سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
قراءة وليد الخالدي في مذكرات رشيد الحاج ابراهيم "الدفاع عن حيفا وقضية فلسطين" . حزب الاستقلال وثورة القسام وإبعاد اعضاء اللجنة العليا الى جزر سيشل 2 من 5
كان حزب الاستقلال الفلسطيني في نهجه نخبوياً وشعبياً في آن واحد. فهو نخبوي من حيث أنه لم يسع لانتشاره عددياً وحصر عضويته في فئة قليلة ونوعية منتقاة، وشعبي من حيث سعيه الحثيث لتعبئة الجماهير من أجل خلق جو عام ضاغط على حكومة الانتداب والزعامة الفلسطينية، عن طريق البيانات والمقالات، وبصورة خاصة عن طريق مهرجانات خطابية في مناسبات مختارة يدعى إليها فحول الخطابة من فلسطين والبلاد العربية. وكان أول مهرجانات الحزب الكبرى في ذكرى صلاح الدين وواقعة حطين، وانبثقت الفكرة من مؤتمر لجمعيات الشبان المسلمين عقد في عكا برئاسة رشيد. وقد عقد المهرجان في حيفا في 27 آب اغسطس 1932، وحضره خمسة آلاف شخص، وخطب فيه بين من خطب رشيد وإسعاف النشاشيبي وأحمد الشقيري وأكرم زعيتر من فلسطين، وخير الدين الزركلي من سورية. وبازدياد النقمة الشعبية على الهجرة اليهودية وبيوع الأراضي بتشجيع من الحكومة ازداد الإحباط نتيجة فشل اللجنة التنفيذية والقيادة الوطنية في التأثير في الحكومة لتبديل سياساتها. واقترح مؤتمر وطني عقد في نابلس أن تطالب اللجنة التنفيذية الحكومة بوقف الهجرة وبيوع الأراضي، مع المطالبة باللاتعاون معها. وكان لحزب الاستقلال ممثلون في اللجنة هم رشيد وعوني عبدالهادي ومعين الماضي ومحمد عزة دروزة وفهمي العبوشي، وكان عدد أعضاء اللجنة ثمانية وأربعين عضواً، معظمهم من"المجلسيين"أو"المعارضين"بالتساوي تقريباً. وفي شباط فبراير 1933، زار وفد من اللجنة التنفيذية المندوب السامي مطالباً بوقف الهجرة والبيوع، وملوّحاً باللاتعاون من دون نتيجة. وكان الوفد مؤلفاً من موسى كاظم باشا الحسيني رئيس اللجنة، ورشيد، وعمر البيطار، وعيسى البندك، وعوني عبد الهادي، ومعين الماضي. وفي خريف سنة 1933، قرر الأعضاء الاستقلاليون في اللجنة التنفيذية تعليق حضورهم جلساتها احتجاجاً على عدم فعاليتها تجاه الحكومة. وفي الوقت نفسه قررت اللجنة، نتيجة هذه الضغوط، تحدي الحكومة بالقيام بسلسلة من التظاهرات العامة، بدءاً بتظاهرة في القدس في 13 تشرين الأول اكتوبر 1933. وفعلاً قامت تظاهرة القدس بقيادة موسى كاظم باشا البالغ من العمر ثمانين عاماً، الذي أصيب خلالها برضوض سرّعت وفاته في السنة التالية، وتبعتها تظاهرات في كل من يافا وحيفا وغزة ونابلس. وقمعت الحكومة هذه التظاهرات بالسلاح الناري والخيّالة، وبلغ عدد شهداء تظاهرة يافا وحدها نحو الثلاثين شهيداً. وفي أعقاب هذه التظاهرات قام وفد يمثل اللجنة التنفيذية بزيارة المندوب السامي ثانية، مكرراً المطالب ذاتها. وكان جواب المندوب الرفض ذاته، وكان رشيد في عداد هذا الوفد أيضاً. في كانون الثاني يناير 1934 أجرت الحكومة انتخابات للمجالس البلدية في البلاد للمرة الأولى منذ سنة 1927. وكانت أصدرت في سنة 1932 قانون بلديات جديداً أناط بالحكومة صلاحيات موسعة في التعيين والعزل والإشراف الإداري والمالي الصارم، على الرغم من احتجاجات العرب، وحتى اليهود. إلاّ إن اليهود سلّموا به لما يمنحهم من حماية في المدن المختلطة حيث ما زالوا أقلية. قرر رشيد وصحبه خوض معركة انتخابات بلدية حيفا. وبات لدى اليهود أربعة أعضاء في المجلس البلدي قياساً بعضوين خلال الانتخابات السابقة سنة 1927، في مقابل ثمانية أعضاء من العرب مسلمين ومسيحيين بالتساوي في الحالتين. وأسفرت الانتخابات عن نجاح رشيد وزميله عبد الرحمن الحاج وبدري العائدي، وكان الأخير من مؤيدي القسّام أيضاً، وبقي حسن شكري المدعوم من الحكومة والصهيونيين محتفظاً بالرئاسة. ونجح أيضاً من العرب حنا عصفور ممثلاً عن العمال العرب، وميخائيل توما، وإبراهيم صهيون. استمر هذا الوضع حتى حزيران يونيو 1936 حين استقال جميع أعضاء المجلس العرب تجاوباً مع إعلان الإضراب العام في البلاد. في إثر وفاة موسى كاظم باشا الحسيني، في آذار مارس 1934، أخذت اللجنة التنفيذية التي كان يرئسها تضعف إلى أن تلاشت تلقائياً. وظهرت على المسرح السياسي، خلال سنتي 1934 و1935، عدة أحزاب حلت محلها في قيادة الحركة الوطنية وتوجيهها. وهكذا ظهر بالتتابع حزب الدفاع برئاسة راغب النشاشيبي، والحزب العربي برئاسة جمال الحسيني، وحزب الكتلة الوطنية برئاسة عبداللطيف صلاح، وحزب الإصلاح برئاسة حسين فخري الخالدي، وحزب مؤتمر الشباب برئاسة يعقوب الغصين. وأصبح في البلاد ستة أحزاب، بما في ذلك حزب الاستقلال الذي سبق ذكره. وكان الحزب العربي، المرتبط بالحاج أمين الحسيني، أكبر هذه الأحزاب وأهمها. أمّا حزب الدفاع فغدا حزب المعارضين للحاج أمين. وفي حين كانت هذه الأحداث تتلاحق وتتفاعل بعضها مع بعض، كان الشيخ عز الدين القسّام قد وصل إلى قناعة يقينية بأن لا سبيل غير الجهاد المسلح ضد بريطانيا لجعلها تبدل سياساتها في البلاد. وأخذ يبث قناعاته هذه في أوساط الكادحين من عمال وقرويين من قرى الجليل وفدوا للعمل في مرفأ حيفا ومصانع تكرير البترول فيه، يقطنون في حزام من الأكواخ البائسة المحيطة بالمدينة. ويروي صاحبنا أن"الشيخ عز الدين رحمه الله كان يعقد اجتماعاته مع إخوانه في بيوتهم أو في الأماكن النائية عن أعين الجواسيس وكثيراً ما كانوا يعقدون هذه الجلسات في حي الحليصة العربي وبجامع المرحوم الحاج عبدالله أبو يونس أو في المغاور الكائنة بحي وادي رشميا وحي الغزازوة. وكان للشيخ الشهيد معي شخصياً جلسات خاصة توجيهية تتم فيها الخطط والتنظيمات". لم يقتصر نشاط صاحبنا سنة 1935 على ما سبق. ففي هذه السنة زار الأمير سعود، ولي عهد المملكة العربية السعودية، فلسطين فقدم إليه رشيد مذكرة تقع في 40 صفحة تناولت الهجرة اليهودية، والتسلح اليهودي، وحركة انتقال الأراضي، ونشاط الوكالة اليهودية وأحزاب اليهود،"وتطور الحالة بالنسبة للعرب مما ينذر بالمصير السيئ الذي سيصلون إليه إذا لم يتدبروا العرب أمرهم ويسارعوا إلى وقف بريطانيا عند حدها في تحيزها الظاهر لليهود". وزار فلسطين في السنة نفسها وفد برلماني عراقي بقصد التعرف على أحوال البلاد، ويروي رشيد:"فاستدعيت هذا الوفد الكريم لزيارة حيفا وقدمت لأعضائه مذكرة في كراس مطبوع لا تخرج في موضوعاتها عن مذكرتي لسمو الأمير سعود... وقد نُشرت مذكرتي هذه في كافة الصحف العراقية في أعداد متوالية متعددة ونوقشت الحكومة من قبل النواب في مختلف المواضيع التي تناولتها". وزار حيفا في السنة نفسها أيضاً عدد من الشباب القوميين العرب من سورية ولبنان، يذكر رشيد منهم عبدالرزاق الدندشي وعلي ناصر الدين ويوسف يزبك، ويضيف:"كانوا يزوَّدون من قِبلي بالمعلومات والمستندات عن قضية فلسطين ويثيرونها في الصحف العربية في شتى الأقطار". ولا يفوت صاحبنا أن يقول:"كان إلى جانبي من شباب حيفا الوطني من كنت أوجههم وأتعاون معهم أصدق تعاون... من هؤلاء الشباب مطلق عبدالخالق والسيد محمود المنوّر الذي لم يكن ليبتعد عني". ومن الشباب الفلسطينيين الذين كان رشيد على علاقة وثيقة بهم أيضاً، أكرم زعيتر، الذي ضم إلى مؤسسي حزب الاستقلال الفلسطيني سنة 1932 كما مر ذكره. وكان أكرم غادر فلسطين للعمل في العراق في مجال التدريس، وكان الاثنان يتراسلان بانتظام، وكان رشيد يحث أكرم على العودة إلى فلسطين. ونجد في"يوميات"أكرم المنشورة روايات عن علاقته برشيد تلقي الضوء على تفكير رشيد ونشاطه في هذه الفترة. يروي أكرم بتاريخ 10 شباط فبراير 1935 أنه تلقى رسالة من"الأخ رشيد الحاج إبراهيم، زعيم الحركة الوطنية في حيفا... وبعد إعرابه عما توسم بي من خير وما ينتظرني من دور، تحدث عن التدهور في الحركة الوطنية، وعن يأسه من الشباب... ويرى رشيد أن فلسطين لا تنقذ إلاّ بمؤازرة العراق الذي يستطيع هو وحده أن يهدد مصالح بريطانيا فيه ولا سيما مصالحها البترولية". ويستطرد أكرم، مستشهداً بما ورد في رسالة رشيد إليه:"كان المرحوم الملك فيصل اتخذ أخيراً لنفسه هدفاً سياسياً، وكان جاداً في سبيل الوصول إليه، وأنت تعرف ذلك الهدف، وهو التشدد بمطالبة الإنكليز بضم شرق الأردنوفلسطين إلى العراق وليكون للعراق ميناء على سيف البحر الأبيض المتوسط". ويضيف أكرم:"إن رسالة الأخ رشيد قوّت يقيني بضرورة العودة إلى فلسطين". وفي 5 تموز يوليو 1935، يصل أكرم إلى نابلس فيتلقى برقيات ترحيب بالعودة"واستنهاض للعمل"من رشيد وعجاج نويهض وغيرهما. ولا يلبث أكرم أن يتلقى من رشيد كتاباً"باسمه وباسم لفيف من شباب حيفا الذين اجتمعوا وقرروا إقامة حفلة تكريم لي في 19 الجاري تكون حافزاً للشباب للسير على خطتكم، والدعوة إلى التضحية في سبيل مثلنا الأعلى".وبتاريخ 14 آب اغسطس 1935 يروي زعيتر:"اتفق رأي الإخوان على أن يكون الاحتفال بمولد النبي ص في بيت رشيد الحاج إبراهيم بحيفا أحد منطلقاتنا في الدعوة إلى الكفاح. الاحتفال امتاز بحضور المئات من العمال في حيفا. وبعد تلاوة السيرة النبوية دعاني رشيد إلى التحدث إلى الحفل. تركز القول على ضرورة بعث الحركة الوطنية على أن نعتمد على أنفسنا وعلى سلوك طريق العمل الجدي المنظم المثمر القائم على تحدي السلطة الغاشمة... آن لنا أن نرسم خطة التحدي قبل الحديث عن التحدي". ويذكر أكرم أن مهرجاناً خطابياً ضخماً عقد في نابلس في 2 تشرين الثاني نوفمبر 1935 بمناسبة ذكرى وعد بلفور، وحضرته وفود من جميع أنحاء فلسطين، كما وردت على القيمين عليه برقيات من بغداد والقاهرة وعمّان ودمشق، وتُليت فيه كلمة مطولة من جميل مردم بك باسم الكتلة الوطنية في سورية، وبرقية من رشيد. وفي اليوم الحادي عشر من تشرين الأول اكتوبر 1935، أي قبل مهرجان ذكرى وعد بلفور بثلاثة أسابيع، أدى الشيخ عز الدين القسّام صلاة العشاء في جامع الاستقلال في حيفا، حيث كان يتولى الخطابة والإمامة، وتوجه من الجامع مع عشرة من صحبه إلى الجبال ليعتصموا فيها، و"ليعلنوا الثورة المسلحة على الإنكليز باعتبارهم أعداء العرب والإسلام العاملين في ركاب الصهيونية لتهويد البلاد وإجلاء أهلها العرب". ويضيف رشيد:"لم يكن من زعماء البلاد ووجهائها من يعلم من أمر هذه الحركة عدا القائمين بها وغيري شخصياً". ويذكر عجاج نويهض أن الشيخ كتب إلى رشيد قبل خروجه يقول:"إنني واثق من نفسي، وإن صوتي سيجد صداه في كل مكان عند أول صيحة، ونستودعك الله، راجين من المولى تعالى أن يوفقنا في أعمالنا في سبيل الوطن". ويروي رشيد:"كنت على علم بالموعد الذي قرره الشيخ المجاهد عز الدين بداية للثورة وكانت أخبار تنقلاته تصل إليّ يومياً يوماً بعد يوم". ويذكر أيضاً أن أحد أتباع القسّام العشرة بعد خروجه من حيفا"هاجم... يهودياً اسمه روزنفلد كان يعمل رقيباً في مركز بوليس مرج ابن عامر مما أثار الشيخ عز الدين لرغبته في حصر العداء أول الأمر بالإنكليز. ثم واصلوا عملهم في إتلاف خطوط الهاتف وتعطيل المواصلات مما أقض مضاجع الإنكليز وأقام قيامتهم فجهزوا حملة قوية استنفروا لها قواتهم من نابلس والقدس وحيفا وجنين سارت بهدى الطائرات واستطاعوا تطويق المجاهدين البواسل في أحراج قرية يعبد بالقرب من جنين". ويضيف رشيد:"وكانت أنباء تطويقه مع رفاقه... تقض مضاجعنا وتقلق بالنا". وتسفر المعركة غير المتكافئة عن استشهاد الشيخ عز الدين ورفيقيه الشيخ يوسف الزيباوي وسيد حنفي عطية، وجرح اثنين آخرين هما الشيخ نمر السعدي والشيخ أسعد المفلح، وأسر الباقين. يروي زعيتر بتاريخ 20 تشرين الثاني نوفمبر 1935 عن خروج القسّام:"عرف أنه غادر حيفا منذ مدة ولم يعرف مقره، فأخذ الناس يعللون سبب اختفائه، وفيهم من أساء الظن به، وقال البعض إنه أحس بأن الناس ضاقوا ذرعاً به وأخذ بعضهم يحملون عليه فاختفى... وقال أحدهم لزعيتر: جمع الشيخ منذ مدة دراهم لشراء أسلحة، وكان... يجمع الدراهم بحجة إجراء إصلاحات في المسجد، ثم لم ير الناس إصلاحات ولم نر أسلحة... فقلت... معاذ الله، إنني أعرف صديقي المؤمن الشيخ...". ويأتي زعيتراً، بعيد هذا التحاور، صحافي صديق يبادره صائحاً:"أخبار خطيرة جداً. استشهد الشيخ عز الدين القسّام وأربعة من إخوانه". ويستطرد أكرم:"فصرخت: استشهد القسّام؟ فقال نعم... فاتصلت تلفونياً بالأخ رشيد الحاج إبراهيم في حيفا وأنبأته بالحادث الذي لم يكن قد علم به، فتلقاه باكياً وسمعت نشيجه، ووعدني بإجراء الاتصالات اللازمة فوراً لمعرفة مصير جثث الشهداء... أعدت الاتصال التلفوني برشيد الحاج إبراهيم، وقد أوشك الليل أن ينتصف، فأعلمني أنه قد تم الاتفاق مع السلطات على أن يتسلم أهالي الشهداء الجثث، واشترطت السلطات شرطين: أولهما أن يكون الدفن في الساعة العاشرة من صباح الغد"وثانيهما أن تسير الجنازة من بيت الشيخ عز الدين القسّام الواقع خارج البلدة رأساً وشرقاً إلى المقبرة في بلد الشيخ فلا يستطاع، والحالة هذه، السير بالشهداء داخل المدينة". ويروي رشيد:"جيء بجثث الشهداء إلى حيفا ليلاً فلمّا كان صباح الثاني والعشرين من تشرين الثاني نوفمبر من عام 1935 كان الناس في حالة من الذهول والذعر لم يعرف لها مثيل... كنت استدعيت إلى مكتبي... الشابين عاطف نورالله ومحمود المنوّر وأوفدتهما لدعوة رئيس الجمعية الإسلامية لمقابلتي... اتفقنا على طبع نعي باسم الجمعية الإسلامية نحمّل فيه تبعة هذه الجريمة للحكومة... وسرنا إلى بيوت الشهداء مهللين مكبرين". ويضيف رشيد:"أبرقت ناعياً ومعزياً للأحزاب العربية المختلفة وللزعماء والشباب الوطني ورؤساء الغرف التجارية والبلديات وداعياً لحضور المأتم وطلبنا رفع الأعلام السوداء وإعلان الحداد العام... وأخرنا الدفن بالفعل لموعد تتمكن فيه سائر المدن من مشاركتنا في التشييع. قدر عدد الذين اشتركوا في الجنازة بين 20-25 ألف نسمة". ويروي زعيتر:"علمنا أن رشيد الحاج إبراهيم قد تقدم والدموع تفيض من عينيه ولفّ النعش الأول القسّام بالعلم العراقي والثاني الزيباوي بالعلم السعودي والثالث عطية بالعلم اليماني". ويروي عجاج نويهض:"كان منظراً لا يمكن أن ينسى من أذهان الجماهير عندما تقدم رشيد الحاج إبراهيم باكياً يلف النعوش الثلاثة بالأعلام العربية المختلفة". وترفض الجماهير المشيعة التقيد بشروط الحكومة لسير الجنازة، ويتابع رشيد روايته فيقول:"حملنا الشهداء على أعناق الرجال من بيوتهم إلى جامع الاستقلال ثم إلى جامع حيفا الكبير في الجرينة ومنها عاد بهم الجمهور الهائج الثائر الناقم إلى شارع الملوك فساحة فيصل مواصلاً سيره إلى شارع الحجاز ثم إلى مقبرة بلد الشيخ". وكانت المسافة إلى المقبرة خمسة كيلومترات، واستغرق السير من الجامع الكبير إليها ثلاث ساعات ونصف ساعة.ويتابع رشيد:"حاول الجند استلام الجثث لنقلها بالسيارات فلم يفلحوا ثم حاولوا تسيير الجنائز حسب خططهم فلم يفلحوا أيضاً مما أدى إلى اشتباكات جرح على أثرها عدد من أفراد البوليس". ووصف بلاغ رسمي أصدرته السلطات جماعة القسّام ب"عصابة من الأشقياء"، وكتب زعيتر مقالاً في جريدة"الجامعة الإسلامية"في يافا ظهر في اليوم التالي:"يقول البلاغ الرسمي: إنها عصابة من الأشقياء، وتقول الأمة الحية التي مشت اليوم في موكب التشييع: كلا. إنهم أبنائي وذوادي. إنهم مهجي وشهدائي". ولوحظ تغيب الزعماء ورؤساء الأحزاب باستثناء الاستقلاليين عن الجنازة. وحاولت الجمعية الإسلامية في حيفا، القريبة من الأحزاب، التعويض عن هذا التقصير ففتحت أبواب التبرعات لعائلات الشهداء والسجناء والجرحى، كما قررت إقامة حفلة تأبينية إحياء لذكرى الشهداء. ويعلّق رشيد على ذلك بقوله:"وكان إخوان الشيخ الشهيد ومريدوه وأنصاره في مختلف البلاد غير راضين عن هذا التحول... لأنهم خشوا أن تكون أصابع الساسة من ورائه لتحويل حركة الشيخ نفسها عن أهدافها ومراميها الحقيقية. فقررت من ناحيتي أن أقوم بحملة لجمع التبرعات أولاً وأن أدعو باسمي واسم إخوان القسّام ومريديه لإقامة حفلة تأبينية كبرى تهدف إلى تخليد الشهداء من جهة وتثبيت المبادئ التي دفعتهم إلى الجهاد والاستشهاد". وفعلاً أقيمت حفلتا تأبين، أولاهما سماها رشيد"حفلة الزعامة"ولم يزد حضورها بحسب قوله عن 400 مدعو، وثانيتهما"الحفلة الشعبية التي أقمناها باسم إخوان القسّام ومريديه زاد الحضور فيها عن 15 ألف نسمة". وخطب فيها رشيد وسائر زملائه من مؤسسي حزب الاستقلال، وأُرسلت كلمات ممن تعذر عليه الحضور من خارج فلسطين، ومنهم رياض الصلح وسعدالله الجابري وشكري القوتلي وعبدالحميد سعيد وعبدالقادر المازني والشيخ رشيد رضا، وغيرهم. وهكذا أظهرت الثورة القسّامية هوةً تتزايد سعة بين الزعامة الفلسطينية والأحزاب الفلسطينية الحديثة العهد من جهة، وبين قطاعات واسعة من الجمهور الفلسطيني وحزب الاستقلال من جهة أُخرى. كما شكلت الثورة محطة مهمة في تطور العلاقة باتجاه التشاد بين صاحبنا رشيد الحاج إبراهيم وصاحبه الحاج أمين الحسيني. وصل عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين سنة 1935 إلى أعلى رقم 61.000 مهاجر سنوي خلال الأعوام السبعين ما بين بدء الهجرة اليهودية إلى فلسطين في أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر وبين قيام إسرائيل سنة 1948. وفي آذار مارس 1936 أجهض البرلمان البريطاني، أبو الديموقراطية الغربية، بفعل الضغوط الصهيونية في لندن، مشروعاً"ديموقراطياً"خجولاً اقترحته الحكومة لمجلس تشريعي متواضع في فلسطين قبلته الزعامة الفلسطينية من حيث المبدأ بحجة أنه يشكل خطراً على الوطن القومي اليهودي، مع أن حصة العرب فيه وهم أكثرية الثلثين في البلاد لم تزد على النصف، نصفهم معيَّن والنصف الآخر فقط منتخب، فكان هذا الحدث الشعرة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني. ولم يحل هذا التأزم المتصاعد للحالة الفلسطينية دون قيام رشيد ورفاقه بواجبهم تجاه سورية. ذلك بأنه في إثر وفاة الزعيم السوري إبراهيم هنانو أقام الوطنيون السوريون في كانون الثاني يناير 1936 حفلة تأبين إحياء لذكراه، وجعلوها انطلاقة الثورة الشعبية الجديدة على الفرنسيين، وأعلنت الكتلة الوطنية السورية فيها الميثاق الوطني والإضراب العام وتسيير التظاهرات، فاعتبر الاستقلاليون الفلسطينيون أن"واجب سورية الجنوبية فلسطين أن تغضب لسورية الأم". وتم الاتصال بنبيه العظمة، المقيم بالقدس، لعقد اجتماع تضامني كبير في نابلس. وفي 26 كانون الثاني يناير 1936 توالت الوفود إلى نابلس من كل أنحاء فلسطين لحضور الاجتماع، ومثّل حيفا رشيد ومعين الماضي، وتقرر جمع التبرعات لعائلات الشهداء والسجناء السوريين. يروي زعيتر:"واتفقنا على أن نرسل المبلغ المجموع إلى شكري بك القوتلي على دفعات مستعينين بالسيد رشيد الحاج إبراهيم في حيفا. وهكذا، فقد أرسلنا اليوم الدفعة الأولى". وفي 18 شباط فبراير 1936، تلقى زعيتر وصلاً موقعاً من القوتلي بمبلغ 160 جنيهاً فلسطينياً يقول فيه:"وصلني من رشيد الحاج إبراهيم مبلغ مئة وستين جنيهاً فلسطينياً لا غير محسوباً على الإعانة التي جمعت بواسطة لجنة منكوبي سورية. والغريب أن شكري بك قد وقع الوصل وعليه طابع فلسطيني بسبعة ملات، بحسب الأصول! وقد استدللت من هذا على أن الوصل قد أُعد بطابعه من قبل السيد رشيد". وهذا ما يدل على دقته في المعاملات المالية. ازداد الشعور في البلاد، نتيجة تدهور الأوضاع العامة، بضرورة اتباع سياسة أكثر حسماً تجاه الحكومة البريطانية. وقرر لفيف من شباب نابلس، وفي طليعتهم أكرم زعيتر، في 19 نيسان ابريل 1936 الدعوة إلى تأليف لجان قومية في كل مدن فلسطين تتولى إدارة النضال ضد حكومة الانتداب، وإلى إعلان إضراب عام في فلسطين بإشراف هذه اللجان حتى توقف الحكومة الهجرة اليهودية، ولاقت الدعوة تجاوباً فورياً، وتألفت اللجان القومية في أنحاء فلسطين كافة. وكان رشيد على رأس لجنة حيفا القومية التي ضمت، أيضاً، معين الماضي وإبراهيم صهيون والحاج خليل طه وميخائيل توما وحنا عصفور. ويروي رشيد:"بادرنا لتأليف لجنة قومية عربية في حيفا تمثلت فيها الجمعيتان الإسلامية والمسيحية والتجار وأصحاب المصالح في البلد. ودعي إلى الإضراب العام الشامل الذي بدأ في الحادي والعشرين من نيسان ابريل سنة 1936. وكان من واجبات اللجان القومية تأمين استمرار الإضراب وضمان حياة العمال المضربين وفي الوقت نفسه أُشعلت نيران الثورة بصيحة أطلقها شاب ثائر عند منتصف طريق القدس - نابلس وقرب موقع اللبّن قائلاً واقسّاماه وأشفعها بطلقات من بندقية حربية صوبها لسيارة بوليس". وكانت هذه بداية الثورة الكبرى التي لم تهدأ إلاّ أواخر سنة 1939 بعد عدول بريطانيا عن التقسيم. بعد أيام قليلة من بدء الإضراب العام، شعر رشيد وصحبه في حيفا بالحاجة الماسة إلى قيادة عليا تمسك دفة الأمور، فتقرر في جلسة للجنة القومية في المدينة إرسال"وفد إلى القدس للاجتماع برؤساء الأحزاب السياسية العربية وحملهم على تأسيس هيئة تقوم مقام الأحزاب بحمل عبء النضال"، وتألف الوفد من رشيد ومعين الماضي وحنا عصفور ومحمد التميمي. ويروي زعيتر، بتاريخ 24 نيسان ابريل 1936، أنه التقى رشيداً ومعيناً في نابلس وهما في طريقهما إلى القدس، وأنهما أخبراه بما هما في صدده وسأله رشيد:"ما رأيك في المفتي؟ فأجبته: رأيي كرأيك، إنه الآن بعيد عن حركتنا هذه... ولا يجوز أن ترتبط زعامة الحركة برباط رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى، التي غدت مع الأسف أشبه بوظيفة حكومية. فقال رشيد: وإذا اتفق معنا على مبادئنا، ونزل للميدان، وأعلن عداءه للإنكليز؟ فقلت: ليتفضل. نحن معه. نحن جنوده. إننا واثقون بكل ما ترونه أنتم. نؤيدكم، وندعو لكم بالتوفيق، ولا نشترط إلاّ أن تكون الحركة الثورية هذه موجهة ضد الإنكليز أولاً وجهرة وعلانية". ويقول رشيد:"سافرنا إلى القدس بالفعل وبعد عمل متواصل استغرق بضعة أيام في مقابلات متواصلة مع رؤساء الأحزاب والزعماء والمشتغلين في القضية الوطنية أُعلن عن تأسيس أول لجنة عربية عليا"، برئاسة الحاج أمين. ويروي محمد عزة دروزة في"مذكراته"تفصيل ما جرى فيقول:"في 23 نيسان ابريل 1936 جاء من حيفا محمد علي التميمي ورشيد الحاج إبراهيم إلى القدس للسعي في ذلك يقصد إنشاء لجنة عربية عليا، واجتمعنا أنا وهم وأمين التميمي، الذي كان يسكن فوق بيتي، واتفقنا على دعوة الحاج أمين الحسيني وأحمد حلمي باشا كخطوة أولى للبحث في هذا الأمر". ولبّى الحاج أمين وأحمد حلمي الدعوة، واجتمعا ليلة 24 نيسان ابريل في منزل دروزة بحضور رشيد والتميمي القادمين من حيفا، وكل من الشيخ حسن أبو السعود وإسحق درويش اللذين جاءا مع الحاج أمين. ويستطرد دروزة:"تحدثنا في الأمر، وانتهينا إلى الاتفاق على وجوب قيام لجنة عليا بصورة عاجلة تمثل جميع الفئات. وكان الحاج أمين معتبراً أنه زعيم الحركة الوطنية المجلسية كذا التي كانت تمثل أكثرية البلاد، ولكنه كان يحاول أن تكون زعامته غير ظاهرة مباشرة، فقلنا له إن الموقف لا يتحمل ذلك، وإن عليه أن يختار بين التخلي عن هذه الزعامة وبين مباشرتها ظاهراً ومواجهة... وأن يرأس اللجنة العربية العليا". ويضيف دروزة:"كان ما يزال بينه وبيننا، جماعة الاستقلاليين، شيء من الحذر والتحفظ، فقال كيف تريدون مني أن أبرز وأواجه السلطات مباشرة وليس بيني وبينكم تضامن، فقلنا له إنك إذا قبلت أن تبرز في الزعامة علناً ومواجهة فنحن مستعدون للتضامن معك". وفي هذا الجواب تكرار لما قاله صاحبنا لزعيتر تواً كما رواه الأخير. ويتابع دروزة أن الحاج أمين"لم ير بداً من القبول لأن ظروف البلاد والحركة لا تتحمل غير ذلك". ويقرر المجتمعون، بعد موافقة الحاج أمين على ترؤس اللجنة العربية العليا المزمع تأليفها، إرسال وفد ثلاثي مؤلف من أحمد حلمي باشا ورشيد ومحمد علي التميمي إلى راغب النشاشيبي، زعيم المعارضة وحزب الدفاع، لإقناعه بالمشاركة في اللجنة وبقبول الحاج أمين، خصمه اللدود، رئيساً لها. ويحدثنا دروزة:"كانت مهمة شاقة... ولكن ظروف البلاد والجو الوطني القائم... سهّل المهمة فوافق على الأمر".ولمّا عاد الرسل الثلاثة بموافقة النشاشيبي، اقترح المجتمعون عليهم إتمام المسعى بحيث يجتمعون برؤساء سائر الأحزاب السياسية: جمال الحسيني الحزب العربي، وعوني عبدالهادي الاستقلال، وحسين فخري الخالدي الإصلاح، ويعقوب الغصين مؤتمر الشباب، وعبداللطيف صلاح الكتلة الوطنية. فذهبوا وحدثوهم وحصلوا على موافقتهم على"الأمرين"، أي على المشاركة في اللجنة العربية العليا، وعلى رئاسة الحاج أمين لها. وتم حل تمثيل المسيحيين في اللجنة، وذلك بأن يمثل الأرثوذكس يعقوب فرّاج الذي هو في الوقت نفسه من أركان حزب الدفاع المعارض، وأن يمثل الكاثوليك ألفرد روك الذي هو في الوقت نفسه من أركان الحزب العربي المجلسي. وفي 26 نيسان ابريل 1936، صدر بيان للجنة العربية العليا يدعو إلى الاستمرار في الإضراب العام حتى وقف الهجرة، ويطالب بمنع انتقال الأراضي العربية إلى اليهود، وبإنشاء حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي. ويعلّق زعيتر على ذلك بقوله:"عزة أي محمد عزة دروزة متفائل بهذه النتيجة. أنا أحسست براحة نفسانية لاندماج الجميع في الحركة الوطنية. أمّا الحاج أمين فقد أنقذ مكانته بنزوله إلى الميدان ولن يكون الخاسر على أي حال". ويستفحل أمر الثورة وتعم البلاد بأسرها، وتتخذ السلطات تدابير قمعية متصاعدة تشمل، فيما تشمل، اعتقال المئات من أعضاء اللجان القومية وغيرهم، وتنشئ معتقلات خاصة للسياسيين وموجهي الثورة في عوجا الحفير وصرفند. ويضم معتقل صرفند بين من يضم: عوني عبدالهادي ونبيه العظمة وعبدالحميد شومان وميشيل متري، وصبحي الخضراء وأكرم زعيتر وعجاج نويهض وجورج منصور ومحمد عزة دروزة. وينضم رشيد إليهم في 15 حزيران يونيو 1936. ويحدثنا زعيتر في"يومياته"عن أخبار معتقلي صرفند وطرائفهم، وفيها الكثير عن رشيد. ويروي زعيتر أن العادة جرت"أن يصلي معتقلو معسكرنا صلاة الجمعة في ساحته... ولم يكن يتخلف عن الصلاة أحد حتى إن إخواننا المسيحيين من المعتقلين كانوا يحضرون صلاتنا". وما إن أتى يوم الجمعة، الواقع فيه 24 تموز يوليو 1936، حتى منع الجند البريطانيون المعتقلين من الصلاة في الساحة كالمعتاد، فما كان منهم إلاّ أن أبرقوا إلى المندوب السامي احتجاجاً على"مصادرة حريتنا الدينية فوق مصادرة حريتنا الشخصية والسياسية". وكان رشيد من أوائل موقعي البرقية. وفي 6 آب اغسطس، يرسل المعتقلون برقية إلى اللجنة العربية العليا يحثون فيها على"أن لا يبدو منها أي تردد أو تساهل في المطالب الوطنية... حتى لا تضيع على الأمة تضحياتها". وكان رشيد من أوائل موقعي هذه البرقية أيضاً. وفي 24 آب اغسطس فوجئ المعتقلون بزيارة نوري باشا السعيد، رئيس الحكومة العراقية السابق واللاحق، للمعتقل. ويروي زعيتر:"وقد طلب إلينا أن نختار من يقابله بالنيابة عنا وذكر اسم عوني عبدالهادي صديقه، فاخترنا مع عوني بك كبيرنا نبيه بك العظمة، فأُخرجا من الأسلاك الشائكة حيث اجتمعا به... وعاد نبيه وعوني إلى كوخنا حيث عقدنا اجتماعاً شرحا فيه لنا ما قاله لهما نوري السعيد عن الوساطة، وأنه يفاوض اللجنة العربية العليا لإيجاد مخرج يحفظ للبلاد كرامتها ويضمن حقوقها... وقد أعربا له عن رأينا في أن وقف الهجرة مبدئياً شرط لا بد منه". وفي 3 أيلول سبتمبر 1936، يصل إلى أيدي المعتقلين البلاغ العسكري الأول الذي كان أصدره في دمشق، في 18 آب اغسطس، القائد فوزي القاوقجي باسم"قيادة الثورة العربية العامة - سورية الجنوبية فلسطين"، معلناً دخوله البلاد لقيادة الثورة المسلحة فيها ضد الحكومة البريطانية. ومن طريف أخبار المعتقل أن سُمح لرشيد بجلب راديو إليه،"وإذا به يحمل إلينا بشرى توقيع المعاهدة السورية - الفرنسية... فانصرفنا إلى تهنئة شيخ الاستقلاليين في المعتقل، نبيه بك العظمة". ولا يلبث العظمة أن يتلقى برقية من شكري القوتلي نصها"وُقّعت المعاهدة نبشركم ونهنئكم - القوتلي"، فيبادر الاستقلاليون المعتقلون: العظمة ودروزة ورشيد وزعيتر وغيرهم، إلى إرسال برقية تهنئة جوابية إلى القوتلي. ويخبرنا زعيتر أن رشيداً اكتشف جاسوساً في المعتقل بعد ضبط رسالة مرسلة إلى الخارج بخط معتقل مجهول الهوية، فأرسل رشيد معتقلاً أمياً إلى من اشتبه فيه ليطلب منه كتابة رسالة إلى أهله. وعند مقابلة الرسالتين إحداهما بالأُخرى تبين أن الخط هو نفسه، وتم بذلك التعرف على هوية الجاسوس. وفي 10 تشرين الأول اكتوبر 1936، أعلنت اللجنة العربية العليا وقف الإضراب العام تجاوباً مع نداء الملك غازي والملك عبدالعزيز آل سعود وإمام اليمن والأمير عبدالله. وفي 23 تشرين الأول اكتوبر 1936 أفرج عن رشيد. وفي 10 تشرين الثاني نوفمبر 1936، أفرج عن سائر المعتقلين، بمن فيهم أكرم زعيتر الذي يخبرنا:"وحين خرجت أراد الجاويش الإنكليزي كامبل إغلاق المعتقل فناولني تلطفاً منه القفل والمفتاح حيث أقفلت المعتقل بيدي، فراح إخواني يلقبونني ب"فاتح الحفير"عوجا الحفير، وهو المعتقل الآخر الذي سبق أن أُبعد زعيتر إليهومغلق صرفند". وبوقف الإضراب العام تنتهي المرحلة الأولى من الثورة الكبرى وتكون حصيلتها من الضحايا، بحسب الإحصاءات الرسمية، 195 شهيداً و804 جرحى من العرب، و37 قتيلاً و206 جرحى من الجيش وقوات الأمن، و80 قتيلاً و308 جرحى من اليهود. وتلي هذه المرحلة فترة هدوء نسبي تصل خلالها إلى البلاد لجنة تحقيق ملكية يرئسها اللورد بيل Peel. وتنشر اللجنة في 22 حزيران يونيو 1937، بعد عودتها إلى لندن، تقريرها الذي يوصي بتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية، ومنطقة عربية تُضم إلى إمارة شرق الأردن، ومنطقة ثالثة تبقى تحت الانتداب البريطاني تشمل القدس. وتنفجر مرحلة الثورة الثانية في إثر نشر تقرير لجنة بيل، وتتصاعد حدتها وعنفها. وفي هذه الأثناء يعود صاحبنا إلى حيفا التي تشهد عدة حوادث اغتيالات، أبرزها اغتيال حليم بسطة، مساعد مدير بوليس حيفا المسؤول عن تعقب القسّاميين، وهو مصري الأصل. ويروي رشيد أن هذه الحوادث"فجّرت موجة اعتقالات بتهمة الانتماء لجمعية إرهابية ولم يترك الإنكليز شاباً له أي اتصال بي أو صديقاً لي به أدنى علاقة إلاّ وكان ممن شملتهم هذه الموجة". ويخبرنا زعيتر أنه"تقرر إرسال جثمان القتيل حليم بسطة بالقطار محروساً إلى مصر لدفنه هناك لاستحالة دفنه في فلسطين". وحيال هَزْل ردات فعل الحكومات العربية على مشروع التقسيم بادر نبيه العظمة، بعد عودته إلى دمشق، إلى الدعوة إلى مؤتمر شعبي عقد في 8-9 أيلول سبتمبر 1937 في مصيف بلودان السوري تضامناً مع فلسطين، وحضره نحو أربعمئة وخمسين عضواً من الأقطار العربية،"ولم يحضر المفتي المؤتمر بسبب الحصار الذي كان مفروضاً حول بيته من قبل السلطة... ولكنه انتخب بالإجماع رئيس شرف"، وحضره عن حيفا رشيد ووديع البستاني وغيرهما. ويتسع نطاق الثورة ويعم سعيرها البلاد. وفي 26 أيلول سبتمبر 1937 يغتال الثوار العرب في الناصرة المستر أندروز، مساعد حاكم لواء الجليل، ومرافقه البريطاني. وكان عُرف عن أندروز أنه ساهم في إقناع لجنة التحقيق بإمكان التقسيم. وتنتهز السلطة البريطانية الحدث لإنزال ضربات قاصمة بالحركة الوطنية أملاً بالقضاء عليها كلياً، فتعلن حل الأحزاب واللجنة العربية العليا وملاحقة أعضائها، وعزل الحاج أمين عن منصبه في رئاسة المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى وملاحقته، وتقبض على أحمد حلمي باشا وحسين فخري الخالدي ويعقوب الغصين وفؤاد سابا من أعضاء اللجنة العربية العليا. وينجو من الاعتقال من أعضاء اللجنة جمال الحسيني"الذي اختفى عن الأنظار"، وكل من محمد عزة دروزة وعوني عبدالهادي وألفرد روك وعبداللطيف صلاح، لوجودهم خارج البلاد. وتعتقل السلطات أيضاً صاحبنا، مع أنه ليس عضواً في اللجنة العليا، وفي هذا اعتراف منها بمكانته وزعامته في البلاد. أمّا الحاج أمين فيعتصم بالحرم الشريف وتتردد السلطات في اقتحامه، ويتمكن من الخروج منه متخفياً في 13 تشرين الأول اكتوبر 1937 إلى يافا، ومنها بقارب صيد إلى صور حيث تسمح له السلطات الفرنسية، نكاية بالإنكليز، بالإقامة بقرية الذوق خارج بيروت ومن حيث يتابع قيادة الثورة. ولا تطأ أقدام الحاج أمين أرض القدس ثانية إلاّ أوائل الستينيات بعد مرور ربع قرن من الزمن. وتقرر السلطات إبعاد أعضاء اللجنة العليا الذين اعتقلتهم أحمد حلمي والخالدي وسابا والغصين ورشيد خارج البلاد، وتضعهم على ظهر طراد ينقلهم إلى جزيرة سيشل الصغيرة النائية، التي تقع جنوبي خط الاستواء في أعماق المحيط الهندي على بعد مئات الأميال شرقي زنجبار ودار السلام. ويحدثنا رشيد عن سيشل فيقول إنه كان مع رفاقه الأربعة يسمع"أخبار البلاد ومآسيها مما نلتقطه من نزر الأخبار فتزيد في آلامنا وتضاعف من أمراضنا وعللنا". ولم يفرج عن مبعدي سيشل إلاّ في 18 كانون الأول ديسمبر 1938 شرط أن يبقوا خارج البلاد إلى إشعار آخر. ويعتبر رشيد أن خروج الحاج أمين من فلسطين وبقاءه خارجها كانا نقطة تحول خطرة في قيادة الحركة الوطنية، تركت أفدح الذيول على مسار المرحلة الثانية 1937-1939 من الثورة الكبرى التي تلت صدور تقرير لجنة التحقيق الذي أوصى بتقسيم البلاد، وكذلك بالتالي على مسار القضية لاحقاً خلال 1947-1948. فهو يرى أن"بانتقال رئيس اللجنة العليا إلى لبنان ولوجود باقي أعضاء اللجنة غير المنفيين إلى سيشل خارج فلسطين صارت شؤون البلاد السياسية تدار من الخارج وكان هذا بدء تحول جديد في القضية استمر حتى سنة 1947 في حين كانت القضية من سنة 1919 حتى سنة 1937 تدار من قبل لجنة تنفيذية عربية لمؤتمرات فلسطينية عامة أو لجنة عليا تمثل الأحزاب السياسية الفلسطينية كافة فصارت بعد سنة 1937 تحت تصرف رئيس اللجنة العليا الشخصي وعلى هذا النحو خاضت البلاد ثورة 1937-1939". ويعتبر رشيد أنه نشأ عن هذا الوضع ما سمّاه"التوجيه الخاطئ"للثورة خلال 1937-1939، ذلك بأن البلاد"خاضت... في بحر من الدماء وفي أتون من الخصومات والثارات وصار من أهداف الثورة الإصلاح الاجتماعي أو تأييد الزعامة وإني لأعترف بعجزي عن تدوين ما جرّته ثورة 1937- 193 على فلسطين من ويلات كان لها أكبر الأثر في المعركة الفاصلة على التقسيم سنة 1948". ويستطرد صاحبنا فيقول:"لا أريد أن أتجنى على الناس فيما أكتب ولا أريد أن أفرض على الناس رأياً أعتقده وأؤمن به ولكنني أريد أن أخرج إلى القول بأن الحركة القسّامية استُغلت استغلالاً كنت أخشاه ودم القسّام لم يكن قد جف بعد. وأريد أن أجاهر بأني لو لم يقدر لي النفي لكنت الشخص الوحيد الذي يستطيع بما لي من صلات بالقسّاميين المجاهدين الأباة أن يحول دون التوجيه الخاطئ الذي جر البلاد لحرب أهلية أضاعت الكثير من الأرواح وهدرت الكثير من الأموال". ويسترسل رشيد في وصف هذا"التوجيه الخاطئ"فيقول:"وُجّه الثائرون على الاستعمار... إلى الاغتيالات السياسية ضد الخونة المارقين والسماسرة المأجورين، فلم ير الناس في الاغتيالات حيفاً... ولكن سرعان ما انقلبت هذه الاغتيالات إلى حركة تطهير تناولت الصالح والطالح، والأمين والخائن، والمذنب والبريء، وامتدت إلى نفر كريم من الشباب الواعي الذين تخجل الأيدي من الامتداد إليهم". ويحرص صاحبنا على أن يؤكد:"إنني لا أحمّل المسؤولين تبعة كل اغتيال وقع في البلاد في إبّان ثورة 1937-1939، إذ لا بد أن يكون كثيرون استغلوا هذه الموجة تسديداً لحسابات قديمة وفي سبيل مصالح ومنافع خاصة"، لكنه يرى من الإنصاف أن يسجل أن من اغتيل، من أمثال حسن صدقي الدجاني وميشيل متري وأنور الشقيري ورافع الفاهوم وعادل الجراح وغيرهم،"لم يكونوا خائنين وأن حوادث قتلهم وأمثالهم كان لها أكبر الأثر في تفريق الشمل وفي الاشمئزاز من سلطة الأمة التي كنا ننشدها بطلبنا للاستقلال والحرية". وختاماً، في هذا الصدد، تصدر من أعماق وجدان صاحبنا صرخة يناشدنا فيها:"لا أدري متى يجد العرب في أمتهم باحثين، ناقدين، لهم من الجرأة والصراحة ما يمكنهم من دراسة المآسي التي تعرضت لها البلاد في الثورة المذكورة... والتي جرّت أمتنا للمعركة الفاصلة أي حرب 1948 وهي مشلولة القوى، متهدمة البنيان، مقوضة الأركان".