الهلال يطوي صفحة الدوري مؤقتاً ويفتح ملف «نخبة آسيا»    اليونيفيل : لم نسهّل أي عملية اختطاف أو أي انتهاك للسيادة اللبنانية    جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل تعقد المؤتمر العالمي لطب الأعصاب    اكتشاف قرية أثرية من العصر البرونزي في واحة خيبر    الأردن: لن نسمح بمرور الصواريخ أو المسيرات عبر أجوائنا    إطلاق مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان بن عبد العزيز الملكية    رونالدو يعلق على تعادل النصر في ديربي الرياض    وسم تختتم مشاركتها في أبحاث وعلاج التصلب المتعدد MENACTRIMS بجدة    حقيقة انتقال نيمار إلى إنتر ميامي    «الداخلية»: ضبط 21370 مخالفًا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود.    بلدية محافظة البكيرية تنفذ فرضية ارتفاع منسوب المياه وتجمعات سطحية    السعودية تعرب عن قلقها إزاء استمرار القتال في السودان الشقيق وتصاعد أعمال العنف التي طالت المدنيين من نساء وأطفال    مرثية مشاري بن سعود بن ناصر بن فرحان آل سعود    المملكة "برؤية طموحة".. جعلتها وجهة سياحية عالمية    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الشيف الباكستانية نشوى.. حكاية نكهات تتلاقى من كراتشي إلى الرياض    في الجوف: صالون أدب يعزف على زخات المطر    مثقفون يناقشون "علمانيون وإسلاميون: جدالات في الثقافة العربية"    معدل وفيات العاملين في السعودية.. ضمن الأدنى عالمياً    آلية جديدة لمراجعة أجور خدمات الأجرة عبر التطبيقات    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    "الأرصاد": أمطار على منطقة المدينة المنورة    هيئة الهلال الاحمر بالقصيم ترفع جاهزيتها استعداداً للحالة المطرية    جمعية البر بالجنينة في زيارة ل "بر أبها"    أمانة القصيم تقيم المعرض التوعوي بالأمن السيبراني لمنسوبيها    الكلية التقنية مع جامعة نجران تنظم ورشة عمل بعنوان "بوصلة البحث العلمي"    انطلاق فعاليات "موسم التشجير السنوي 2024" ، تحت شعار "نزرعها لمستقبلنا"    ضمك يتعادل إيجابياً مع الرياض في دوري روشن للمحترفين    وقاء جازان ينفذ ورشة عمل عن تجربة المحاكاة في تفشي مرض حمى الوادي المتصدع    ارتفاع حصيلة ضحايا انهيار سقف محطة قطار في صربيا إلى 14 قتيلاً    الشؤون الإسلامية في جازان تطلق مبادرة كسوة الشتاء    أروماتك تحتفل بزواج نجم الهلال "نيفيز" بالزي السعودي    تن هاج يشكر جماهير مانشستر يونايتد بعد إقالته    ماسك يتنبأ بفوز ترمب.. والاستطلاعات ترجح هاريس    الحمد ل«عكاظ»: مدران وديمبلي مفتاحا فوز الاتفاق    المذنب «A3» يودِّع سماء الحدود الشمالية في آخر ظهور له اليوم    الرياض تشهد انطلاق نهائيات رابطة محترفات التنس لأول مرةٍ في المملكة    تصعيد لفظي بين هاريس وترامب في الشوط الأخير من السباق للبيت الابيض    حائل: إطلاق مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان بوادي السلف    البدء في تنفيذ جسر «مرحباً ألف» بأبها    مبدعون «في مهب رياح التواصل»    أمير المدينة يرعى حفل تكريم الفائزين بجوائز التميز السنوية بجامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز    الطائرة الإغاثية السعودية السابعة عشرة تصل إلى لبنان    ما الأفضل للتحكم بالسكري    صيغة تواصل    هاتف ذكي يتوهج في الظلام    الدبلة وخاتم بروميثيوس    أماكن خالدة.. المختبر الإقليمي بالرياض    السل أكبر الأمراض القاتلة    الأنساق التاريخية والثقافية    هوس التربية المثالية يقود الآباء للاحتراق النفسي    «الرؤية السعودية» تسبق رؤية الأمم المتحدة بمستقبل المدن الحضرية    عمليات التجميل: دعوة للتأني والوعي    المرأة السعودية.. تشارك العالم قصة نجاحها    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان ملك إسبانيا إثر الفيضانات التي اجتاحت جنوب شرق بلاده    مدير هيئة الأمر بالمعروف في منطقة نجران يزور مدير الشرطة    أمير منطقة تبوك ونائبه يزوران الشيخ أحمد الخريصي    لا تكذب ولا تتجمّل!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة وليد الخالدي في مذكرات رشيد الحاج ابراهيم "الدفاع عن حيفا وقضية فلسطين" . الوضع في حيفا خريف 1948 وظهور "الشباب المغامرين المنتسبين لفصيل الجهاد المقدس" 4 من 5
نشر في الحياة يوم 09 - 03 - 2007

تستعد مؤسسة الدراسات الفلسطينية لإصدار كتاب الدفاع عن حيفا وقضية فلسطين - مذكرات رشيد الحاج ابراهيم 1891 - 1953، وتنشر الحياة في حلقات التقديم الذي كتبه وليد الخالدي لهذه المذكرات قارئاً فيها ومقارناً بينها وبين مذكرات آخرين عايشوا رشيد الحاج ابراهيم وكانوا رفاقه في بدايات النضال من أجل فلسطين.
يتناول الباب الأول من مذكرات صاحبنا روايته للوضع في حيفا، ودوره فيها خلال هذه الأشهر الحاسمة. ومع أن هذا الباب يأتي في مطلع المذكرات إلاّ إنه يشكل، في الواقع، الفصل الأخير أو ما قبل الأخير من حياته العامة. ذلك بأن رشيداً لا يسجل لنفسه مساهمة سياسية لاحقة، ولا حلقة تالية من حلقات سجاله الطويل مع الحاج أمين غير ما جرى بينهما في خريف سنة 1948 بشأن تأليف حكومة عموم فلسطين كما سيرد بعد قليل. وهكذا تكون سيرة صاحبنا التي رويناها في الصفحات السابقة عرضاً ولو مقتضباً لمجمل حياته العامة، جمعنا مادته من شذرات متفرقة تتخلل هذه المذكرات، وجعلناها في سياق زمني متسلسل، مضيفين إليها ما عثرنا عليه في مظان غيرها لتكون خلفية لهذا الباب الأول من المذكرات، وللمذكرات ككل.
وعقب صدور توصية الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في تشرين الثاني نوفمبر 1947، أعلنت بريطانيا في 8 كانون الأول ديسمبر 1947 أنها ستنهي انتدابها على فلسطين في 15 أيار مايو 1948، لكنها ستظل صاحبة السيادة على البلد حتى ذلك التاريخ. كما أعلنت أن انسحابها سيكون عن طريق ميناء حيفا، وأنها ستحافظ على جيب قريب من حيفا لبضعة أسابيع بعد نهاية انتدابها، وأن إطالة وجودها المحدود في هذا الجيب إنما توجبها مقتضيات"لوجستية"بحتة تتعلق بانسحاب قواتها المسلحة.
وكانت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية قد اجتمعت في صوفر في لبنان أواسط أيلول سبتمبر 1947، بدنو اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة،"لتضع خطة العرب إزاء ما يحتمل وقوعه وتلافي ما يمكن تلافيه قبل هذا الوقوع". ومما أسفر عنه هذا الاجتماع تشكيل لجنة فنية عسكرية لدرس الحالة من هذه الوجهة ورفع تقريرها إلى مجلس الجامعة عند انعقاده بعد ثلاثة أسابيع. واجتمعت اللجنة في عاليه في لبنان، وشهد اجتماعاتها إسماعيل صفوت باشا عن العراق والمقدم شوكت شقير عن لبنان ومحمود الهندي عن سورية والشيخ يوسف ياسين عن السعودية ومحمد عزة دروزة عن فلسطين والقائم بأعمال المفوضية المصرية.
واحتوى تقرير اللجنة الذي قدمه صفوت باشا خلاصة عن المنظمات اليهودية العسكرية وعديدها وعتادها، وعن سوء حالة عرب فلسطين عسكرياً، مقارنة باليهود، وحاجتهم"إلى التدريب والتنظيم والسلاح. وأنهم، خصوصاً الذين هم في جوار مناطق الاكتظاظ اليهودي أو في بؤرتها، معرضون للفتك والسحق". ومما أوصى به التقرير أن تسارع الحكومات العربية إلى حشد قسم من جيوشها على حدود فلسطين حتى إذا انسحبت بريطانيا منها"ملأت الحشود الفراغ حالاً فلا تقع الكارثة على أهل فلسطين".
وانعقد مجلس الجامعة في بيروت وعاليه في 9 تشرين الأول اكتوبر 1947 وتداول تقرير اللجنة المشار إليه، وأقر توصية الحشد على الحدود. كما تقرر فرض عشرة آلاف بندقية مع عتادها على الحكومات العربية لتوزع على أهل فلسطين، ورصد مبلغ مليون جنيه لإعداد كتائب تطوعية في سورية، وإنشاء معسكر تدريب وتجهيز لها فيها، بحيث تهيأ هذه الكتائب للتدخل في فلسطين حالما يحين الوقت. وهي الكتائب شبه النظامية التي تشكل منها ما سمي جيش الإنقاذ لاحقاً. وتقرر أيضاً أن تشكل"لجنة عسكرية فنية شبه رسمية... تتفرغ لتنظيم الشؤون الحربية فنياً وتجهيزاً وتدريباً، وتتولى توزيع السلاح المفروض على الحكومات العربية وشراء ما تستطيع شراءه... كما تتولى الإنفاق على هذه الشؤون تحت إشراف أمانة الجامعة العربية العامة". وتألفت اللجنة بادئ الأمر من صفوت باشا العراق والهندي سورية وشقير لبنان وبهجت طبارة عن شرق الأردن، وحل صبحي الخضراء محل دروزة عن فلسطين. وتولى الخضراء شؤون التسلح، وانقطع طبارة عن المشاركة في اللجنة، وانضم إليها طه باشا الهاشمي من العراق مفتشاً عاماً للمتطوعين.
في 25 تشرين الثاني نوفمبر 1947 أعلن رفيق التميمي، باسم الهيئة العربية العليا، ضرورة تشكيل لجان قومية في مختلف المدن والقرى الفلسطينية، وأوضح مهمات هذه اللجان بقوله:"إنها صورة مصغرة للهيئة العربية العليا وهي بمثابة فروع لها... وإن مسؤولياتها تتصل بكل ما يتطلبه الجمهور العربي وإن على هذه اللجان واجبات جسيمة كما أن المستقبل سيلقي على عاتقها مسؤوليات أجلّ". ويروي صاحبنا رشيد أنه في اليوم الثاني من كانون الأول ديسمبر 1947 تشكلت لجنة حيفا القومية"استجابة لداعي الوطن"، وعقدت أولى جلساتها في مكتبه في بنك الأمة العربية وانتخبته رئيساً لها، و"تلي في الاجتماع الأول نظام اللجان الذي أعدته الهيئة العليا وعاهد الأعضاء الله تعالى على العمل بموجبه تحت لواء الهيئة العربية العليا وضمن الميثاق القومي". وعهد إلى صاحبنا"شخصياً اختيار لجنة فرعية لأعمال التسلح".
بعيد صدور قرار التقسيم، أذاعت الهيئة العربية العليا بياناً دعت فيه إلى الإضراب العام أيام 2 و3 و4 كانون الأول ديسمبر،"على أن يكون الإضراب البادرة الأولى لما يعتزم العرب القيام به... للقضاء على مشروع التقسيم". وسارع رشيد إلى اتخاذ عدة تدابير حازمة لتنظيم الدفاع عن المدينة، خصوصاً أن ما كان لدى اللجنة من السلاح عندئذ لم يزد على"أربعة مسدسات وخمس بنادق إنكليزية مع قليل من العتاد". وكان من أول ما قام به صاحبنا في مجال الدفاع أن استصدر قراراً من اللجنة القومية يطالب الحكومة بتعيين حرس عربي مسلح أسوة بمنظمة"الهاغاناه"اليهودية. ثم انتدب كلاً من يونس نفاع رئيس النادي الرياضي الإسلامي ورئيس بعض الفرق الكشفية، ومحمد فخر الدين، وهو شاب تركي الأصل"وخريج إحدى المدارس العسكرية"، لتشكيل حامية يختار أفرادها من الجنود العرب المسرحين من الجيش البريطاني ممن تمرنوا على الأعمال العسكرية خلال الحرب العالمية الثانية، وجعل للحامية أنظمة منها أن تعين الأفراد المنتسبين إليها برواتب شهرية كي لا تعتمد"على المتطوعين بدافع الوطنية والنخوة فقط"، وأن يكون جنود الحامية ممن سبق لهم عمل عسكري أو تدريب، وتختار أماكن للتدريب اليومي على استعمال السلاح، وأن تؤلف محكمة عسكرية لمحاكمة العابثين. وأوصل يونس نفاع قوة الحامية في وقت قصير إلى 75 مناضلاً. واقترح صاحبنا أيضاً أن تتمثل قرى قضاء حيفا المتاخمة للمستعمرات اليهودية في اللجنة القومية، لتنظيم حراسة الطرق التي تصل المدينة بريفها، ولتأمين النجدات والتعامل التجاري بينهما. كما ارتأى أنه لا بد من تكليف ضابط من المدربين تدريباً عسكرياً حديثاً قيادة هذه الحامية، فوقع الاختيار على محمد حمد الحنيطي، الملازم الأول في الجيش العربي Arab Legion شرق الأردن، والذي استقال من عمله لقيادة حامية حيفا. كذلك انتدب رشيد المحامي صلاح الدين العباسي ليكون ضابط ارتباط بين اللجنة القومية وحامية المدينة. ونظراً إلى تأخر ورود السلاح من الهيئة العربية العليا، وقلة ما كان يصل منها وسوئه، أخذ صاحبنا يعتمد أكثر فأكثر على صلاته بالساسة العرب، وعلى رأسهم صديقه القديم شكري القوتلي الذي أصبح الآن رئيساً لجمهورية سورية، وعلى اللجنة العسكرية في دمشق لسد حاجاته الملحة من مال وسلاح وعتاد، مع بقائه على ولائه للحاج أمين، وعلى التزام اللجنة القومية في حيفا تبعيتها للهيئة العربية العليا. وبلغت حاجة رشيد إلى العتاد حداً اضطره إلى السفر إلى القدس لشراء"كمية قليلة لا تزيد عن الأربعة آلاف طلقة مختلفة الأجناس"، الأمر الذي أوقعه في كمين يهودي في طريق عودته نجا منه بأعجوبة.
اختلفت نظرة كل من الحاج أمين وصاحبنا إلى إدارة المقاومة في حيفا اختلافاً كلياً، فكان هذا أهم أسباب تأزم العلاقة بينهما تأزماً غير مسبوق وصل إلى ذروته في هذه الفترة. فصاحبنا، وهو ابن حيفا الأصيل، يعتبر نفسه أدرى بشعابها من الحاج أمين، وأكثر معرفة منه بكل ما يمت إليها بصلة في مجال المقاومة بالذات، وذلك لتجذر مساهمته في أعماق الحركة القسّامية، ولتشعب نشاطاته الوطنية في حياة حيفا السياسية والعامة، ومعرفته الدقيقة بأوضاعها ورجالها ومؤسساتها، الأمر الذي يجعله، في رأيه، أجدر من يتولى قيادة معركة الحياة أو الموت القادمة، خصوصاً بعد انتخابه رئيساً للجنتها القومية. أمّا الحاج أمين فهو يرى أن مرجعيته في السياسة الفلسطينية العليا لا تعلو عليها مرجعية، وتشمل أول ما تشمل الشأن العسكري/ الحربي وأدواته البشرية والمادية، وأن له وحده القول الفصل فيه، ولا ضمان لحسن سير الأمور وضبطها إلاّ بواسطة من يختارهم هو بنفسه لارتباطهم المباشر به شخصياً مهما تكن مزايا الآخرين ومؤهلاتهم الوطنية والمهنية. فإذا كانت هذه النزعة متأصلة في الحاج أمين في جوهرها منذ عقود، فقد استحوذت على تفكيره وتصرفه بعد عودته إلى الميدان من أوروبا سنة 1946 مع ازدياد شعوره بتضافر جهود الساعين لإقصائه عن الزعامة الفلسطينية.
كان المجاهدون المرتبطون بالحاج أمين ينتمون إلى تنظيم عرف باسم"الجهاد المقدس"، وكان أعضاؤه منتشرين مجموعات متفاوتة الحجم في مختلف المدن والقرى الفلسطينية، وكان معظمهم اشترك في الثورة الكبرى 1936 - 1939، وكثير منهم من القسّاميين. وكان ارتباط هؤلاء بالحاج أمين بواسطة قادة معروفين على صلة شخصية به. وباشر الحاج أمين فور عودته إلى لبنان اتصالاته بهؤلاء القادة من أجل إعادة تنظيم صفوفهم وصفوف جماعاتهم ليكونوا ذراعه العسكرية في المعركة المقبلة. وظهر التباين في الشأن العسكري بين صاحبنا والحاج أمين فور صدور قرار التقسيم، ذلك بأن الحاج أمين ألّف لجنة لإدارة أعمال الثورة في حيفا سراً ومن دون إعلام رشيد، فعلم رشيد بالأمر وقابل المفتي وعاتبه على صنعه واتفق معه على استيعاب مَنْ عيّنهم الحاج أمين ضمن إطار حامية حيفا. ولم يلبث أن وصل إلى حيفا في منتصف كانون الثاني يناير 1948 ضابط عراقي هو عبدالحق العزاوي على رأس فصيل مؤلف من خمسة وعشرين مناضلاً أوفدهم الحاج أمين. وبيّن الضابط أنه يرغب في العمل مع رجاله مستقلين عن الحامية، فاضطر صاحبنا أن يخيّره بين الاندماج في الحامية وبين مغادرة المدينة بالقوة، فاختار أن يغادر حيفا طوعاً. وجاء في أعقاب فصيل العزاوي فصيل مؤلف من تسعين مناضلاً بقيادة قائدين فلسطينيين، هما أبو محمود الصفوري وحسن شبلاق، موفدين من الحاج أمين"بخطة أن يعملوا مستقلين منفردين في حيفا كما رأينا في مسألة الضابط العراقي". فاتصل رشيد بالحاج أمين ثانية، وأقنعه بمرابطة الفصيل خارج حيفا في القرى المجاورة، ولم يلبث أن عاد حسن شبلاق ورفاق له، وطالب بحضور اجتماعات اللجنة القومية وبالاشتراك مع آمر الحامية في إدارة الدفاع عن المدينة، فاضطر صاحبنا إلى السفر إلى لبنان لمقابلة الحاج أمين بحضور شبلاق وصحبه، وأسفر الاجتماع عن حل وسط اقترحه رشيد هو تعيين شبلاق وصحبه في"لجنة أمن"استحدثها رشيد تشرف على أمن المدينة الداخلي وتؤمن مؤخر الحامية. إلاّ إن حدثاً لاحقاً في هذا السياق جعل كيل صاحبنا يطفح كما سيرد بعد قليل.
وكان موضوع المال والجباية في حيفا لبيت المال التابع للهيئة العربية العليا من أسباب اتساع شقة الخلاف بين المفتي ورشيد. وكانت الهيئة أسست بيت المال بعيد إعادة تأسيسها هي في صيف سنة 1946، من أجل جمع التبرعات لتغطية نفقاتها السنوية، وجعلت التبرعات على نوعين: مباشر وغير مباشر. وكان الأول تبرعاً شعبياً بحيث يتبرع كل شخص مهما يكن عمره أو جنسه بمئة مليم سنوياً، إلى جانب ضريبة إضافية تصاعدية على القادرين. أمّا الثاني فكان عن طريق مبالغ مضافة إلى أثمان بعض السلع والخدمات. وبما أن حيفا كانت أغنى مدن فلسطين فإنها استطاعت، بهمة رشيد وصحبه، أن تجمع ما يفوق 30 ألف جنيه فلسطيني أي استرليني في وقت قصير، أُرسلت مباشرة إلى بيت المال. غير أن ضرورات الإنفاق على الدفاع عن حيفا بعد قرار التقسيم أوجبت الاتفاق على حصة لحيفا من حصيلة ما يجبى منها تفي بحاجات المدينة، على أن يترك لبيت المال دفع هذه الحصة بعد تسلمه التبرعات. ونص اتفاق رشيد مع الحاج أمين على أن يُدفع لحيفا 75 في المئة مما يجبى فيها، وقدّر المبلغ بألفي جنيه شهرياً. ويقول رشيد أنه إنما وافق على هذه الصيغة شرط أن يدفع بيت المال ما استحق عليه من هذه النسبة من ال30 ألف جنيه التي سبق أن حصل عليها. ويشكو رشيد أنه خلال الأشهر الخمسة، من الثاني من كانون الأول ديسمبر 1947 لغاية آخر نيسان ابريل 1948، لم تدفع الهيئة من أصل عشرة آلاف جنيه استحقت عليها سوى 5500 جنيه. ووقع رشيد تحت ضغط شديد من زملائه في اللجنة القومية للانفراد عن بيت المال في الجباية، وظل يقاوم هذا الضغط حتى أوائل كانون الثاني يناير 1948 على أقل تقدير، بحجة أن اللجنة القومية إنما هي"لجنة تابعة للهيئة العليا وقد أقسمنا في جلستنا الأولى على احترام مقرراتها وتنفيذ أوامرها والارتباط بها".
كانت علاقة صاحبنا بسورية وروابط الصداقة الحميمة بينه وبين شكري القوتلي من أهم أسباب اتساع شقة الخلاف مع الحاج أمين، ذلك بأن الأخير كان ينظر إليها على أنها مؤشر إلى عدم الولاء التام له، ومنفذ لنفوذ سورية في حيفا على حسابه هو. ومما زاد في ارتياب الحاج أمين من هذه العلاقات أن سورية كانت البلد المضيف للجنة العسكرية الفنية برئاسة صفوت باشا، التي كانت تشرف على كتائب جيش الإنقاذ من المتطوعين العرب الذي اعتبره الحاج أمين منافساً لجيش"الجهاد المقدس"التابع له وللهيئة العربية العليا. وكان قد نشأ خلاف بشأن من يقود جيش الإنقاذ في الميدان، إذ رشحت اللجنة العسكرية القائد اللبناني فوزي القاوقجي الذي سبق ذكر دوره في الثورة الفلسطينية سنة 1936، وعارض الحاج أمين اختيار القاوقجي معارضة شديدة لأسباب لا مجال لذكرها هنا. وفي أوائل شباط فبراير 1948، استعان القوتلي برشيد في قضية تعيين القاوقجي الذي كان كلاهما يؤيده، طالباً منه أن يحضر الحاج أمين إلى مقابلة معه في دمشق للبحث في هذا الأمر. وحضر الاجتماع كل من جميل مردم بك رئيس مجلس الوزراء السوري وأحمد الشرباتي وزير الدفاع وطه الهاشمي ومحمود الهندي اللذين مر ذكرهما، ونبيه العظمة وعوني عبدالهادي ومحمد عزة دروزة ومعين الماضي. وأجمع الحاضرون على اختيار القاوقجي، وتمنّع الحاج أمين كل التمنع، فأفتى رشيد بتفويض القوتلي والهاشمي والحاج أمين الوصول إلى قرار، فاختار الأولان القاوقجي"بالأكثرية".
وانبثقت نظرة صاحبنا إلى سورية من عقيدته"الاستقلالية"العتيدة. ففلسطين"جزء من سورية أولاً وقطر عربي ثانياً وأن قيام إسرائيل فيها يعني قيام دولة أجنبية على أرض سورية... و لأبناء الشمال علاقات ومصالح خاصة في كل مدن فلسطين لهم فيها الأموال والأملاك وصلات القربى. وقد أشرنا في مطلع هذا التقديم إلى علاقات آل الحاج إبراهيم التجارية تاريخياً بحوران عبر تعاطيهم تجارة الحبوب، كما أن زوجة رشيد كانت سورية. أمّا القوتلي فكان أمضى عامين منفياً في حيفا في العشرينيات، ويخبرنا صاحبنا أنه في أواخر كانون الثاني يناير 1948 قابل القوتلي وأطلعه على بعض أوضاع حيفا ف"فاضت عيناه بالدموع ولم أجد نفسي أكثر غيرة أو حماساً واندفاعاً وتذكرت وأنا أرى الدمع في عينيه حبه لحيفا واعتبارها بالنسبة له وطنه العزيز الثاني". ويعلق رشيد على موقف الحاج أمين بقوله:"كان يعارض في اتصال اللجان القومية بغير الهيئة العربية العليا مع أي سلطة في البلاد العربية، وهو قد يكون على حق في هذا الطلب لو كانت الهيئة العليا تقوم بالتزاماتها لسد حاجة حامية البلد من السلاح والعتاد والمال، فلو لبّينا رغبته هذه لبقينا مكتوفي الأيدي ننتظر السلاح كبقية الناس الذين ملأوا الدنيا صراخاً... بينما كنا نرى الموت الأحمر ماثلاً للعيان".
ومن الأسباب الخلافية بين صاحبنا والحاج أمين أيضاً موضوع وقف إطلاق النار في حيفا وجعلها مدينة مفتوحة، أي غير متنازع بشأنها، وبشكل عام موضوع استراتيجية حيفا عسكرياً وهل تكون دفاعية أم قتالية هجومية. وكما يذكر القارئ كان لصاحبنا وجهة نظر واضحة في موضوع إعلان الثورة على التقسيم وشروطه من حيث تأكيده وجوب نبذ الارتجال واعتماد التعبئة العامة قبل الإقدام على الاشتباك مع عدو متفوق قوةً وعتاداً وتنظيماً. ففي 11 كانون الأول ديسمبر 1947 نقل الحاج طاهر قرمان، نائب رئيس بلدية حيفا، إلى اللجنة القومية عرضاً من رئيس البلدية الذي كان يهودياً بأن يوقع الرئيس اليهودي ونائبه قرمان بياناً مشتركاً بدعوة سكان حيفا إلى الهدوء والسكينة وعدم إطلاق النار، فكان جواب صاحبنا"بعد إطراقة قصيرة"، باسم اللجنة القومية التي كان يرئسها:"إن اللجان القومية بمثابة فروع للهيئة العربية العليا... وقد أقسمنا اليمين على العمل بموجب قانون اللجان... وإن أمر إعادة الهدوء والأمن والسلام لحيفا أمر سياسي من حق الهيئة العليا وسماحة رئيسها البحث فيه، وقد بدأنا نحن العمل على تعكير هذا الصفاء والأمن بناء على دعوة الهيئة العليا، لذلك فإن العمل على خلق الهدوء يتعارض مع السياسة العامة... وإن مهمتنا تنحصر في الاستعداد واستكمال وسائل الدفاع والإجابة على كل عدوان". وحري بالذكر أن اقتراح رئيس البلدية اليهودي لم يكن بعيداً عن هدف استراتيجي خطر، ذلك بأن حيفا كانت تقع ضمن الدولة اليهودية بموجب قرار التقسيم، وقبول العرب فيها بالاقتراح كان يعني ضمناً قبولهم بضمها إلى هذه الدولة.
تصاعدت الاعتداءات اليهودية وازداد عدد الضحايا العرب المدنيين، وبدأت حركة نزوح عن الأحياء الشعبية واتسع نطاقها، ورافق ذلك محاولات جس نبض من جانب شخصيات يهودية مدنية مرموقة، منها المحامي سلومون والمحامي ليفشيتس، ل"إعلان حيفا مدينة مفتوحة حتى تتجلى الثورة العربية العامة على قرار التقسيم". ويخبرنا صاحبنا:"لم يكن من رأيي شخصياً استجابة رغبة اليهود إذا كانت الهيئة العليا واللجنة العسكرية ستهيئان لنا سبيل الوصول إلى السلاح والعتاد... وكذلك لم يكن من رأيي أن أنفرد أو تنفرد اللجنة القومية برأي يتوقف عليه مصير هذه المدينة". وفي 21 كانون الثاني يناير 1948، توجه إلى القاهرة لمقابلة المفتي وفد مؤلف من المطران جاورجيوس حكيم مطران طائفة الروم الكاثوليك والشيخ عبدالرحمن مراد ويوسف صهيون. وزود رشيد الوفد"بتقارير الخبراء من العسكريين العرب عما نحتاجه من عتاد وعدة ورجال... و معلومات عن كل ما يتعلق بمدينتنا في حاضرها المرعب ومستقبلها الغامض، وعن رغبة اليهود في إعلانها مدينة مفتوحة لتجنب سفك الدماء... حتى تنجلي الثورة على التقسيم". ويروي صاحبنا:"عاد وفد حيفا... مساء يوم 27/1/1948، واستمعنا إلى حديثه... بجلسة سرية دعوت إليها في بيت سيادة المطران... وخلاصة الحديث رفض أي فكرة لوقف إطلاق النار والصمود في وجه الأعداء بسلاح الإيمان حتى النصر المحتوم". غير أن صاحبنا يورد نص رسالة حملها الوفد إليه موقعة من الحاج أمين بتاريخ 25/1/1948 تذكر، فيما تذكر من تعليمات،"أن يكون الموقف الحالي في حيفا وأمثالها في المدن التي لم تستكمل وسائلها دفاعياً كذا". وفي 29/1/1948 استدعى حاكم اللواء والقائد العسكري البريطانيان ممثليْن عن الطائفتين و"طلبا إليهما منذرين متوعدين إصدار بيانات بوقف إطلاق النار، وفي حالة التردد أو التمرد على هذا الأمر فإنهما سيضطران لإعلان منع التجول والقيام بحملات التفتيش عن الأسلحة ومصادرتها". ويستطرد رشيد بقوله إن اللجنة رأت أن ليس في إمكانها أن تصطدم بالإنكليز"فنتعرض عندئذ لخوض معارك مع عدوين... وأن حملات التفتيش ومصادرة السلاح تعني تجريدنا من سلاح لم نحصل عليه إلاّ بشق الأنفس"، لذلك رأت من المصلحة إصدار بيان بوقف النار"بعد التأكد من صدق بيان مماثل من الوكالة اليهودية والهاغاناه معاً موجه لليهود". وفي إثر صدور هذا البيان تعرضت اللجنة القومية في حيفا ل"انتقاد شديد وجه إليها من الإخوان الوطنيين المتصلين بالهيئة العليا في يافا ونابلس"، وكذلك من"طبقة من المرتزقة على حساب هذا الوطن والوطنية والغيرة على مقام سماحة المفتي"، ممن هرب من ساحة القتال في حيفا"هرب الجبناء"فوجدوا مع بعدهم عن"معمعة القتال"في بيان اللجنة القومية وفي سفر وفدها إلى مصر"سبيلاً للتقرب من الهيئة العليا ومادة خصبة للدس والاتهام".
وكان موضوع النزوح، أو بالأحرى السماح بنزوح المدنيين، أو عدم السماح به، إلى خارج حيفا من أكثر الشؤون الخلافية تأثيراً في العلاقات بين صاحبنا والحاج أمين بعد موضوع القيادة العسكرية الذي مر ذكره. ويحتل موضوع النزوح تاريخياً المقام الأهم بين سائر جوانب النكبة، ذلك بأن الدوائر الصهيونية دأبت منذئذ على تكرار الادعاء بأن نزوح الفلسطينيين خلال حرب 1948 تحت وطأة الإرهاب الصهيوني إنما كان بناء على أوامر من اللجان القومية الفلسطينية، ومن الحاج أمين بالذات. ومع أننا فندنا هذه المزاعم منذ عقود جملة وتفصيلاً، فقد غدا هذا الزعم الزائف أهم حجة في الترسانة الصهيونية الدعائية للتهرب من تبعة التسبب المتعمد باللاجئين الفلسطينيين، وبالتالي من واجب القبول بعودتهم إلى ديارهم. وبما أن نزوح سكان حيفا خلال الفترة ما بين قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني نوفمبر 1947 وبين سقوط المدينة في نيسان أبريل 1948، كان أكبر حركة نزوح خلال تلك السنة من حيّز واحد، فقد ركز المؤرخون الصهيونيون، وعلى رأسهم بِني موريس، إلى يومنا هذا على"مسؤولية"الحاج أمين واللجنة القومية في حيفا المباشرة عن النزوح عن المدينة، وجعلوه تطبيقاً للاستراتيجيا الفلسطينية العسكرية، وحتى العربية المعتمدة.
لقد مر وصف مدينة حيفا، وكيف أن الأحياء اليهودية الجديدة احتلت سفوح جبل الكرمل، وأشرفت إشرافاً كلياً على الأحياء العربية الأدنى والأقرب إلى الشاطئ. ويخبرنا رشيد أن إطلاق النار بدأ من جانب اليهود بعيد صدور قرار التقسيم، في 8/12/1947، واستمر الهجوم أربعة أيام بلياليها فكانت النيران تطلق بلا انقطاع من عماراتهم العالية على الشوارع التجارية والأحياء السكنية العربية، وعلى"أبواب المساجد والكنائس والمقابر والمدارس... وظهرت مكامن لليهود أخذت تهدد طرق العرب في قلب أحيائهم وفي مداخل بيوتهم". وعمد اليهود بعد ذلك إلى إلقاء القنابل من باصاتهم، وإلى اختراق الحواجز العربية بالتحايل في زي الجنود البريطانيين وسياراتهم للوصول إلى المقاهي والتجمعات العربية لمهاجمتها بالأسلحة الأوتوماتيكية، فنشطت نتيجة ذلك، وقبل نهاية كانون الأول ديسمبر،"حالة نزوح عن المدينة بشكل مرعب مخيف".ويتابع رشيد كلامه بقوله:"وكي نوقف حركة النزوح هذه فقد أصدرنا البيانات المشجعة والمطمئنة وفي الوقت ذاته ضاعفنا الجهد في سبيل تعزيز الحامية وتقوية الحرس". واستحوذت حالة الأطفال الفقراء في الأحياء المهددة على مشاعر اللجنة القومية، فقررت بالإجماع تجنيبهم"شدائد الأيام المقبلة"، ونقلهم إلى سورية ولبنان، ووافقت الحكومتان على ذلك وعلى تحمل نفقات إقامتهم،"وبلغ ما نقل من أطفال إلى لبنان بضع مئات في أيام عدة، وكان هؤلاء من أبناء المسلمين والمسيحيين على السواء". ويتابع صاحبنا فيقول إن الحاج أمين"كان يعارض أشد المعارضة في إخراج الأطفال العرب الفقراء... وطلب إذا كان لا بد من إخراج مثل هؤلاء الأطفال فليكن ذلك إلى داخل البلاد كنابلس وغيرها". ويخبرنا رشيد، في هذا الصدد، أنه بعد عودة المطران حكيم وصحبه من القاهرة في 27/1/1948، كما مر ذكره،"طلب المطران حكيم أن أختلي به قليلاً مستأذناً من الحضور، فاختلينا في غرفة أُخرى في بيته، فقال لي وعلامات التأثر بادية على وجهه: إن سماحة المفتي قد تعرض لكرامتي وأسمعني من الكلام القارس ما لم أكن أنتظره منه. فسألته عن الأسباب فقال: كان يعتقد أنني أنا الذي كنت سبباً في إخراج الأطفال من حيفا وتشجيع الناس على المهاجرة منها. ومن أقواله إليّ: ما شأنك والمداخلة في أمور ليست لك علاقة بها، وغير ذلك من الأقوال الجارحة، فأجبت المطران بعبارات لطيفة مما خفف عنه آلامه". ويذكر القارئ أن المطران ورفيقيه حملوا رسالة من الحاج أمين إلى صاحبنا اقتبسنا فقرة منها أعلاه، وكان الحاج أمين أنهى رسالته تلك بقوله:"إن الجهود مبذولة بصورة جدية لاستكمال الوسائل الضرورية لحيفا والقرى المجاورة لها... وبذلك فإننا نرجو أن تبذل لجنتكم الموقرة وجميع الشخصيات الوطنية في حيفا كل الجهود لتقوية الروح الوطنية وإبعاد الذعر ومنع هجرة الناس من حيفا والسعي لإعادة الذين خرجوا منها كذا".
كانت هجرة الأطفال جزءاً من كل، ذلك بأن اليهود أخذوا في تصعيد أساليب قتالهم. وكان عدد الضحايا العرب من قتلى وجرحى بلغ 700 بنهاية كانون الثاني يناير 1948. وشرع اليهود خلال شباط فبراير وآذار مارس في استعمال مدافع الهاون ودحرجة الألغام على الأدراج المؤدية إلى الأحياء العربية السفلى، وزرع السيارات من نوع"البيك آب"المفخخة. كما باشروا عملية نسف مبرمجة للأبنية العربية الاستراتيجية. ويذكر صاحبنا في هذا السياق نسف دار بشير المغربي وبناية ملص وعمارة صبحية إبراهيم من ثلاث طبقات وبناية النادي الرياضي الإسلامي والبنايات المحيطة بهذه الأخيرة، وغيرها الكثير. واستولى اليهود على"بناية الشاذلية المشرفة على دور العرب في حي الشاذلية ودرج المفتي ولم يبق في هذا الحي إلاّ عربي واحد آلى على نفسه أن لا يغادر بيته"، أي صاحبنا نفسه. ويتابع رشيد كلامه:"اشتدت في الشهر الثاني من سنة 1948 حركة النزوح العربية عن حيفا بشكل مخيف. أُقفر حي الغزازوة وحي الحليصة وأرض اليهود، إلاّ من بضع عائلات ومن أعداد قليلة من الحرس، أُقفر حي البرج... و حي وادي الجمال وحي الزيتون، وانحصر العرب في الجهة الغربية... كما انزووا في الجهة الشرقية انزواء". ويضيف صاحبنا:"كان رئيس الهيئة العليا يعارض في نزوح السكان العرب عن حيفا، وكنا عند بدء الحوادث متفقين معه على هذا الرأي ولكن لمّا تعطلت الأعمال، وتوقفت الأشغال في الشركات والمصانع والمعامل... ولمّا كان معظم سكان حيفا العاملين من بلدان وقرى فلسطين المختلفة، وقد وفدوا إلى حيفا للعمل فيها، وبتوقف الأعمال صار وجودهم في بلدانهم وقراهم أضمن لمصالحهم، ولمّا لم يعد بإمكاننا صد هؤلاء عن العودة إلى بلدانهم أُكرهنا على الموافقة على خروجهم إكراهاً لم يكن منه بد"، بيد أن الحاج أمين"كان يرى في حالات النزوح التي لم تجد اللجنة القومية سبيلاً للقضاء عليها تهاوناً وتقصيراً". ولن يعجز القارئ عن التأكد بنفسه من صدق كلام صاحبنا عن معارضة اللجنة القومية للنزوح، وذلك عن طريق مراجعة البيانات الإثني عشر الصادرة عنها والمثبتة ملحقاً بهذا الكتاب. كما أن ما يقوله صاحبنا عن موقف الحاج أمين من النزوح يكشف كذب كبير المؤرخين الإسرائيليين بني موريس وتدليسه، ويدحضه دحضاً ناجزاً.
توالت الاعتداءات اليهودية طوال آذار مارس بلا انقطاع. ومنيت حيفا بخسارة فادحة في هذا الشهر أيضاً باستشهاد قائد حاميتها، الملازم الأول محمد حمد الحنيطي في كمين يهودي نصب لقافلته على الطريق بين عكا وحيفا وهو عائد من لبنان حيث كان بمهمة عسكرية، واستشهد معه 15 مناضلاً، بمن فيهم بعض أبرز المقاتلين المرابطين في حيفا. وطلب صاحبنا من اللجنة العسكرية في دمشق قائداً يحل محل الحنيطي، وتأخر وصول القائد الخلف حتى 1/4/1948 فتولى صاحبنا، في هذه الأثناء، الإشراف المباشر على حامية حيفا، إضافة إلى سائر مسؤولياته. ويحدثنا رشيد عن كل هذا فيقول:"ومع أن الشهر الثالث من سنة 1948 حمل حادث استشهاد قائد الحامية وعدد كبير من رفاقه الأمناء فقد كانت معنوياتنا في هذا الشهر أقوى منها في الأشهر الثلاثة الماضية. كنا أكثر اطمئناناً إلى استحكاماتنا وخنادقنا وحواجزنا ومناضلينا، وكنا أكثر وثوقاً بأسلحتنا وذخائرنا، وكانت عللنا التي لطالما شكونا منها وصيحاتنا التي كنا نرددها قد وصلت إلى آذان المعنيين بالأمر في اللجنة العسكرية والهيئة العليا". ويعزو صاحبنا ارتفاع المعنويات هذا إلى أسباب أُخرى، منها"وجود مفارز جيش الإنقاذ في الشمال وأخبار دخول المتطوعين من كبار الوطنيين السوريين وكبار متعلميهم وبعض نوابههم مع تلك المفارز وأخبار دخول مفارز الإنقاذ إلى أواسط فلسطين ووجودها بقيادة القاوقجي في جنين". ومما رفع معنويات سكان حيفا قيام مناضليها أخيراً برد التحية لأعمال النسف اليهودية، إذ نسفوا في 21 آذار مارس بناية شركة سوليل بونيه ومكاتبها وبناية مطاحن فلسطين الكبرى ومنجرة كبيرة لليهود في شارع العراق،"وكان لهذه الأعمال التي برهنت على أننا أصبحنا نستطيع أن نرد العدوان بمثله أكبر أثر في اطمئناننا إلى نتائج معركتنا الدامية". على أن أقوى سبب لارتفاع المعنويات كان خبر عدول الولايات المتحدة الأميركية عن تأييد التقسيم وتفصيله كالآتي: كان خبراء وزارة الخارجية الأميركية أصلاً يعارضون التقسيم ويعتبرون تأييد الولايات المتحدة له مضراً بمصالحها في العالم العربي، لكن القرار كان للبيت الأبيض، وسنة 1948 كانت سنة انتخابات رئاسية أميركية، وكانت الصهيونية ما برحت تكرر أن التقسيم لن يجد مقاومة تذكر من العرب، وأن العرب سيرضخون له صاغرين. بيد أن انتشار القتال في فلسطين واشتداده في آذار مارس، ودخول مفارز جيش الإنقاذ، وقيام العرب بالرد على ضربات الهاغاناه، واقتراب موعد انسحاب الجيش البريطاني، والخوف من تدخل الجيوش العربية عند انتهاء الانتداب، كل ذلك قوّى حجج"المستعربين"في وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين. ففي 16 آذار مارس، أرسلت وزارة الخارجية تعليماتها إلى وفدها في الأمم المتحدة لطرح مشروع وصاية دولية على فلسطين بديلاً من مشروع التقسيم. وفي 19 آذار مارس، أعلن المندوب الأميركي في مجلس الأمن أن الولايات المتحدة لا ترى بداً من وضع فلسطين تحت الوصاية الموقتة بإشراف مجلس الوصاية في الأمم المتحدة، وأن لا بد من اجتماع الجمعية العامة لأخذ قرار بتعليق المساعي لتنفيذ التقسيم. وقامت قيامة الصهيونية ولم تقعد، وأعلن زعماؤها رفضهم المطلق لمبدأ الوصاية مهما تقصر مدتها. وصرح ممثل الوكالة اليهودية، موشيه شرتوك،"أن الصهيونية اجتازت عتبة الدولة ولا عودة عن ذلك". أمّا كيف عادت الولايات المتحدة إلى تأييد التقسيم واعترف رئيسها هاري ترومان بدولة إسرائيل بعد 11 دقيقة من إعلانها فقط يوم 15 أيار مايو 1948، فليس هنا المجال لشرحه أو سرده. بيد أن الهجوم اليهودي على حيفا، الذي أدى إلى سقوطها في 21-23 نيسان ابريل، كان في رأينا أحد العناصر الأساسية للرد الصهيوني على مشروع الوصاية الأميركي. ويخبرنا صاحبنا عن سماعه خبر"عدول"الولايات المتحدة عن التقسيم فيقول:"كنت ليلة السبت الواقع 20/3/48 حتى حوالي منتصف الليل في مقر قيادة الحامية أشرف على تنظيم الأمور... و انتقلت إلى دار أمين سر اللجنة القومية الشيخ عبدالرحمن مراد القريبة... استمعنا من محطة إذاعة مصر أخباراً جاء فيها... أن أميركا فاجأت العالم بعدولها عن تأييد التقسيم في مجلس الأمن الدولي...". وأصدرت اللجنة القومية بالتاريخ ذاته بيانها رقم 12 إلى سكان حيفا تعلن فيه"أن المؤامرة على تقسيم بلادكم وتمزيق وطنكم قد فشلت، وأن حلم الأعداء بتأسيس الدولة الموهومة على أنقاضكم قد تبدد". ويلفت البيان الأنظار إلى أن"ما تم حتى الآن يُعتبر نصراً تمهيدياً لما يأتي به المستقبل القريب من نصر كامل... وإلى أن نتجنب أي صدام مع رجال الأمن والجيش في المرحلة المقبلة... وإلى أن يحتفظ كل منا بمركزه وأن ينفذ ما يصدر إليه من أوامر وتعليمات". وفي 22/3/1948، يوجه رشيد، باسم اللجنة القومية، بياناً إلى معلمي المدارس الإسلامية يحثهم فيه على"ضرورة عودتهم إلى تأدية واجباتهم".وفي الأسبوع الأخير من آذار مارس، طلب المحامي اليهودي ليفشيتس مقابلة صاحبنا عن طريق صديق مشترك هو القاضي أحمد الخليل، وتم الاجتماع في منزل الأخير. ويروي رشيد أن ليفشيتس اقترح"التفاهم على اعتبار حيفا مدينة مفتوحة... ولمس إعراضي عن قبول البحث في الموضوع فتحول عنه... و تحدث عن إمكان التفاهم لحل القضية عامة بتشكيل حكومة متحدة من العرب واليهود بنسبة 55 في المئة من العرب و45 في المئة من اليهود... لم أتبسط في البحث معه لأن غايتي في الموافقة على الاجتماع كانت للأخذ لا للعطاء وللسماع لا للكلام". وأغلب الظن أن ليفشيتس كان لربما يمثل، تحت وطأة عدول الولايات المتحدة عن تأييد التقسيم، وجهة نظر فئة يهودية معتدلة لكن بعيدة كل البعد، حتى لو كان ليفشيتس صادقاً، عن موقف القيادة الصهيونية وسياساتها وموقف بن - غوريون بالذات. والجدير بالذكر أن بِني موريس يشير إلى خلافات سياسية بين شخصيات مدنية يهودية في حيفا وبين قيادة الهاغاناه فيها.
أخيراً، وفي أول نيسان أبريل، يصل قائد الحامية الجديد المعيّن من اللجنة العسكرية في دمشق خلفاً للحنيطي، وهو أمين عز الدين، النقيب السابق في قوة حدود شرق الأردن. وجاء معه، كمعاون له، الضابط أمين النبهاني. وهذا الأخير، بشهادة صاحبنا،"من أبناء حيفا ومن العارفين بمسالك المدينة وأحوالها". غير أن اللجنة القومية لم تطمئن كل الاطمئنان إلى القائد الجديد"لتردده وعدم توفقه في تسيير الأمور". فقررت إقامة مجلس حربي للحامية قوامه قائد الحامية عز الدين، ومساعداه يونس نفاع الذي مر ذكره والنبهاني، وضابطان فلسطينيان من ضباط البوليس هما صبحي طوقان ورستم عمرو. وكان أول قرار للمجلس تكليف طوقان قيادة مفارز الحامية في القسم الشرقي من المدينة، وعمرو قيادة مفارز القسم الغربي منها.
وكان فوزي القاوقجي، الذي عين قائد الميدان للمتطوعين العرب من جانب اللجنة العسكرية كما أسلفنا، قد وصل في الأسبوع الأول من آذار مارس إلى منطقة جبل نابلس وسط فلسطين، واتخذ من جنين مقراً لقيادته. وحرص صاحبنا على الاتصال به، وهو يستفيض في شرح مبررات ذلك العسكرية من أجل دفع أي تفسير آخر عن نفسه لعلمه بمعارضة الحاج أمين الشديدة للقاوقجي. ويحدثنا صاحبنا عن علاقته بالقاوقجي فيقول:"اتصلت بفوزي ليعمل على تخفيف الضغط عن حيفا وبيّنت له الطرق المؤدية إلى المدينة عبر مرج ابن عامر وطريق الناصرة - المجيدل، نظّمتُ بيننا بريداً خاصاً لتعريفه على مستودعات ومعسكرات الجيش البريطاني حول منطقته المتصلة بطريق حيفا الساحلي على طرف المرج أو بطريق حيفا الجبلي الموصل إلى الكرمل. وقد أجابني بعدة كتب". ويضيف رشيد أن القاوقجي طلب منه أن يكون همزة الوصل مع شكيب وهاب، قائد المفرزة الدرزية في جيش الإنقاذ، التي كان متوقعاً وصولها إلى الجليل الغربي شمالي حيفا، وأن القاوقجي بلّغه قرب قيامه"بحركة طيبة"، وأنه ينتظر طقساً حسناً وجفافاً للأرض لأنه سيستعمل أسلحة ثقيلة، وهو ما حدث في الأسبوع الأول من نيسان ابريل في هجوم القاوقجي غير الموفق على مستعمرة مشمار هعيمك. ويخبرنا صاحبنا أنه كان يحصل على مصفحات من معسكرات الجيش البريطاني ولا يتمكن من استخدامها أو إظهارها في حيفا لوجود القوات البريطانية فيها،"فكنا نرسل هذه المصفحات لفوزي بك الواحدة بعد الأُخرى وأذكر أننا أرسلنا إليه من 6-8 مصفحات كنا نحصل عليها بمساعي الصديق الشيخ عبدالله السلمان أحد وجهاء قرية الطيرة العربية بقضاء حيفا كلفتنا الواحدة منها خمسين جنيهاً سدد أثمانها فوزي بك بحينه. وعند وصول الثائر... شكيب وهاب مع الفوج الدرزي إلى شفاعمرو أخبرت بذلك فوزي بناء على طلبه".
في أول نيسان أبريل، عين الحاج أمين عيسى الخليلي ومحمد الشيخ إبراهيم عضوين في لجنة الأمن في حيفا"دون أن يأخذ رأي اللجنة القومية في ذلك، ودون أن يكتب إليها بهذا التعيين، فكان تعيين هذين الشخصين في لجنة الأمن سبباً مباشراً في تعقيد الأمور إذ لم يستطع هذان العضوان الانسجام مع اللجنة، وكانا من ناحية أُخرى يريدان السيطرة عليها". ويقع هذا الحدث في سياق محاولات الحاج أمين السابقة فرض من يختارهم لشؤون المقاومة في حيفا. ويذكر القارئ أن لجنة الأمن هذه إنما كانت الصيغة التي اقترحها صاحبنا لاستيعاب كل من أبي محمود الصفوري وحسن شبلاق الموفدين من الحاج أمين إلى حيفا في أوائل شباط فبراير 1948.
وسبق وصول الخليلي والشيخ إبراهيم ظهور"عناصر جديدة في ميادين دفاعنا لم تكن خاضعة للحامية أو مرتبطة بالحرس المحلي. هذه العناصر أخذت تتهم اللجنة والحامية والحرس بالتقصير وأخذت تقوم بأعمال فردية تحت أسماء شتى. لم يكن باستطاعة اللجنة مقاومة هذه العناصر أو التصدي لها ومن هنا كان المنفذ لفقدان سيطرة اللجنة على الموقف. وأُفلت زمام المبادرة من الحامية التي صارت تُكرَه على خوض معارك مع اليهود في أوقات لم يكن فيها بمستودعاتها من سلاح وعتاد ما يكفي للصمود ساعة أو بعض الساعة". ويستطرد صاحبنا في روايته قائلاً:"من الإنصاف أن أسجل هنا أنه لم يكن هؤلاء الشباب المغامرون المنتسبون لفصيل الجهاد المقدس... هم المسؤولون بالذات عما أصاب المدينة... بل كانت المسؤولية تقع على عاتق أولئك النفر الذين دأبوا على العمل من وراء الحدود بوحي من مصالحهم"، وهم أنفسهم الذين وجه رشيد إليهم تهمة التحريض والمزايدة ضده وضد اللجنة القومية في إثر إعلانها بيان وقف إطلاق النار في 29/1/1948.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.