السيرورة الأساس في ما يشهده العالم العربي هي تفكّك المباني القائمة منذ استقلال الدول أو منذ انقضاء الزمن الكولونيالي. وعادة ما نُغرى برؤية الأمور بأفعال القلوب فنعكف على توصيف حسرتنا على أمجاد هذه الأمة التي يعتبرها البعض ذات رسالة خالدة. ولأننا نقرأ حالنا، وبمثابرة مثيرة للدهشة، بأدوات الأُمْنية ومن الذات السائلة نحو خارجها، فإننا نبقى في اسار المباني القائمة ذاتها ندور فيها وتدور في رؤوسنا كأننا قدرها وهي قدرنا. فلا زلنا نقيس ما يحدث بمفاهيم الدولة القومية وبنظريات تقادمت أو قصّرت وحدها في إدراك الحالة والإحاطة بها. فلا يمكننا اليوم، مثلا، فكّ لغز الأمة وحالها بأدوات الماركسية بما فيها الجديد منها، أي الطبقية والفاعل الاقتصادي في السياسة والهيمنة، فحسب. كما لا يمكننا أن نقرأ الواقع المتحرك والذي يسبقنا خطوات، بمعايير الدولة القومية أو أدوات الفكرة الديموقراطية أو الفكرة الليبرالية لأن هذه المباني في مواطن نشوئها وحيويتها تتعرض لتحوّلات جذرية. حتى قراءة تاريخانية من مدرسة العروي لا تكفينا وإن اقترنت بقراءة ثقافوية تنفذ إلى صميم"العقل العربي"المفترض عند الجابري يسائلها جورج طرابيشي أو هشام جعيط. كل هذه الأدوات لازمة لكنها لا تكفي لأنها تحاكم الحاضر بأدوات الماضي التي تقادمت ولأنها من حقب تجاوزها الزمن في حركته. نصرّ لدى قراءة حال الأمة العربية على أمرين: الأول، عدم الغرق في بحر التفاصيل لأنها تضيع السيرورة الأساسية حاملة هذه التفاصيل ومنتجتها . الثاني، إقامة الصلة الزمنية والسيرورتية بين ما يحصل للأمة العربية وبين ما يحصل من تحوّل كوني يسمّى العولمة وآثاره الواضحة على كل مجتمع ودولة. من هنا نحاول كغيرنا أن نقرأ ما نحن به وخياراتنا المفتوحة أو المغلقة، تبعا لزاوية الرؤية. وكما أسلفنا، فإن العالم العربي يشهد سيرورة تفكك مبانيه الموروثة عن مرحلة التحرر وإخفاق مشاريع النهوض والتحديث بعناوينها المعروفة، القومية والاشتراكية والوحدوية والبعثية والإسلامية. فمشروع الدولة القومية العربية أخفق تماما في الانتقال إلى حداثة معقولة بكل تبعاتها واستحقاقاتها فانكفأ على ذاته يفتّش عن مخارج من خلال تآكل فرضياته المتعلّقة بالإنسان وحقوقة وتأمين حاجاته وراحته وزهو خطابه. وفي ظلّ هذا التحوّل كان من الطبيعي أن يكرّس كل مورد وطاقة في حفظ النظام بمعنييه، كدولة وسلطة وكضرورة حياتية يفترضها مبدأ سيادة القانون على حساب الشقّ الثاني الأساس من المعادلة المتمثّل في المواطنين كأفراد أو مجموعات. إلا إن هذا المبنى بالذات، ورأيناه بصيغ متفاوتة القتامة لكن متعددة الضحايا في كل الدول والمجتمعات العربية، يتداعى أمام ناظرينا وبضحايا جدد يسقطون في بغداد أو بسجناء يصيب العطب أجسادهم في فلاة المغرب. يعني إن هذا المشروع الذي تعمّد بالدم وبغير وجه عدل لدى انبنائه وتطوّره، نراه يتعمد بالدم لدى تداعيه، أيضا، كمنشار الحطّابين يقطع بحدّيه! كل المشاريع التحديثية العربية انتُكبت بما نسمّيه"الثقافة الواحدية". وأنتجت مباني جامدة سرعان ما تتقادم لتتحوّل إلى مبان استبدادية وسجون واعتقالات ومناف. حضرت الدولة بكثافة وغاب الوطن. حضرت السلطة مدججة بكل العدّة وغاب المواطن. "القانون الداخلي"للحالة العربية لم يعمل على النحو المتوخّى منه. وعليه، أخفقت المشاريع كافة في تحقيق أمنية التحديث. لكن علينا أن نرى السيرورة الداخلية للحالة العربية في ظلّ ضغط السيرورة الكونية عليها. فالعولمة لا تحدث في مكان آخر أو خارجنا بل فينا وفي ثنايا وجودنا كدول ومبان ومنظومات وأنماط في الإدارة والتفكير. فالعولمة في جوهرها سيرورة عميقة التأثير يتحرك فيها مركز الثقل من الدول والحكومات إلى الكيانات المرئية، أو من قوة الدفع المرئية إلى قوة الدفع الخفيّة. فالأمور داخل الدول والمجتمعات أخذت تتحدد الآن بفعل الحركة الحرة للرأسمال عبر بوابات التجارة الحرّة أكثر مما تحددها الحكومات. أما الدول فتحوّلت أكثر فأكثر إلى شكل من"المقاولة الثانوية"لدى الشركات الهائلة الكبر الممتدة عبر الكرة الأرضية. فكأنها نوع من"إتمام المعاملة"لا بدّ منه كاستمرار لما كانته واعترافا أدبيا بها وبسيادتها وكرامتها. إنها سيرورة تذكرنا بتلك التي رافقت بروز الدولة القومية في أوروبا على حساب الكنيسة التي شكّلت مركز الثقل الأساس لقرون. فالدول التي سحبت منها موقع الصدارة لا تزال حتى يومنا هذا تفرز للكنيسة ومؤسساتها نسبة مئوية رمزية من مدخولات ضريبة الدخل، بعدما كانت هذه الضريبة تُدفع للكنيسة مباشرة وعلى مدى قرون. لم يعد بمقدور الحكومات أن تعتمد سياسات وطنية كحماية الاقتصاد أو إغلاق الحدود بالاتجاهين بالمطلق، لا أمام حركة المال ولا أمام حركة المواطنين والعمالة والهجرة، لأن العمليات الاقتصادية المتطلّعة إلى الحرية المطلقة فاعلة ومؤثرة في قرارات الدول والحكومات. ومن نافل القول إن ثورة الاتصالات فعلت فعلها، أيضا، في هدم المباني القائمة للدولة التقليدية القومية منها وغير القومية، وهتك المفاهيم المترتبة عليها وعلى الصُعد كافة. فلا الدولة كما كانت ولا علوم الدولة كذلك. في عصر الكيانات الكبيرة، الاقتصادية السياسية، يقلّ وزن الدولة كعامل منظّم ومصرّف لحياة المجتمعات. فيد الله الخفية تملكها لعبة الاقتصاد الحرّ لا سيما مصالح الكيانات الكبيرة غير المرئية. فهل صُدفة أن تنحسر الدولة القومية في أوروبا لصالح"الاتحاد"؟ ورغم كل مشاريع المواجهة داخل الدول للتعديلات الدستورية في الراهن فإن السيرورة الأساس تبقى نحو توسيع حدود الاتحاد، ليس في إطار التحوّل الداخلي بل كجزء من مواجهة تحديات تفرضها ضغوطات الخارج الأوروبي والمنافسة وفق لعبة جديدة. لم تقفز عنّا هذه التحولات في تغيّر مراكز القوة كونيا، ولم توفّرنا سيرورة تداعي الحدود والمباني المتوارثة بما فيها الدولة. والملاحَظ انها ضبطتنا كأمة متخبّطين في عزّ إخفاقاتنا. أي انها دهمتنا في مرحلة لا زلنا نسأل فيها سؤال الحداثة. تحولات ما بعد الحداثة والعولمة وطغيان الكيانات الكبيرة كلها جاءتنا في زمن لا زلنا فيه بغير أمن أو دولة معقولة. خرجنا من مواجهة الاستعمار وما زلنا نبحث عن التنمية والحرية والمواطنة. لا زلنا نبحث عن المواطنة المفقودة ساعين إلى إقناع الدولة بضمانها وتكريسها، وإذ بالتحوّلات الكونية تطالعنا راغبة في مصادرة الدولة ومنظوماتها. ومن هنا المفارقة في التقاء المواطن العربي ومؤسسات المجتمع المدني في مجتمعاتنا مع سيرورات كونية تتعلق بحماية حقوق الانسان وتكريسها قيماً شمولية عابرة للقارات. أي إننا في مسعانا إلى بناء الدولة الحديثة والمواطنة والديموقراطية الوطنية، في حدود الدولة، ورفع مستوى المعيشة على نهج سؤال الأمير شكيب أرسلان"لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟"ألفينا أنفسنا في مواجهة قوة دفع كاسحة تجاوزت أحلامنا هذه وأسئلتنا الرومانسية ومشاريعنا التي نراودها منذ مطلع القرن الماضي. وعليه، أجدُنا غير قادرين على مواصلة الحكم على الحالة أو تشخيصها أو وضع خطط للخروج منها بالأدوات السابقة المشار إليها في المقدّمة. لا يمكننا أن نتعاطى مع زمن الكيانات الكبيرة الممتدة عبر الحدود وتحتها بلغة الدولة القومية وخطابها وأنماطها. فترانا نلعن العولمة ومحصّلاتها غير قادرين على إدراك حركتها فنحتمي بالماضي من الحاضر واحتمالات الآتي. هذا فيما يستمر ضغط التحولات الكونية على الدول والأنظمة العربية كافة كل المجتمعات في العالم تتعرض للضغط ولكن كل منها في مستواه وموقعه أو بلغته، إذا جاز التعبير بغير استثناء مع تفاوت الشروط. لكن يطيب للأنظمة العربية، ومعها دعاة من اليمين واليسار على السواء، أن تربط بين هذا الضغط ذي الفاعلية الخاصة في العمق وبين الضغوط السياسية المباشرة من الدول المتنفّذة لا سيما الولاياتالمتحدة. وتشكل استراتيجة التعاطي هذه قصورا في أدوات التعاطي وتحويل التحدي الوجودي أمام العرب اليوم إلى تحديات سياسية مباشرة ومعلنة يقابلها الغرب بافتراض وجود"إرهاب دولي"تنبغي مواجهته. ومن هنا تقصر المسافة بين هذا وذاك فيطالعنا هنتنغتون بيُسر مستهجن بنظرية صراع الحضارات ويبزّه آخرون بطرح حتمية الصراع بين الغرب وبين الإسلام فإذا ب"شيطان الغرب"يستعدّ لمواجهة"شيطان الإسلام"أو بالعكس ! مهما سمّينا الزمن الذي نحن به فإنه ليس القضية ولا هو المذنب في ما أصابنا. فماذا يعني الزمن لو لم نكن فيه؟ هل أفادنا أن نسميه"الزمن الرديء"مثلا أو"الزمن الأميركي"؟ اليس في مثل هذه التسميات، لدى تكريسها، إعفاء للذات الفردية والجمعية من فعل عقلي؟ ربما علينا أن نعزف تماما عن أحلامنا الماضية لنصوغ أحلاما جديدة في شروط لعبة جديدة كل الجدّة حتى بالنسبة للمجتمعات القوية نفسها. وأشير هنا إلى التحديات أمام"الأسطورة الأميركية"ممثلة مرة بالصين ومرّة باليابان وثالثة بأوروبا الموحّدة. يمكننا أن ندرك ما يحصل إذا ما عقلناه بأدوات العصر الذي يحصل فيه. وفي العولمة تتعزز الكيانات الكبيرة وتنحسر تلك الصغيرة، تتداعى الحدود والمباني الموروثة كلها لتنشأ أخرى جديدة. والاعتراف بهذا التحول بداية لإدراك وجهة حركته.