تعلن الفتاة المجهولة التي تولت فعل السرد في رواية"بنات الرياض"دار الساقي للكاتبة السعودية رجاء عبدالله الصانع انها قررت جمع الرسائل الإلكترونية الإيميل التي دأبت على إرسالها الى معظم مستخدمي الإنترنت في السعودية ضمن كتاب لا تجرؤ على تسميته بپ"الرواية". فما كتبته من رسائل اسبوعية ليس سوى"مجرد تأريخ لجنون فتاة في بداية العشرينات من عمرها"ويصعب تالياً إدراج هذه الرسائل في سياق العمل الروائي. إلا ان هذه"الراوية"الشابة والمجهولة دوماً مقتنعة سراً ان ما انجزته هو رواية بحق وإن لم تتقصد كتابتها كرواية ناجزة او مفترضة مسبقاً. وكان اقترح عليها احد قراء رسائلها الإيميل ان تصنع من هذه الرسائل فصولاً لرواية مطبوعة. اعجبها الاقتراح وأخافها في الوقت نفسه، فهي على قناعة ان هذه الرواية ستمنع حتى وإن طبعت في لبنان. تبدو"الراوية"المجهولة اشبه بپ"شهرزاد"عصرية وحديثة، لكنها تروي"حكاياتها"مرة في الأسبوع وتحديداً نهار الجمعة بعد انتهاء الصلاة. وهي تروي لا لتنقذ نفسها من الموت بل لتنتقم لصديقاتها الأربع من ظلم الحياة والمجتمع. فلا شهريار هنا حتى وإن بدا معظم الرجال في"الحكايات"يحملون بعضاً من ملامح صورته. اما"الحكايات"التي تسردها فهي متداخلة ومتصلة من خلال خيوط عدة هي خيوط الشخصيات نفسها والأحداث وسواها. وهنا يبرز اثر ضئيل من بنية"ألف ليلة وليلة"، خصوصاً عندما تنقطع"الراوية"عن سرد حكاية ما، لتنصرف الى اخرى مرتبطة بها او بشخصياتها. فهي بينما تحكي عن لميس مثلاً تنصرف الى الحكي عن اختها التوأم تماضر لتعود من ثم الى لميس، وهكذا دواليك. لا تبدو هذه الرواية من الأعمال الأولى التي غالباً ما تعاني الكثير من الهنات، لكنها حقاً رواية أولى لصاحبتها، كما يشير الروائي والشاعر غازي القصيبي في كلمة له على الغلاف الأخير. فالرواية طريفة جداً ومبتكرة، لا سيما في جعل الفصول رسائل إلكترونية تقدمها"الراوية"بأسطر عدة خارج اطار الأحداث، مستعينة بالكثير من الحكم والقصائد والأقوال المأثورة دعماً لما تريد ان تثبته في الحكايات. اما البنية الروائية فهي على متانة ورسوخ، وقد اعتمدت الكاتبة البناء"الحلزوني"الذي يتناسل السرد من خلاله ويتقطع ويتواصل في الحين عينه. وهذه اللعبة تتطلب الكثير من الدقة والفطنة كونها قائمة على الاسترجاع السردي. لكن المشكلة التي تعتري الرواية تتمثل في الأخطاء اللغوية، صرفاً ونحواً، ولم تستطع الكاتبة ان تبررها في قولها انها تريد"نشر الرسائل بلا تنقيح"، فالأخطاء اعترت"المقدمات"التي هي خارج"الحكايات". ناهيك ببعض التكرار الذي كان من الممكن تفاديه مما كان ليخفف من طول السرد وركاكته في احيان. تعتمد الكاتبة تقنية الإيميل والإنترنت جاعلة من"الراوية"الجريئة شخصية حديثة جداً. وقد شغلت هذه الرسائل الإلكترونية الأوساط المحلية وأحدثت ضجة وكتبت الصحف الرياض، الوطن، الجزيرة... عن هذه الفتاة المجهولة التي تفشي اسرار صديقاتها اللواتي ينتمين الى الطبقة المخملية. لعل ذكر الصحف بأسمائها الحقيقية هو ضرب من ضروب الواقعية التي تهيمن على الرواية ككل. كأن"الراوية"والكاتبة ايضاً تبغي ان تمنح رسائلها طابع الحقيقة وإن كانت مختلقة او متخيّلة. هكذا سترد وقائع كثيرة وأسماء حقيقية. فإحدى الشخصيات سديم ستدخل مكتبة"الساقي"عندما تزور لندن وتشتري رواية"العدامة"للكاتب السعودي تركي الحمد وكذلك"شقة الحرية"للكاتب غازي القصيبي و"ذاكرة الجسد"للروائية الجزائرية احلام مستغانمي. وعندما تلتقي بالشاب السعودي فراس في احد المقاهي اللندنيةتجده يقرأ"الحياة"و"الشرق الأوسط". هذا الدمج بين الواقعية والمتخيل منح الرواية طابعاً فريداً ورسخها في ارض الحقيقة الملموسة. تدخل"الراوية""المجهولة"عالم الفتيات السعوديات ولكن لا لتحدث فضيحة كما خيل إليها بل لترسم لهن صوراً فردية وصوراً جماعية، عبر صداقتهن ولقاءاتهن وحياتهن شبه المشتركة. الشخصيات النسائية أو الأنثوية الرئيسة هن اربع طالبات جامعيات": سديم، قمرة، لميس ومشاعل او ميشيل. على ان شخصيات اخرى ثانوية تنضم إليهن مثل ام نوير وتماضر، عدا الشخصيات الذكورية التي ستحضر بشدة لارتباطها بالفتيات. الطالبات الأربع تجمعهن صداقة متينة على رغم اختلاف امزجتهن وأطباعهن. وعلاقاتهن بعضهن ببعض لن تنتهي إلا في الختام عندما تذهب كل واحدة الى قدرها. قد تبدو الرواية للوهلة الأولى رواية هؤلاء الفتيات الأربع لكنها ستتحول لاحقاً الى رواية المجتمع، مجتمعهن كفتيات ومجتمع الرجال والأهل... وإن بدت الفتيات على علاقة وطيدة فيما بينهن، فإن كل فتاة ستعيش خيبتها الخاصة ما عدا لميس التي ستُوفّق في حياتها الزوجية وترتدي الحجاب وتسافر مع زوجها الى كندا ليواصلا دراساتهما العليا. كانت لميس وسط هذه"الشلة"مستشارة فلكية تشتري كتب ماغي فرح وسواها وتقرأها ثم تقرأ على صديقاتها التوقعات"البرجية"والمواصفات التي تقرب بين برج وآخر او تبعد بينهما. لكن الصدمة الوحيدة التي واجهتها لميس في حياتها الجامعية وقبل ان تتزوج من زميلها نزار تمثلت في اضطرارها على قطع علاقتها مع صديقتها فاطمة تبعاً لاختلافهما الطائفي. وكانت لميس بدأت تميل الى شقيق فاطمة علي الذي كان يدرس الطب في الجامعة نفسها. وانقطاع هذه العلاقة سيكون نهائياً، خصوصاً بعدما ضبطت"هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"لميس وعلي في احد مقاهي الرياض، وكان والدها متفهماً جداً للأمر وأصر عليها ألا تقابل رفاقها خارج مبنى الجامعة. بدت لميس اشبه بالصديقة الطيبة القلب، تساعد صديقاتها على حل مشكلاتهن وتؤازرهن في اللحظات الصعبة. فهي مثلاً علّمت قمرة صديقتها المظلومة كيف تستخدم الإنترنت والإيميل لتكسر عزلتها التي فرضت عليها بعدما طلّقها زوجها تاركاً إياها مع طفلهما الوحيد. حكاية زواج قمرة من راشد الذي لم تقابله إلا مرة واحدة في يوم"الرؤية الشرعية"هي الحكاية الأولى التي تسردها"الراوية"مفتتحة بها رسائلها. في ليلة العرس تعطلت كاميرا الفيديو وكأنها تؤذن بپ"العطل"الذي سيصيب حياة الزوجين اللذين سيسافران للتو الى شيكاغو ليكمل راشد الدكتوراه في التجارة الإلكترونية. مضى على زواجهما سبع ليال وهو بعيد منها وغير مبال بها وبأحاسيسها. ثم يبدأ الخلاف ويعلن كراهيته لها ويدفعها الى التخلي عن زيّها السعودي. وعندما تخلع الحجاب يلفاها بشعة فيأمرها بأن ترتديه من جديد. كانت قمرة تحبه على رغم قسوته وفظاظته، وعندما علمت بخيانته إياها مع امرأة يابانية تدعى كارين جن جنونها، وأصرت على ان وتلتقي بپ"العشيقة"التي ستسخر منها مهاتفة راشد أمامها. وانتقاماً من الزوج الخائن تتوقف عن تناول حبوب منع الحمل وتقع حبلى من ثم وفي ظنها ان الإنجاب قد يغير من سلوك الزوج. وعندما يعلم بحبلها يصفعها ويرسلها الى اهلها في الرياض ويرسل إليها ورقة الطلاق. هنا تبدأ مأساة اخرى. تسمي قمرة الطفل على اسم جده لأبيه آملة بجذبه الى الحياة العائلية، لكن الزوج لن يبالي وكذلك اهله الذين يواجهون ولادة طفلهم ببرودة تامة وكأنهم غير معنيين به. اصبحت قمرة اماً ولكن بلا زوج وحياتها لدى اهلها تشبه الحياة في السجن. فأهلها يمنعونها من الخروج وحدها لأنها مطلّقة، فالمطلقة بحسبهم تثير المشكلات. لكن صديقاتها كن يتمكنّ من اخراجها من"السجن"العائلي حيناً تلو آخر. مأساة سديم مأساة الصديقة الأخرى سديم لن تكون اقل من مأساة قمرة. فهذه الفتاة التي نشأت يتيمة الأم ستفقد حبها الأول والثاني وستنتقم منهما في الختام بالزواج من ابن خالتها طارق الذي لم تكن تتصور يوماً انه سيصبح زوجها على رغم حبه القوي لها. الصدمة العاطفية الأولى احدثها في حياتها خطيبها وليد عندما هجرها بعد عقد القران وقبل بضعة اشهر من الزواج. فهي سلمته نفسها ذات ليلة معتبرة اياه زوجها وأمضيا ساعات حميمة. ثم ما لبث ان غاب وقطع علاقته بها وأرسل إليها ورقة الطلاق. كانت صدمتها قوية وراحت تلوم نفسها وكأنها هي التي اخطأت في ليلة الحب"العذري"تلك. كتمت سديم سرها وانطوت على نفسها وانهارت، ففي ظنها ان وليد اعتبرها ذات"تجربة"سابقة. وقد تكون هذه هي الحقيقة التي حفزته على طلاقها. الصدمة الثانية التي تعيشها سديم لن تكون اخفّ وطأة من الأولى. فالطالب فراس الذي تعرفت إليه في لندن عندما قصدتها بغية الاستراحة و"النقاهة"بعد المأساة التي حلت بها، ستقع في حبه مثلما يقع هو في حبها. لكن مركزه المرموق في بلاده التي عاد إليها اخيراً سيحول دون زواجه منها فهو لا يستطيع كعازب ان يتزوج من امرأة مطلقة وسيكون عرضة للأقاويل. يتزوج من احدى قريباته من غير ان يتخلى عن حبه. تنهار سديم مرة اخرى وتيأس وتعيش في عزلة شديدة. يتصل بها فراس مرة عارضاً عليها ان يظلا على حبهما من دون ان يتخلى عن زوجته. ترفض سديم هذا العرض وتزداد يأساً. لكن فراس يعاود الاتصال بها مما يزيد من عذابها، فتقرر ان تنساه نهائياً، منصرفة الى تأسيس شركة صغيرة تعنى بالأفراح والأعراس، وتساعدها فيها صديقاتها. في الختام ستجد سديم نفسها امام طارق ابن خالتها وما من مفر من الزواج منه، هو الذي يهيم بها. هكذا تتخلص سديم من ماضيها وتنتقم من"المأساتين"اللتين كادتا ان تدمرا حياتها. مشاعل او"ميشيل" الصديقة الاخرى ميشيل واسمها الحقيقي مشاعل هي الاطرف والاكثر واقعية والاشد تحرراً كونها سعودية الاب واميركية الام. تتعرف ميشيل الى فيصل مصادفة عندما يطلب من شلة الصديقات الاربع ان يدخلنه معهن الى السوق. هذا اللقاء العابر سيكون مثاراً لحب كبير ومتبادل وسيتوج في يوم"الفالنتاين"عندما يصطبغ الحرم الجامعي بالاحمر قبل منع هذا اليوم رسمياً. مكث الحب عاماً بكامله وعندما فاتحته بالزواج تراجع لأن أمه ترفض ان يتزوج من مواطنة اميركية الام. يجن جنونها وتمرض، هي الصادقة والجريئة والمتمتعة ببعض الحرية. بعد هذه الصدمة تسافر الى سان فرنسيسكو لتواصل درسها في كنف خالها. هناك تنشب علاقة اعجاب بينها وبين ابن خالها، لكن هذه العلاقة تظل ملتبسة فلا هي علاقة حب ولا علاقة صداقة ولا علاقة قربى. تُسقط ميشيل الفكرة من رأسها عندما تعود الى الرياض. لكن أهلها لن يلبثوا أن ينتقلوا الى دبي هرباً من الاعين والالسنة. فالوالد ذو عقلية حديثة ورفض ان يتخلى عن زوجته عندما اصيبت بالسرطان. ولم يتوان هو والزوجة والابنة ميشيل عن تبني طفل سمّاه مشعل أو ميشو. قد تكون الصراحة والبساطة من أهم ما يميّز ميشيل، وهي ترفض الكذب والتصنع. وعندما تنتقل الى دبي تلتحق بأحدى"الفضائيات"التي يملكها والد صديقتها الاماراتية جمانة. تنجح في عملها وتعيش بحرية وتُعجب بمخرج شاب يعمل معها ولكن تظل حائرة ان كانت تحبه أم لا. تسأل ميشيل والدها ان كان يسمح لها بالاطلالة التلفزيونية فيقنعها بموقفه الرافض تحاشياً للصدمة التي ستحدثها في وسط عائلته في السعودية. لكن ميشيل التي لا تجيد العربية كثيراً ستنتقم من فيصل ليلة عرسه، فتقصد الحفلة من غير دعوة وتترك له رسالة في هاتفه الخلوي منبئة اياه انها في الصالة، فيرتبك العريس كثيراً ويؤخر دخوله. وعندما يدخل تكون ميشيل بين الراقصات اللواتي يستقبلنه، مما يثير قلقه وخوفه. لكن ميشيل سرعان ما تخرج قبل ان يتعرف الآخرون عليها. واذا كانت الحكايات تدور حول هؤلاء الصديقات الاربع فان شخصية خامسة ترتبط بهن ولو من خارج بيئتهن أو حياتهن. انها أم نوير الكويتية المتزوجة من سعودي تركها هي وابنها بعد خمس عشرة سنة زواجاً. كانت أم نوير تفتح بيتها أمام الصديقات فيلتقين عندها حين يتعذر عليهن ايجاد مكان للقاء. واصبحت هذه المرأة صديقة للجميع، تساعدهن وتعمل معهن. في التاسعة والثلاثين، امرأة جريئة استطاعت ان تواجه مشكلة ابنها الوحيد بصلابة. وابنها يدعى أصلاً نوري لكن مثليته أو شذوذه دفع الناس الى تأنيث اسمه فباتت الام تدعى"أم نوير"عوض"أم نوري". لم تتحمل المرأة هذه السخرية في البداية لكنها تحدّت الجيران وصارت تصر على هذا اللقب. وسعت الى معالجة ابنها طبياً، وقال لها أحد الاطباء ان مشكلته نفسية وليست جسدية، ولا بدّ له حين يجتاز مراهقته من ان يتخلص من هذه النزعة الانثوية. لا تخلو رواية"بنات الرياض"من السخرية والطابع الهجائي، فالعنوان أصلاً مأخوذ من اغنية للمطرب عبدالمجيد عبدالله، وعنوان الموقع الالكتروني سمته الرواية"سيرة وانفضحت"وهو تحريف لعنوان البرنامج التلفزيوني الشهير"سيرة وانفتحت". ومقدمات الرسائل نفسها حافلة بالهزء والدعابة، كأن تقول"الراوية"في مستهل الرسائل:"سيداتي سادتي..."أو تقول:"بعدما وضعت احمري الصارخ اكمل من حيث توقفت...". والسخرية ستتخلل الحكايات ايضاً وبعض المشاهد: مشهد الكاميرا التي تتعطل في العرس، الزفة وخوف العروس من الوقوع، الاغاني... "بنات الرياض"رواية جميلة حقاً، متينة وطريفة، وشخصياتها مرسومة بذكاء واحداثها الطفيفة منبثقة من حياة الشخصيات الواقعية والمتخيلة. انها رواية اجواء ومصائر، رواية المآسي الصغيرة التي تواجهها الفتيات البريئات واللواتي يقعن ضحية للآخرين أياً كان هؤلاء الآخرون.