراويين لهم تاريخ مجيد يتفاخرون به في مقاومة المستعمر الفرنسي، الذي شهد لهم بالبسالة الحربية، والمهارة في فنون القتال، ناهيك عن حكومة مالي التي جربت البطش بمناطق العرب والطوارق مرات عدة، فدفعت ثمن ذلك غالياً! وعلى رغم أن القواسم الدينية المشتركة بين الجماعات الأصولية التي تنشط في الصحراء وبين القبائل العربية والطارقية التي تسكنها، تلعب دوراً في تبادل المصالح في ما بينها، إلا أن عوامل الفقر والتهميش الذي تعاني منها المناطق العربية والطارقية في كل من مالي والنيجر، تنهض بالدور الأساسي في إشعال جذوة نار إرهاب آت من الصحراء، طرفاه: الجماعات الأصولية، التي تحارب الغرب والحكومات الموالية له، من جانب، والطوارق والعرب المحرومون، الذين علمتهم قساوة الصحراء فنون القتال القديمة والحديثة، وتدفعهم الفاقة إلى تلبية نداء أي أحد، من جانب آخر. القصة الكاملة للوساطة في تحرير الرهائن الألمان في الوقت الذي كان الأوروبيون وغيرهم من العرب يقضون أيام شهر آب أغسطس من العام 2003، بين المواقع الأثرية الخلابة، والأنهار الساحرة في أنحاء أوروبا، كانت مجموعة من السياح الأوروبيين معظمهم ألمان تخضع لابتزاز عبدالرزاق البارا زعيم الجماعة السلفية للدعوة والقتال جنوبالجزائر، ولم يكن بوسع المجموعة الأوروبية التفكير في شيء غير تمديد أجل حياتها، بعد أن ظنت ملك الموت جاء في صورة البارا ليقبض أرواحهم في صحراء قاحلة، لا تخضع لسيطرة أحد، سوى قبائل العرب والطوارق، أو الجماعات الجزائرية المسلحة التي بدا أنها عقدت حلفا ً مع الرجال الزرق الطوارق. مرت اللحظات خاطفة، وأجل السياح الألمان يدنو يوماً بعد يوم. الحكومات المجاورة والأوروبية والمنظمات الإنسانية جميعها أعلنت استعدادها لدفع أي فدية مالية، في مقابل ضمان سلامة الرهائن. الأمر يتعلق بحياة أوروبيين وليس بمصير أفراد من العالم الثالث، ولا بالطوارق الذين تعرضوا لحروب إبادة جماعية، ورياح مجاعة عاتية، من دون أن يدري أحد أو يقول لماذا؟ ولكن من يحظى بالثقة لدى جماعة البارا، أو يملك شجاعة لقياها في صحراء أزواد؟ من هنا لجأت ألمانيا والجهود الديبلوماسية إلى حكومة مالي، التي هي الأخرى، لا تعرف عن الصحراء غير اسمها، لكنها وعدت المجتمع الدولي ببذل ما في وسعها في القضية. لم تكن المهمة سهلة على حكومة مالي، فإياد وحماتا أق حنتفي ومساعده هباي أق محمد علي، كانوا أعلنوا الخروج عن الاتفاق الذي عقدته الحكومة المالية مع قادة الثورة، في عام 1994، بعد اعتقادهم أن بنود الاتفاق لم تنفذ، لكن حكومة مالي على رغم ذلك تعرف أن الحل يمر عن طريق إياد عدوها السابق، والمعارض لها حالياً، ولهذا عرض رئيس منظمة الوحدة الافريقية الدكتور ألفا عمر كوناري، الذي كان رئيساً لجمهورية مالي في ذلك الوقت، الأمر على مواطنه إياد، لكن الأخير اعتذر، بدعوى أنه لا يريد الخوض في أمور لا يدري ماذا يترتب عليها، مردفاً بنفيه لأي علاقة تربطه بالجماعة السلفية للدعوة والقتال. ومع أن حكومة مالي تتفهم ذرائع إياد في رفض الوساطة، إلا أنها لا تملك حلاً آخر، والأنباء تواترت بأن الرهائن أصبحوا في ناحية الصحراء داخل حدود مالي، وقريباً من ولاية كيدال مدينة إياد ذات الغالبية الطارقية، عندئذ عاد كوناري إلى"الأسطورة"مرة أخرى، طالباً منه إنقاذ بلاده من عار سيلاحقها مدى الدهر، لو تمت تصفية مجموعة من الأوروبيين في أراضيها! أخيراً استجاب إياد على مضض، وأخذ على الحكومة العهود والمواثيق بأنها ستلتزم هي ودول الرهائن ألمانيا وسويسرا والنمسا بمطالب الخاطفين، التي يتفق معهم عليها"حتى لا أخوض في مهمة قابلة للفشل"! جرت هذه المفاوضات كلها في باماكو عاصمة مالي، واتجه إياد إلى شمال شرقي مالي، حيث تقع مدينة كيدال بالقرب من الحدود الجزائرية - المالية، وأجرى اتصالاته بالبارا قائد الجماعة السلفية، الذي ينفي أي صلة به قبل ذلك، وقال له بلهجة شديدة، بحسب مصادر خاصة:"أنتم أسرتم مجموعة من الأبرياء، كانوا يتجولون في أرضنا، وهدفكم في ذلك الإساءة الى سمعتنا أمام العالم أجمع، وأنا بصفتي التي تعرفون أضع أمامكم خيارين: إما أن تطلقوا سراح الرهائن مباشرة، أو ترجعوا إلى حدود بلادكم في الجزائر، أما في حال لم يعجبكم أي من الخيارين، فاعتبرونا من اليوم أعداء لكم، وهذا لن يكون في مصلحتكم"! جماعة البارا التي تعرف جيداً من هو إياد، وتدرك أن أحداً لا يستطيع مواجهته في تلك المنطقة، استجابت لوساطة الطارقي الأسطورة، لكنهم كانوا يطمعون في فدية كبيرة جداً، لعلمهم أن السياح الرهائن من دول غنية، وهكذا بدأت المفاوضات حول تحديد قيمة الفدية للشخص الواحد، وطلب البارا وجماعته أرقاماً فلكية، هوى بها إياد سريعاً بلهجة حاسمة أيضاً، واتفق معهم على فدية إجمالية لكل الأسرى قدرها خمسة ملايين دولار. لم تكن الفدية التي حددها إياد، الذي جاء بوكالة مفتوحة من رئيس الجمهورية، مرضية للجماعة الأصولية، غير أنه ليس بوسعهم رفض وساطة إياد، وفي شكل سريع، وصل مبعوث الحكومة المالية إلى كيدال ومعه المبلغ المطلوب، لكن الفريقين لا يزالان أمام مهمة صعبة، كيف يتسلمون المبالغ، ويسلمون الرهائن، وكيف يضمنون سلامتهم، وهم يدركون أن حكومات المنطقة جميعها تبحث عنهم؟! ومرة أخرى، تعهدت الحكومة المالية بأن أحداً لن يتعرض لجماعة البارا داخل الحدود المالية! لكن الجماعة السلفية لم تطمئن واشترطت على إياد إبقاء خبر تسليمه الرهائن مكتوماً حتى تمضي ثماني ساعات بعد تسلمه لهم، حتى تتمكن العناصر من التوغل في الصحراء، حيث الأمان. وهذا ما تم.