قبل أشهر من توزيع الرواية في الأسواق نهاية آب أغسطس، رجح معظم التكهنات فوز رواية"احتمال جزيرة"، لميشال ويلبيك بجائزة غونكور، لكن لجنة التحكيم لم تساير الاجماع الاعلامي ولم تعتبر أرقام المبيعات معياراً لتتويج هذه الرواية. وبهذا القرار أبانت هذه اللجنة، وبحسب تصريح سكرتير الأكاديمية، عن استقلاليتها في القرار بمنحها فرانسوا وييرغانس الجائزة التي هي تتويج لرواية أقل ما يقال عنها إنها مسكونة أو محفوفة بهلوسات ونوادر وخرافات أضفت عليها نكهة ساحرة، بل أكثر من ذلك عرفتنا الى كاتب لا ينفخ في الأبواق بقدر ما يحول فعل القدح الذاتي من دون أي نزوع مازوخي، واحداً من الفنون الجميلة. وهو بيّن بذلك أن للكاتب حدوداً وأن الابداع صنو للعطب بل للفشل. ستة أصوات ضد أربعة لمصلحة ميشال ويلبيك، أتاحت الأكاديمية بأن تمنح فرانسوا وييرغانس 64 سنة، من مواليد بروكسيل الجائزة على روايته"ثلاثة أيام عند والدتي" منشورات غراسي، 270 صفحة. الكاتب عودنا منذ روايته"فرانسوا وفرانتز"على لعبة مرآة سرابية تتضاعف فيها شخوص السرد الى درجة نسخ أو مبادلة الشخصيات بعضها ببعض. في"ثلاثة أيام عند والدتي"نجد التقنية نفسها، ولكن هذه المرة يدفع الكاتب بتجربة البدائل والاحباط الى منتهاها. تعرض علينا الرواية القصة غير الكاملة للشخصية الرئيسة فرانسوا فايارغراف الذي يعكف منذ مدة على كتابة رواية يدعى بطلها فرانسوا فايارستين الذي يروي بدوره قصة شخص اسمه فرانسوا غرافينبيرغ. ولا يلبث القارئ أن يلمس أن الكاتب فرانسوا فايارغراف يلجأ الى لعبة المرآة هذه بغرض التمويه وخلط الأوراق، لأنه غير قادر على الكتابة وعلى انجاز أي مشروع من المشاريع الكثيرة التي برمجها مثل كتابته نصاً عن سقراط والرقص ومقالة عن هوسيرل وديكارت، أو رواية في موضوع الحب. وبينما هو في صدد تشييد هذه القصور الوهمية، يلطمه الواقع، يعري حياته المادية، عزلته وبؤسه. لكن والدته تنقذه من هذه الورطة عندما تسقط في الحديقة، فتكسر ساقها وتنقل الى المستشفى. وبما أن علاقته بوالدته علاقة قوية وحميمية، يتحرر ابداعه وينهي أخيراً الرواية. الأم هي المرجع الذي يركن اليه الكاتب لأنها هي التي تخلصه من العقم الابداعي ومن عطب المتخيل. هنا التفاتة مرهفة الى الأم، عودة رمزية الى حضورها. وكما جاء على أقلام روائيين أو مبدعين أنتجوا نصوصاً عن أمهاتهم تنضح محبة وتعلقاً مثل بروست، بورخيس، ريتشارد فورد، ألبير كامو، كتب فرانسوا وييرغانس هنا رسالة محبة لوالدته البالغة من العمر 91 سنة. وتجدر الاشارة الى أن الأم لم تكن دائماً موضع محبة لدى الأدباء جميعاً، بل أيضاً محط أحقاد أوديبية دفينة الى درجة أن الكتابة ضد الأم اضحت مهماز متخيلهم بما للأم من سلطة افتراسية قاتلة. آخر الروائيين الفرنسيين في هذا المضمار ليس سوى ميشال ويلبيك نفسه الذي صرح لبعض الإعلاميين بأن والدته توفيت قبل سنوات فيما هي لا تزال على قيد الحياة. فرانسوا فايارغراف، الشخصية الرئيسة في الرواية، هو البديل لفرانسوا وييرغانس، الكاتب الزئبقي الذي يعرف كيف يراوغ، يتملص، يكذب بصراحة تبعاً لعبارة لويس أراغون. قبل أن يسلم وييرغانس المخطوط للناشر اقترح العنوان ومرر خبراً مفاده أنه على وشك اتمام الرواية. ليس في هذا السلوك أي تصنع، بهرجة أو حب ظهور، بل ينم عن خصيصة ملازمة لطبيعة الشخص نفسه. سرب الكاتب الخبر منذ عام 2000 ومنذ ذلك التاريخ والأوساط الأدبية تتجاذب خبر صدورها الافتراضي، الشيء الذي دفع بالبعض الى اعتبار فرانسوا وييرغانس مجرد دجال، فيما أدرجه البعض الآخر في خانة الكتاب الذين نضب معين إلهامهم. حتى في حال ظهور الرواية فلن تكون سوى اصدار زائل، راهن عليه هؤلاء المنتظرون. لكن الحقيقة أن حالة فرانسوا وييرغانس تطرح اشكالية خطيرة يعيشها المبدعون الحقيقيون وذلك في منأى عن الاعتبارات المازحة أو الساخرة: عجز المبدع أمام بياض الصفحة. في حوار مع المجلة الفرنسية"لير"، اعترف فرانسوا وييرغانس بأنه غالباً ما يجلس الى مكتبه سبع ساعات أو ثماني من دون أن يكتب حرفاً واحداً! وحصل أن سود في عشرات المرات الفقرة نفسها مما دفعه الى اعتبار هذا العود أو التكرار والتسويد الى غاية إنهاك الحروف والكلمات، مدعاة للشك في قدراته الابداعية حيث اعترف مرة:"كل ما أكتبه سخيف ومن دون كثافة". اعتراف من هذا القبيل ومن كاتب اعترفت بفرادته أسماء لامعة مثل بيار كلوسوفسكي، رينه شار، فرانسواز دولتو، جيل دولوز، فيليني، جاك لاكان، لوي رينه دي فوريه لهو أكبر محير. ولكن عندما نمعن النظر جيداً في مسالك وييرغانس الشخصية والابداعية نقف على أن فكرة موريس بلانشو القائلة بالكتاب المستقبلي وبالموت الرمزي للكاتب تصدق تماماً على هذا الكاتب. الكتاب المستقبلي الذي يعلن عن مجيئه قد يأتي وقد لا يأتي، وعندما يبدأ في التحقق يأتي محفوفاً بالبياض. وبالتالي فعندما يحوّل الكاتب لحظة العجز الى لحظة خفة ومرح ولا معقول، يزج بمصير النص في مسلسل لا علاقة له بمعايير السرد الكلاسيكي الاستهلاكي. وهنا تميز فرانسوا وييرغانس في خريطة الأدب الفرنسي الراهن.