لا شك في ان انهيار البرجين التوأمين في نيويورك، صورة ثبتتها الشاشات أمامنا فور التقاطها، هو حدث مبلور ومصمم لهوية الانسان على الحدود بين قرنين. ومنذ ذلك التاريخ /الحدث الصانع لوعي جديد - 11 ايلول سبتمبر 2001 - والدنيا تعيش مفاعيل هذا الحدث، ترقص رقصها المجنون، تعطي للروايات بشأن "المبتدي والمنتهي" ولتنبؤات نوستراداموس وقصص جدتي رحمها الله اثباتاً تلو اثبات. فكل حدث يرد الى حساب الاحرف والاشارات، وكل حرف الى فلك او جرم سماوي، وكل جرم الى مدار، فيصير بالامكان الامساك بالنهاية بالاصابع، او الوقوف على حافتها، على مرمى نارها او جنتها. ومع كل الود الذي أكنه للماورائيات وللشطحات خارج التاريخ، لا أزال ارجح تفسير ما حصل ويحصل بغير أدوات الغيب، وان لوت جدتي عنقها غير راضية او مستنكرة. وعلى رغم هذا وذاك لا يمكننا الا ان نستحدث ادوات جديدة لقياس الهزة التي حصلت في مفاهيم اعتقدنا انها واضحة او نهائية، مثل الدولة وما تعنيه من منظومات وعمليات صنع القرار، وحقوق الانسان، والقوة، والفقر والارهاب، والحرب. لا يمكننا القول ان ما حصل من انهيار بالبث المباشر هو وحده الذي احدث الهزة. فقد انطوت سيرورة العولمة على عوامل دكت اسساً وهزت بنى وهيكليات وانشأت اخرى او لم تنشئ. إلا أن ما حصل صعقة توجت هذه العوامل وصنع العالم من جديد على نحو مغاير، او انها اعلنت ما كان مستتراً من تحولات تكتسحنا من آخر الارض الى اعمق غرفة في النفس. سقوط الحدود اذا كانت العولمة مدت حدود الدولة الى حيث مصالحها ومصالح شركاتها وتحولت الدولة على نحو سافر الى اداة لدى الشركات وأرباب المال، فإن أحداث 11 ايلول 2001 بينت ان امتداد الدولة على طول خطوط الكرة الارضية وعرضها وفقاً لتحرك الدولار او الأسهم في البورصات، لم يحل دون ان يكون المواطن فيها عرضة لانتهاك حقوقه وأمنه وسلامته من خلال ارهاب يوازي العولمة في امتداده، وبأيدي سلطة تحاول ان تتقي ضربات جديدة من هذا "الارهاب". فإذا كان في اساس العقد الاجتماعي توفير الأمن لشركائه من المواطنين، فإن الدولة وان عظمت، اخفقت في تحقيق هذه الامنية الحق، وأظنها عاجزة، من قبل بحكم المافيا المنتشرة في مدن بكاملها، في دول بكاملها، ومن بعد بفعل عنف سياسي يسمى في ما مضى، ثورة وتحرراً ومقاومة، ويسمى الآن ارهاباً. كانت العولمة داست حدود الدولة وسيادتها وقوضت هيكلياتها، من خلال اخضاع كل ما فيها لربح او خسارة، وزعزعة ما سميناه "دولة الرفاه". وهذا لا يعني في جوهره الا سقوطاً لخيار الدولة والمعاهدة الاجتماعية التي تقوم على اساسها. والخصخصة رديفة سقوط "دولة الرفاه" هي السيرورة التي استلطفناها احياناً، وطبعنا علاقتنا بها في غير مكان حصرت الموارد العامة ووسائل الانتاج والثروة في ايدي قلة سيطرت على الدولة واحتكرتها فماذا يعني ان يصير الانسان فريسة العمليات الاقتصادية على مرأى ومسمع من الدولة وبموافقتها من حيث استغلاله ومن حيث مردود هذه العمليات. فلنفترض ان الخصخصة اجتاحت فرنسا من نورماندي حتى الريفيرا واكتسحت في طريقها كل مكتسبات الانسان في فرنسا، فهل تبقى فرنسا فرنسا! الكيانات الكبيرة، الشركات العابرة للقارات، المؤسسات المالية، اتحادات وتحالفات واتفاقات التجارة ومنظمات اقتصادية، كلها تجاوزت الدولة وصارت المحور الذي تدور عليه دورة الحياة بالنسبة للمجموعات والافراد. وصار من غير المفيد تحليل الامور وقياسها محلياً واقليمياً داخل الدولة وفي المنطقة بعد أن ضاعت حدود الدول أو تلاشت لحساب الكيانات الكبيرة في الطريق الى العالم الدولة. التدقيق في المصطلح من ناحية ثانية مصطلح الديموقراطية صار بحاجة الى تدقيق في رسم المدلول والمعنى بعدما فقد المعنى. فاذا افترضنا ان النظام الديموقراطي شراكة في الحكم، في توزيع الثروة العامة، في اقتسام السلطة او التداول عليها، فان الكيانات الكبيرة على وكلائها في كل دولة ودولة صادروا من السلة، المدلولات، الشراكة والمساواة واقتسام الثروات العامة. وعليه فان ما يحصل الآن من طغيان للكيانات الكبيرة ومصادرة للدولة الديموقراطية بهذا المفهوم. فاذا كانت التسعينات الاولى شهدت سقوط الاشتراكية السوفياتية كنموذج ليعلن فوكوياما نهاية التاريخ فان ما يحدث الآن ينهي التاريخ للمرة الثانية باسقاط الدولة بمفهومها الديموقراطي، فقوى الانتاج والتسويق تجاوزت كل حد متخيل وكل تصور مسبق عن امكاناتها وتشكلاتها واحجامها بحيث تصير الدولة الآن حراثاً او مرابعاً عندها... في كثير من الدول المتطورة وتلك المتخلفة، تملك الانشطة الاقتصادية أجهزة أمن وحراسة خاصة بها، وقد تكون كارتيلات المخدرات مثالاً واضحاً، لكنها ليست وحدها في هذا الكار. فلدى الشركات الكبيرة او ارباب المال شبه ميليشيات مهمتها ليست حماية الاملاك فحسب، بل قمع تظاهرة نقابية او كسر اضراب عمالي. الا ان مثل هذا التطور في حدوده المحلية داخل الدولة نشهده في المستوى الاقليمي والدولي بحيث صارت الجيوش النظامية تكلف بحماية مصالح الكيانات الكبيرة يتم تجييشها وحشدها وتمويلها من هذه الكيانات. وكذلك مراكز الابحاث الاستراتيجية والاجهزة الامنية. فاذا كانت الدولة هي التي اعتادت ان تستثمر هذه الاجهزة الايديولوجية لتكريس سلطتها فان الكيانات الكبيرة صارت تعتمد الامر ذاته على حساب الدولة أو ضدها، فإذا ما تتبعنا الحرب على العراق واقتطاع أجزاء منه، ثم الحرب على افغانستان، فلن نضطر لبذل جهد خارق لنكتشف ان هذه الحروب لم تأت الا في اطار العلاقات وتوازن القوى بين الكيانات الكبيرة، ولن تنتهي دورة مثل هذه الحروب الاقتصادية في اساسها عند هذا الحد. يتسع نفوذ الكيانات الكبيرة على الخط، وهي رويداً رويداً تصادر الدولة ومدلولاتها المعروفة، فاذا راقبنا مثلاً عمليات اتخاذ القرار في ما يتعلق بحروب مدمرة كارثية تحصل الآن في دول ديموقراطية وفق كل المعايير المعروفة، لرأينا اننا نعدم التفسير المنطقي لهذه الحروب وهذه الكوارث، افغانستان مثلاً! كيف يمكن، هكذا انزال مئات آلاف الاطنان من النار والكبريت والموت فوق افغانستان وقراها وبلداتها وشعبها، من دون ان يقدم احد حساباً على آلاف وربما عشرات الآلاف من الضحايا الابرياء بامتياز! والذين لا ذنب لهم سوى انهم يعيشون في افغانستان، هذا البلد الفقير، الا من تراثه وماضيه؟ كيف يمكن التسليم بهذه السهولة، بأن قرى ابيدت وحيوات أهدرت خطأ؟ كيف؟ سوى ان حياة البشرية الآن محكومة لمفاهيم القوة التي تدوس، ليس الأفراد فحسب، بل الدول ايضاً. اذن، حتى عمليات اتخاذ القرار والمحاسبة في الدول الديموقراطية فقدت معناها اذا كانت لا تختلف في مؤداها عن تلك في الدول التي عرفت ديكتاتورية أو دول طُغمة عسكرية. فاذا كانت الدولتان تصلان في نهاية المطاف الى النتيجة ذاتها من البؤس، فإننا نكون حيال سقوط الديموقراطية وانتصار الديكتاتورية! وإلا كيف يمكن تفسير حقيقة ان رئيساً متوسطاً كبوش لا تتعدى ملكته اللغوية بضع عشرات من الكلمات يقود العالم الى منتهاه؟ وكيف يستطيع هو وإدارته التي لا يختلف رموزها عنه في شيء من حيث ضحالة قواميسهم واللغة على ألسنتهم ان تلعب العالم على اصبعها الوسطى؟ الطامة الكبرى هي ان في هذا العالم الواسع الارجاء ملايين على ملايين من الذين يعرفون كل ما اكتب الآن، غالبية عظمى من الذين ينشطون في الحيز العام المحلي والدولي مدركون لحقيقة اننا حيال كوارث جارية ومحتملة منبعها هذه الضحالة، وهذا البؤس الناجم عن مفاعيل الكيانات الكبيرة… ويعرفون ان الدولة سقطت وتسقط وستسقط امام سنابك خيل العولمة وسيرورات الاقتصادات الهائلة الحجم، ولكن يسيرون معها ويتدافعون الى وسط المسيرة او مقدمتها. أو أنهم لا يأتون بحركة… ربما ان المصالح والتوازنات كبرت بحيث ان الدول كلاعبين في الساحة قصرت عن التأثير عليها، او انها عاجزة تماماً عن ذلك، وعجزت، ربما، ادواتنا عن ادراك اننا حيال نهاية الدولة… يغريني في النهاية ان اكتب على نهج ما نعتقد اننا نعرفه، وهو انه لا يمكن ان تحدث في الفضاء الانساني سيرورات باتجاه واحد فحسب، وان ما يحصل مستوى ما، يوازيه في الحصول ويناقضه في المؤدى امر يحصل في مستوى آخر، ومن هنا يمكن ان ينفتح باب للتفكير بأن العالم لا يسير الى منتهاه، وان الدولة لم تسقط بعد، لكنني حذر ان اذهب من هذا الباب لانه في عهد الكيانات الكبيرة ومفاعيلها صار علينا ان نفكك البديهيات من نظرياتنا وامهات قناعتنا… وهنا، قد نكون امام بداية جديدة للتاريخ الذي سيتحرك من الآن فصاعداً على نحو لم نعهده! فما حصل هو ان الكوابح التي انتجها المجتمع البشري بعد الحربين الكونيتين في النصف الاول للقرن العشرين بهيئة الاممالمتحدة ومؤسساتها ومواثيق واعراف واحكام القانون الدولي ومؤسسات التحكيم آلت الآن إلى ادراج الارشيف، ويبدو اننا ابتعدنا بما فيه الكفاية عن وقائع الحربين وفظاعتهما كحدثين صمما وجدان البشر - ربما ليس كلهم - لعقود وصار بالامكان ان نبدأ كل الفظائع من جديد، سيما ان كل العالم مكتسح بسيرورة العولمة التي تفكك كل ما عرفناه. وعليه لن تفيدنا في هذا السياق قدرة الارادة على التفاؤل. * أكاديمي فلسطيني - دالية الكرمل.